مسرحة اليومي عند المخرج مهند هادي ( 2-2)

في مسرحية  حظر تجوال ، نجد أنفسنا أمام جدار كبير بنوافذ ، تقطع المشهد بقصدية سينمائية هي ذات القصدية التي يشتغل عليها المخرج ، نشاهد رأس الممثل من

النافذة العلوية ، وأقدامه من النافذة السفلية وكأنه شخص  من عالم آخر بطوله الذي يمتد على طول الجدار، شخوص تتمدد مثل أحلامها. يتحول الجدار تارة الى بيت بنوافذ عديدة ، تحاول إعمار الشخصيات منه لإنقاذ ما تبقى، نوافذ تبوح بالمسكوت عنه بواسطة صراخ الشخصيات وعريها الاجتماعي، وتارة أخرى الى جدار يفصل الشخصيات عن حياة تنتظر حتفها بسيارة مفخخة في شارع مزدحم . شخصيات مهمشة في بلد يمطر نفطا. مغيبون أو مقصيون من الحياة  ، لكنهم إنسانيون بقلقهم الالهي على بعضهم البعض، يعملون وسط شارع يحتضن موتهم المنتظر ، وليس هناك سوى قنينة العرق مساءً التي تنسيهم مشاهد الدم المسفوك نهارا. اذا هناك توظيف دلالي للكتل الكبيرة ، حتى باتت صغيرة جدا إزاء ما يحدث من تدفق بصري على الخشبة ، علامات  سياسية في عرض صادم جماليا وفكريا.

أما في مسرحية (كامب) تحولت الجدران الى أبواب  يتوسطها شباك كبير ، وكأنه تلفاز نشاهد حطامنا الإنساني فيه ، عُرينا ، همنا ولهاثنا في الهروب من بلد الخسارات المتكررة ، وكأن المتفرج المسرحي جالس في بيته ويستمع الى مصادر قلقنا الأزلي بواسطة الشخصيات التي تتواجد مشهديا بداخله. شكلت الأبواب بؤرة التمركز الدلالي للشخصيات من خلال تكرار الحركة والفعل وجمودها وكأننا أمام حياة  رتيبة معطلة للأفراد داخل مجتمع ، وما الأبواب إلا لتعرية أصحاب الأبواب المغلقة من قبل الساسة، فهم المسؤولون عما يحدث للشخصيات داخل الشباك / الحياة / المجتمع ، فتحول الشباك الى تلفاز يعرض لنا مأساة الشخوص من خلال عملية البناء والهدم التي اعتمدها المخرج والذي اتبع ذات الطريقة السينمائية بالقطع والتركيب / الهدم والبناء المشهدي للحدث والشخوص. 
لم تحول تلك الكتل الديكورية الكبيرة عائقا او مصدر قلق لوحدة العرض ، بل تعمل بقصدية مشهدية واعية لم يعتد عليها المسرح العراقي ، بعد ان ظلت كتلة جامدة دون حراك لسنوات طويلة. أصبحت السنغرافيا عند صاحب تجربة مسرحة اليومي ( مهند هادي ) تحديا كبيرا في كل عرض مسرحي جديد يحمل اسمه ، من خلال سعيه لصدم المتفرج بكل ما هو جديد وغير متوقع، لان السنغرافيا تشكل في تجربته عنصرا مهما ورئيسا في تجربته الإخراجية التي استطاعت تتخذ لها طريق التفرد والتميز عن المكرر والسائد في العرض المسرحي العراقي.

الفعل التمثيلي
كيف السبيل لتلمس الاشتغالات  التمثيلية لـ ( رائد محسن وسمر قحطان في مسرحية حظر تجوال) او ( حسن هادي ولبوة عرب والآخرون في مسرحية كامب) أو (فلاح إبراهيم وسمر قحطان والآء نجم في مسرحية قلب الحدث) ؟ونحن لا نستطيع إخراجهم من داخل المنظومة البصرية للعرض ، خضوع التمثيل للرؤية الإخراجية حال دون ذلك ، رغم قدراتهم التمثيلية العالية .    حيث   اتخذ الممثل في مسرح اليوميات وظيفة أخرى وهي وظيفة سيميولوجية بامتياز : حامل للعلامة/ العلامات داخل العرض المسرحي، فإذا كانت اللغة / المفردة علامة تحيل الى صورة ذهنية عند المتلقي ، فلابد من وجود الوسيط لتصل ماهية الخطاب اللغوي ،  وجود حامل تفرضه شروط العملية الإرسالية بين المرسل والمرسل إليه، وهذا ما امتاز به  الممثل عند مهند هادي ، الذي خلصه من  تراكم كلائشية الأداء والمبالغة  في الفعل والعملية الإرسالية للمنطوق اللفظي. لأن مسرح اليوميات يحمل منظومة ارسالية هائلة ومتكاملة ومن الصعب طغيان عنصرعلى عنصر آخر , وهنا نعني ( الديكور ، الإضاءة، الممثل ، الأزياء ، الموسيقى، الإكسسوارات ) ، فكل واحدا  من هذه العناصر له قصديته الاشتغالية ، ( الحقيبة ، الصحيفة في مسرحية قلب الحدث ) لا يمكن الاستغناء عنهما ، كونهما  مركزان مهمان في سياق الحدث والعرض.  ادوات غسل السيارات ، وصندوق تلميع الأحذية (  في مسرحية حظر تجوال )علامات ثقافية وبيئية تشير الى الشخصيات ، فلا تكتمل منظومة العرض إلا من خلال عملها المشترك مع شخوصها ، وهنا تحول الممثل الى حامل للعلامة و وسيطا في الوقت ذاته لنقل ثقافة  و وظيفة الشخصية التي يلعبها. والشيء ذاته ينطبق على مسرحية كامب وعناصره ، علامات لشخصيات تعيش بيننا. منظومة علاماتية تعمل بديناميكة عالية الدقة والحرفية داخل العرض المسرحي، تحول الممثل من عنصر مهيمن في العرض يسعى لاستثارة الحس العاطفي عند المتفرج، إلى وسيط/ حامل لمنظومة العلامات بين العرض والمتلقي، ويخضع لآلية الاشتغال اللغوية والبصرية التي خطط لها المخرج ونحن هنا أمام عقلية واعية تعرف ما تريد إيصاله بدون شحنات عاطفية تستجدي عطف المتلقي ، بل عقلية تريد استفزاز مخيلته ، وعيه ، وإقلاقه فكريا من خلال زخم العلامات التي يبثها العرض بسلاسة بواسطة الوسيط / الممثل. وهذا ما يحسب لقدرات الممثلين الذين استطاعوا التماهي مع العناصر البصرية الأخرى دون تكلف بالأداء أو إنشاءات حركية تقوض القصدية الدلالية لماهية الرسائل التي يبثها العرض والتي حملها الوسيط/ الممثل بأمانة خلاقة.
لهذا لم نشاهد الممثل بمسرح اليوميات ، ممثلا متوترا انفعاليا ، وان كان كذلك فانه بقصدية التهكم والسخرية على الحدث كما في مسرحية ( قلب الحدث) وشاهدنا فيها كيف لجأ الممثل لاستعارة الطريقة التمثيلية الشائعة في الستينات والسبعينات من خلال المبالغة وتفخيم الإلقاء وكثافة الإشارات. فقد كان  نسقا علاماتيا ضمن  المنظومة البصرية ، فكل شيء محسوب بدقة وعناية فائقة ، كل شيء له دلالته ، حركة اليد وعملية التدخين في مسرحية كامب وكذلك حركة الأرجل المتعاقبة والمستمرة . الدوران المستمر للشخصيات وتوقفها فجأة على شكل صورة بدون حوار في مسرحية قلب الحدث ، وتعامل الممثلين مع الضوء وخطوطه الحادة في مسرحية حظر تجوال، كل ذلك كان بقصدية علاماتية وليس شكلا وفعلا طارئا . ولهذا كان الممثل جزءا مهما من أجزاء التشكيل الحركي والصورة البصرية التي ينشدها العرض. لان الحكاية التي يفترضها صاحب مسرح اليوميات حكاية بسيطة من الشارع العراقي ، حكاية نعرف كل تفاصيلها لكننا نجهل كيف نحولها الى مسرح او نعيد صياغتها فنيا و جماليا. من هذا المنطلق امتلك مسرح اليومات سمات وجوده ورسوخه في تاريخ المسرح العراقي ، حتى اصبح انعطافة مهمة في التجارب المسرحية المغايرة. يعتبر مهند هادي امتدادا حقيقيا لاصحاب الانعطافات المهمة في تاريخ المسرح العراقي ، فإذا كان إبراهيم جلال في ستينات القرن الماضي غير شكل المسرح العراقي جماليا من خلال توظيفه للمسرح الملحمي في بيئة عراقية ، و اشتغال قاسم محمد في السبعينات على التراث والموروث ، و سعي صلاح القصب في الثمانينات لترسيخ مسرح الصورة ، فإن الألفية الجديدة حملت لنا مهند هادي  مخرجا لاتجاه مسرحي جديد و هو :  مسرحة اليومي أو مسرح اليوميات .

 

أحمد شرجي

http://www.almadapaper.net

 

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *