ذكريات ضاحكة في زمن الدموع

كان معظم الناس الذين كتبت عنهم وعرفتهم عندما مضيت إلى القاهرة بعيد الحرب العالمية الثانية، من الشخصيات المعروفة في عالم الأدب، وكان من بينهم الدكتور طه حسين وتوفيق الحكيم ومحمود تيمور، وآخرون لا تزال أسماؤهم حتى اليوم معروفة لأولئك الذين يهتمون بالطريقة التي أصبح بها الأدب العربي الحديث معروفا ومشهورا خارج حدود مصر والعالم العربي بصفة عامة.

ولكن هناك شخصا من بينهم كان في تلك السنوات الباكرة نجما لامعا، ولكنه اليوم يكاد لا يكون معروفا لدى الأجيال الجديدة، وهو نجيب الريحاني. والسبب في ذلك يرجع إلى أنه بينما كان المسرح في عام 1946 في مصر أو على الأقل في القاهرة – مؤسسة فنية مزدهرة .

وقد بدا أن مستقبلا عظيما ينتظره، فإنه من سوء الطالع أنه في الفترة المنقضية ما بين ذلك الحين والوقت الراهن، أوشك المسرح في مصر على التوقف تقريبا. وربما يمكن أن يقال إن مصر قد أصبحت بدلا من ذلك بلدا رائدا في إنتاج الأفلام، خاصة وأن التلفزيون أصبح رائجا في العالم العربي.

لم يكن هذا النجم كما أشرت، سوى نجيب الريحاني الذي يعد بالتأكيد النجم الأكثر تألقا في عالم المسرح في مصر. وعلى الرغم من أنني قد شاهدت العديد من المسرحيات وهي تقدم على خشبة مسرح الأوبرا – وهو مسرح لم يعد له وجود اليوم – فقد وجدت أن الفرقة المسرحية المصرية حقا، هي فرقة نجيب الريحاني التي كانت تقدم أعمالها الكوميدية بالعامية المصرية في مسرح الرئيس في شارع عماد الدين بقلب القاهرة.

وفي كل مرة حضرت عرضا يقدم في ذلك المسرح، كنت أصبح أكثر اقتناعا بأن نجيب الريحاني ممثل كوميدي ينتمي إلى أفضل فئات الممثلين التي يمكن أن توجد في العالم الغربي، وقد تأثرت كثيرا بموهبته المتألقة.

قاد خطواتي الأولى إلى هذه المسرحيات صديق لي يدعى فؤاد منيب، كان هو نفسه ممثلا شابا، وقد عملت أمه ماري منيب على امتداد سنوات طويلة في فرقة نجيب الريحاني، وكانت النجمة الأولى في الفرقة.

وأتذكر أنني قد حضرت تقديم إحدى مسرحياته الأخيرة والأكثر نجاحا، والتي كانت عملا كوميديا يحمل اسم “سلاح اليوم”، وقد وجدت أن هذا العمل بمثابة سخرية رقيقة من الظروف التي كانت سائدة في مصر الحديثة في ذلك الوقت.

كان نجيب الريحاني نفسه يقوم بدور الشخصية المحورية في هذ المسرحية، وهي شخصية شاب عانى من البطالة ويواجه صعوبة في العيش في مواجهة ضائقة مالية. ولما لم يكن أمامه أي سبيل للقيام بأي شيء آخر، فقد دأب على التجوال في شوارع القاهرة ومقاهيها محاولا بيع نسخ من بعض الكتب، وينتهي به الأمر عبر الكثير من الخداع والتحايل، إلى الحصول على الكثير من المال، ويصبح بالفعل المدير الثري لأحد أكبر البنوك في المدينة.

وفي نهاية المسرحية، وبعد أن يكون قد أفلح في إنقاذ نفسه من مواجهة الاتهام بالاحتيال على نطاق واسع، يوضح نجيب الريحاني للجمهور ما هو “سلاح اليوم”. فالصيغة البسيطة للنجاح في الحياة ماليا، هي أنك إذا كنت ستسرق فعليك بالسرقة على نطاق واسع، وعندما تسرق رغيف خبز، تذكر أن تأكل نصفه أو ثلاثة أرباعه فقط، وأن تعطي الباقي للشخص المناسب الذي سيغدو عندئذ مدينا لك.

ويشعر بأنه مرغم على مساعدتك عندما تكتشف الشرطة حقيقة ما كان يجري، وتوشك على أن تقاد إلى ساحة المحكمة، وأن يحكم عليك بالسجن مدة طويلة جزاء وفاقا للطريقة التي قمت بها بخداع الناس وأصبحت مصرفيا ثريا.

سرعان ما ربطت عرى الصداقة بيني وبين نجيب الريحاني، وسمعت منه كيف قطع مشواره في عالم المسرح ليصبح النجم الأكثر بريقا فيه. وقد حدثني بأنه في عام 1914، كان من حسن طالعه أنه فقد الوظيفة التي كان يعمل فيها كمستخدم بسيط في شركة تعمل بالضواحي. وهكذا قرر المضي إلى القاهرة والبحث عن وظيفة مثيرة للاهتمام، وتوفر له دخلا كافيا ليتمكن من العيش بصورة مريحة على نحو معقول.

وقد تصادف أنه كان يهتم بالمسرح المصري اهتماما نابعا من الهواية، وكان المسرح في ذلك الوقت يغدو أكثر رواجا وجماهيرية، ومن حسن طالعه أنه كان يعرف أحد أصحاب الأسماء الرائدة في عالم المسرح في ذلك الوقت، وهو جورج أبيض الذي قبله للعمل ممثلا في فرقته.

حدثني نجيب الريحاني بأن مصر في ذلك الوقت كانت تحت التأثير الثقافي الفرنسي، وأنه قد طلب منه التمثيل في مسرحيات مترجمة من الفرنسية إلى العربية الفصحى، وسرعان ما أصبح جليا أن الريحاني ليست لديه موهبة في مثل هذه النوعية من التمثيل وتم طرده. وفي وقت لاحق تم إقناعه بالقيام بدور شرطي فرنسي، ودهش عندما وجد أن المسرح كله يضج بالضحك بسبب الطريقة التي جسد بها تلك الشخصية.

وبعد ذلك بدأ نجيب الريحاني في كتابة وتمثيل إسكتشات ضاحكة، كان يكتب نصفها بالعامية والنصف الآخر بالفرنسية. ومن الطبيعي أن تنشأ مفارقات قائمة على سوء الفهم من هذا الخليط من اللغتين، وتوفر نطاقا عريضا للفكاهة. وفي هذه الاسكتشات قدم الريحاني لأول مرة شخصية كشكش بيه، وكانت هذه الخطوة ناجحة للغاية، ومنذ ذلك الحين اعتمد على القيام بالشخصية الرئيسية في مسرحيات قصيرة تتألق فيها شخصية كشكش بيه.

لم يكن نجيب الريحاني يكتب هذه المسرحيات فحسب، وإنما كان ينتجها أيضا. وقد أصبحت منطلقا لمسرح مصري خالص، وهو المسرح الذي كان على الدوام الأولوية الأولى في حياته المهنية. وفي وقت لاحق قدم أحد اسكتشاته التي تجمع بين العربية والفرنسية، على مسرح الأوبرا، وسرعان ما أصبح الريحاني وكشكش بيه جزءا لا يتجزأ من مسرح عربي جديد أصيل.

دنيس جونسون ديفز

 

http://www.albayan.ae

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *