مسرحية “أبو الثوار” .. أجرأ رسالة للحكام العرب

شيخ جليل يراه شباب الثورة المصرية في منامهم، لا يعرفون من هو ، ولماذا يشعرون في عينيه بالحكمة العميقة التي خلدها الزمن، ثم إذا بهم يفاجأون به من لحم ودم ماثل أمامهم، في ثوب عربي بسيط وعمامة محكمة فوق رأسه تشي بأنه قادم من عصور تليدة .. جاءهم وهم مهمومون بثورتهم التي أسقطت الرأس الفاسد مبارك ولا تدري كيف تستكمل الطريق خاصة في ظل هجمات فلول النظام السابق على أي محاولة للنجاح وتطهير البلاد وتمكين الشعب ..

يجيء الشيخ ليخبر هؤلاء أنه قادم من ثورة قديمة في عهد الخليفة الجليل عثمان بن عفان .. كانت ثورة قد قادها بنفسه ولم تنجح في توفير العدالة للشعب الفقير الكادح وانتزاع حقوقهم من الأغنياء وذوات القربى بالسلاطين ..   

ثم يدرك الشباب أن الماثل أمامهم ما هو إلا الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري، خامس من دخل الإسلام، وصفه الرسول بالصدق والتفرد، وقال عنه “رحم الله أبا ذر  .. يمشي وحده ، ويموت وحده ، ويبعث وحده “

 

وبالفعل فقد عاش أبوذر في الشام في عهد الخليفتين أبوبكر وعمر رضي الله عنهما، ثم استدعاه الخليفة عثمان رضي الله عنه بعد المشادات التي دارت بين أبي ذر ومعاوية في الشام، فقد كان ينكر على أصحاب رسول الله اكتناز المال وطلب السلطة، وأصبح الناس يلتفون حوله وهو يلقي قول الله تعالى : « والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله، فبشرهم بعذاب أليم ».


بشر أبوذر بثورة في الشام ضد اكتناز مال الفقراء، وكان يقول دوما : عجبت لمن لا يجد قوت بيته ، كيف لا يخرج على الناس شاهرا سيفه” ويعني أن يغضب من يغتصب حقه .. وفي المسرحية يدرك الشباب المصري الذين جلسوا مع أبي ذر أن الثورة قديمة ضد الظلم ، وأنها تحمل نفس المطالب والتي تحولت اليوم إلى “عيش .. حرية .. كرامة إنسانية وعدالة إجتماعية” .


وأبطال القصة المسرحية، هم الشباب كريم مغاوري وعبدالعزيز التوني ورحاب عرفه .. وهؤلاء يسألون الصحابي أبا ذر الغفاري، والذي جسد دوره ببراعة الممثل القدير حلمي فودة ، يسألونه عن سر مقولته أنه جاء إليهم لتكتمل الثورة ..

ويجيبهم “أبو ذر” إلى أنه كان يدعو الأغنياء لإعادة حقوق الفقراء من أموالهم التي يكنزونها حراما ، ويغضب حين يرى ذوي القربى من خليفة المسلمين كمروان بن الحكم أو الحكم بن أبي العاص يحصلون على الولاية والمال ، ووصل لأن أغضب عثمان بمجاهرته بشيوع الفساد بين أصحاب الرسول ..


لكن ما جرى أن ثورة أبا ذر لم يكتب لها النجاح، لأنه لم يحشد الناس حوله وكانت دعوته محصورة غالبا في النخبة التي تملك وتحكم ، كان يشبه قائدا بلا شعب يقود الثورة وحده .. وظل شريدا .. رفض تولي أي إمارة ولكنه مع ذلك حين دعاه متمردو الكوفة للثورة على عثمان، ولعلمه بصلاحه الشديد قال : “والله لو أن عثمان صلبني على أطول خشبة أو جبل ، لسمعت وأطعت واحتسبت” .


مات أبوذر بالربذة بالصحراء بعيدا عن أصحابه .. وقد انتقل إليها بطلب منه أو من الخليفة لا نعلم حتى الآن .. ولم يصل عليه من أكابر الصحابة سوى عبدالله بن مسعود رضي الله عنه .


ويدرك الشباب أبطال العمل المسرحي أن ثورتهم كانت تنتظر قائد عظيم كذلك الرجل الورع التقي، وأنه كانت ثورته تفشل لعدم وجود الناس حوله ..   

المسرحية حافلة بالأغنيات التي تمتزج بمشاهد حية من الثورات العربية وشهدائها الأبرار وجرحاها، والتي امتازت بالصدق الشديد وألهبت الحماس بقاعة مسرح الهناجر الذي يستضيف العرض هذه الأيام . وتنطلق الأغاني بعبارات منها “عيشي يا ثورة ولفي الكون .. مين يقدر يحبس مليون ” أو أنات حزينة لأم شهيد تقول “بعتب عليك يا بني” اختطف من أحضانها في الميدان.


يقول أبوذر للشباب وقد اصطحبوه لميدان التحرير : في زماننا يا أبنائي .. كان الفقراء يزرعون ثم يأتي الأغنياء فيقطفون الثمر لأنهم يملكون الأراضي .. ثم يدفعون بالفقراء وحدهم للجهاد خارج البلاد .. من أجل ذلك كان لابد من الثورة .. ثورة ضد بعض الولاة الذين لم يحسن عثمان اختيارهم . 

يشعر الشباب بالخوف من نقد الصحابي لسياسة عثمان عليه السلام، ويقولون أن في زماننا مثل هذا النقد قد يتهم صاحبه بالتهجم على الرموز الدينية، فأجابهم الشيخ بأن ليس كل عابد زاهد يصلح كحاكم ، وقد قاوم بطانة الخليفة وحاشيته الذين لم يقتدوا بهدي الرسول “ص”، فشاهدنا خراج خيبر يذهب لمروان بن الحكم رغم أنه كان وقفا قبلها، وكذا عمرو بن العاص، كما أعطي زيد بن ثابت مائة ألف درهم ، وحين تحدث أبوذر جرت فتنة ، كان يحدثهم بأنه “ما من نعمة موفورة إلا وجوارها حق مضيع” .


المسرحية تستعيد بتقنية الفلاش باك مشاهد تاريخية من عهد عثمان عليه السلام، حيث التجار في الأسواق يشكون الكساد، ويقولون أن السبب فيه هو فقر الرعية وعجزهم عن الشراء، وقد كانوا يجلون خليفتهم ويخافون في الوقت نفسه من حاشيته من أن يعاقبوهم لو حشدوا للثورة ضدهم . . 

وهناك مشهد آخر لقصر خليفة المسلمين يظهر به ظله وهو يتعبد بينما يقوم مروان بن الحكم بالتصدي لعبدالله بن مسعود منفردا، وكان بن الحكم بن عم عثمان ، ومشهور بالجشع والفساد، وكان كاتبا للخليفة عثمان وزوج ابنته، وفيما بعد عزله الإمام علي كرم الله وجهه ، فساند مروان في الحرب ضده . 

ويظهر بالمسرحية تصدي مروان والذي يلعب دوره الممثل الشاب خالد النجدي، وتصدى الرجل لعبدالله بن مسعود ويجسد دوره بالمسرحية الشاب شريف صبحي، وكان بن مسعود أمينا على بيت المال وأحد الصحابة المشهورين بالورع ، وقد رفض طلب عثمان بالصمت عن طلب رد مال اقترضه إبن عم عثمان وأحد الولاة، فعاقبه بن الحكم بالعزل من منصبه وإقصائه . 

المسرحية مأخوذة عن رائعة ممدوح عدوان “كيف تركت السيف” والتي عرضت بدمشق، وجاءت بإشراف البيت الفني للمسرح برئاسة ناصر عبدالمنعم، وقد ألف العمل الكاتب محمد حسين وأخرجه ياسر صادق، أشعار خميس عز العرب، وموسيقى كريم عرفة .   

وفي نهاية العمل  نشاهد أبا ذر (فيديو) وهو يجوب ميدان التحرير العارم بالثورة، يباركهم ويستدعي ما قاله له الناس في ماضيه “كنت تقول الحق وحيدا .. فضاع الصوت بعيدا” ، وقائلا للناس أن الله يرث الأرض ومن عليها ولا يجب أن يتركوها بعد اليوم لمن لا يرعى حقها، ويقول أن الحقوق تؤخذ ولا تطلب والحرية والكرامة والعدالة .. حق .   

بين المشاهدين..


أثنى الشاعر إيهاب عبدالسلام على العمل من الناحية الفنية ولكنه في حديثه لـ”محيط” انتقد الجانب الفكري في العمل الذي يجعل سيدنا عثمان عين أقاربه في الولاية ، وهي مغالطة تاريخية حيث أن هؤلاء معينون منذ عهد الخليفة أبوبكر، وكذلك فقد كان يعطي الولاة من ماله الخاص وليس من مال المسلمين، واعتبر أن المسرحية كتبت بنية حسنة ولكن يمكن استغلالها من قبل مريدي المد الشيعي الذي يشوه خلافة سيدنا عثمان ويقرب من الصحابي أبوذر وحكم الخليفة علي كرم الله وجهه .


ومن جهته رحب الدكتور أسامة أبوطالب أستاذ المسرح بجهد فريق العمل بالمسرحية واعتبرها وجبة فكرية وفنية ذات جودة عالية وتعد مولدا حقيقيا لكاتبها.   

مع المؤلف ..


مؤلف العمل محمد حسين فقال أن شخصية أبوذر الغفاري يلقب بأبوالثوار ومع التماس الزمني بين الماضي والحاضر وجدنا أن نفس المطالب في كل زمن، وقد كانت ثورة يناير جسدا بلا رأس وثورة الغفاري كانت رأس بلا جسد  . والقائد يمكن أن يكون هدف موحد أو فكرة وليس شخصا بالضرورة ، وبالتالي فالرسالة أن الإلتفاف حول الفكرة يكمل نجاح الثورة .


وبمواجهته بانتقادات العمل من الناحية التاريخية والتي تؤكد أن به تشويها لحكم عثمان، فقال أنه اعتمد على مصادر تاريخية موثقة ومنها مروج الذهب للمسعودي وابن كثير وكتابات بن تيمية، وانتقد بداية الترسيخ للدولة الأموية التي تورث الحكم، من خلال مروان بن الحكم في عهد عثمان بن عفان ، وكان بيده مقاليد الدولة  .


وقال المؤلف محمد حسين أنه لا ينتقد شخص الخليفة عثمان بن عفان ولا ورعه وتقواه ولكنه ينتقد الأجواء السياسية في عصره .    

سألناه هل المسرحية ترمي لحكم الرئيس مرسي في استحضارها لخلافة حاكم صالح كخليفة المسلمين عثمان بن عفان؟ فقال أن الرسالة واضحة وأن الحكم لا يزال مبكرا على عهد مرسي، ولكن الرسالة التي قالها أبوذر الغفاري، وهي أن الذين يكنزون الذهب والفضة لهم عذاب أليم، ويمكن أن يتعظ بها أي حاكم.  وقال أن مصر قوية ولا يمكن لأي فصيل سياسي أن ينتقص من حرية الناس في التعبير .


التاريخ ..  رؤية مغايرة

..   توجد روايات صحيحة الأسانيد صريحة في أن عثمان لم ينف أبا ذر إلى الربذة ، و إنما هو الذي اختارها مقاما له بمحض إرادته دون إكراه من أحد . نذكر منها أربع روايات ، أولها في سير “أعلام النبلاء” للحافظ شمس الدين الذهبي أن أبا ذر الغفاري-رضي الله عنه -استأذن الخليفة عثمان ـ  في الخروج إلى الربذة فأذن له ،


و ثانيها ما رواه ابن سعد في طبقاته “أنه لما استقدم عثمان أبا ذر من الشام إلى المدينة ، اقترح عليه أن يبقى عنده ، فأبى و قال له : لا حاجة لي في دنياكم . ثم قال له : ” إئذن لي حتى أخرج إلى الربذة )) فأذن له عثمان بالخروج إليها ، وكذلك ما رواه ابن حبان من رواية مماثلة..


فهذه الروايات  ذات أسانيد صحيحة ، و تبين بجلاء أنه لم يحدث أي إكراه ،و لا إهانة من عثمان لأبي ذر –رضي الله عنه  – ، و لا فيها أنه منع الناس من أن يكلّموه ؛ بل فيها المشاورة و السمع و الطاعة ،و الإجلال و الإكرام له .

كتب  – شيماء عيسى وعمرو عبدالمنعم

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *