المسرح اللبناني الجديد يكسر جليد الرهبة

لم يعد المسرح في لبنان فنا مجلوبا أو مستوردا، صار طالعا من حياة الناس وحاجاتهم وله طرقه وابتكاراته في معالجة مشاكلهم. هذا ما يؤكده فنانو فرقة

«زقاق» للمسرح الذين شكلوا ما يشبه مختبرا متنقلا، من خلال ورش عمل مستمرة، وحلقات نقاش وكتابة وتمثيل، يشارك فيها كبار وصغار، نساء معذبات، مدمنون، مساجين. كل الفئات المجتمعية مهمة لبلورة صيغ تعبيرية مسرحية جديدة ترد على حاجات الناس ومتطلباتهم.

 

الفرقة لم تولد من فراغ، فقد خرجت من رحم الانقسامات السياسية عام 2006 التي تلت اغتيال الرئيس رفيق الحريري ومن ثم من تجاربها مع مئات النازحين اللبنانيين من الجنوب إثر الحرب الإسرائيلية المجنونة على لبنان في العام نفسه. وفي عام 2007 إثر معارك مخيم نهر البارد الشرسة وتشرد آلاف العائلات الفلسطينية باتجاه مخيم البداوي، ذهب هؤلاء الفنانون لملاقاة الأطفال النازحين، ومساعدتهم على التعبير عما رأوه وعانوه. في كل مرة كان الشبان ينتقلون إلى مكان مأزوم، يجدون أنفسهم في مواجهة تحديات جديدة، لاختبار وتطوير أشكال مسرحية طارئة، تتناسب والحاجات المستجدة. وبالتالي عملوا مع شباب محتجزين، مع أطفال ذوي إعاقات، مع نساء تعرضن لعنف منزلي، وآخرين كسرهم مجتمع لا يرحم، أو قهرتهم حرب لا تذر.

تشرح مايا زبيب من فرقة «زقاق» لـ«الشرق الأوسط» أن العمل تطور بعد ذلك ليشمل المدارس والقرى والمخيمات الفلسطينية: «وذهبنا إلى حيث لا يصل المسرح». هاجس كسر الحواجز بين الناس والمسرح، بات يراود الكثير من الفنانين بعد أن تضاءل عدد رواد المسارح التقليدية العادية. هؤلاء اختطفتهم السينما أو سرقهم التلفزيون، لا أحد يعلم لكن المؤكد أن المسرح بمعناه الذي شاع في ستينات وسبعينات وثمانينات القرن الماضي، لم يعد قادرا على إعالة نفسه.

الفنانة المسرحية اللبنانية عايدة صبرا مشغولة هي الأخرى بالتفتيش عن صيغ أخرى. وتطرح أسئلة مشابهة لتلك التي تؤرق فرقة زقاق: «ما الذي يريده الجمهور؟ ما هي حاجته؟» وتقول لنا «أنا نفسي أبحث، وأحاول أن أقدم في كل مرة جديدا، أن أبتكر صيغا تجذب الجيل الجديد. كلنا نجرب. بالتأكيد الأمزجة تغيرت كثيرا، وما عاد بمقدور المسرح أن يبقى على ما كان عليه، لا بد لنا من أن نقتحم تجارب لم نخبرها من قبل». عايدة صبرا تجريبية من الدرجة الأولى، هي إضافة إلى أعمالها المسرحية المبتكرة، تقيم ورشات عمل للعلاج بالدراما، ولإطلاق القدرات التعبيرية عند من يشعر بحاجة لذلك سواء في عمله أو في حياته اليومية.

الذين فكروا في الخروج من تقليدية العمل المسرحي وإشراك الجمهور لا بل وتوريطه في عملية الخلق، باتوا عدة، من بينهم لوسيان بورجيلي الذي قدم «مثلنا مثلك» القائم على إشراك الجمهور في التمثيل بطريقة ارتجالية، في اختبار عفوي للقدرات الأدائية للحاضرين كما تشجيعهم على تجاوز ذواتهم في لحظات تجل. والمفاجأة كانت الإقبال على العمل وتمديد فترة عرضه، العمل الثاني لبورجيلي الذي استند أيضا على إشراك الناس في التمثيل بعفوية وارتجال، وإن بطريقة مغايرة، حمل اسم «ماتش أسود أبيض» وكان له صدى كبير أيضا. من هنا وجد بورجيلي كما غيره من الفنانين الذين عاشوا التجربة، أن التمثيل يغوي الكثيرين، الذين يتمنون أن يعيشوا التجربة ولو لدقائق معدودة، وهو ما يفسر المتعة التي عبر عنها المشاركون مع بورجيلي.

فرقة «زقاق» من ناحيتها تعتمد المشاركة أيضا لكن لها أسلوبها، وما تطمح إليه هو أن تقدم أعمالا تبلورت من حياة الناس وهمومهم، كي يشعروا بأنها قريبة إلى أرواحهم. مايا زبيب، من مؤسسي الفرقة وهي تحمل شهادة ماجستير في صناعة فنون العرض من جامعة غولدسمث في لندن، وحائزة على دبلوم دراسات عليا في الإدارة الثقافية من جامعة برشلونة. وهي تخبرنا أن الفرقة المكونة من ستة أشخاص، في الوقت الحالي، متمسكة بالمسرح كأداة تعبيرية لكنها تريد أن تصل إلى ابتكاراتها من خلال أساليب البحث الجماعي. تقول مايا «ما يهمنا هو أن نقوم كمجموعة بعمل عرض مشترك، ليس عندنا مدير، والمسؤولية نتحملها مداورة، ونحن نساءل أنفسنا باستمرار، ولكل منا اختصاصه المختلف عن الآخر، مما يجعلنا نتكامل».

في شقة صغيرة تستأجرها الفرقة ثمة استوديو صغير يتسع لما يقارب 50 شخصا. في هذا المكان الحميم، تقام تمرينات وعروض وورش عمل، لقاءات حوارات. أعضاء الفرقة كلهم في الأساس من خريجي الجامعة اللبنانية، وإن أكمل بعضهم دراساته في جامعات أخرى. تعمل الفرقة بما يتوفر، فالتمويلات الثقافية في لبنان دائما أجنبية، لكن مايا تلفتنا إلى «أن الفرقة واعية تماما لما يحتاجه مجتمعها، نحن نطرح شروطنا، ولا نقبل إلا ما يناسبنا، ونرفض أي تمويل يقترن بما يتعارض وتوجهاتنا».

من «هاملت ماشين» إلى «مشرح وطني» و«تدريب على الطاعة: لوسينا»، وغيرها أعمال كثيرة قدمتها فرقة زقاق مثبتة رغبتها في التجديد المتواصل. وجاءت أنشطة «أرصفة زقاق» لتجعل الفرقة في حالة توثب دائم. بحيث استطاعت الفرقة أن تقيم منصة دائماة تلتقي عليها التجارب العالمية والعربية، من خلال استقدام فنانين كبار ومهرة في ميدانهم، ليقدموا عروضهم، ويقيموا ورشات عمل، ويتحاورون مع فنانين يشاركون في الورش وكذلك الجمهور. ضيوف من خلفيات فنية متباينة وثقافات متباعدة، يقدمون أعمالهم في أماكن متعددة في بيروت. فقد قدمت المسرحية البريطانية موجيسولا اديبايو على سبيل المثال، ورشة عمل حول الأداء التمثيلي والكتابة للمسرح. المسرحي الأميركي الشهير بيتر سيلرز كان أيضا ضيف أرصفة زقاق، وهو المعروف بأعماله المعاصرة، واطلاعه الواسع على عروض متعددة الثقافات من صينية وهندية وغربية، وولعه بعادات وتقاليد الشعوب. سيلرز صاحب المبتكرات الفنية التي لا تنتهي جاء إلى لبنان لينقل مهاراته لفنانين متعطشين لكل جديد، كما ألقى محاضرة، وأجاب على أسئلة الحاضرين. ومثله فعلت الهندية روزينا جيلاني، في ورشة عمل وتدريب ومحاضرة ونقاش، حول العروض الهندوسية للتاميل في جنوب الهند.

هذه التجارب تقول مايا زبيب «تقدم للفنانين، ولمن يريدون المشاركة في ورش العمل، مقابل أسعار زهيدة، تحقيقا للتواصل بين الفنان اللبناني وما يحدث في العالم». فالمسرح بات منصة فنية صالحة لدمج كل المهارات، وربما لحل الكثير من المشكلات الاجتماعية والثقافية.

الكلام المتكرر على «موت المسرح» في العالم العربي لا يروق لمسرحيين شباب، قرروا أن يتخذوا من «أبو الفنون» عملا ومهنة وشغفا. من هنا، لا يبدو أن نصيحة المخرج اللبناني جلال خوري لطلابه، التي أطلقها ذات يوم، بأن يغيروا اختصاصهم، ويذهبوا إلى مهنة أخرى تؤمن لهم سبل الحياة، وجدت صدى لدى أعداد تتزايد في أقسام الفنون، والمسرح جزء منها. لكن ما يحدث أن المسرحيين باتوا ينظرون إلى مهنتهم من زاوية تجعلها تنخرط ليس فقط في مجال الإمتاع ولكن في ميدان المنفعة العامة أيضا.

 

بيروت: سوسن الأبطح

http://www.aawsat.com/

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *