مسرحة اليومي عند المخرج مهند هادي

لم تشهد تجربة مسرحية عراقية في السنوات الأخيرة  اهتماما وجدلا كبيرا مثلما شهدته تجربة المخرج مهند هادي ، لأنها اتخذت لنفسها خطا مغايرا لم

 

تألفه الساحة المسرحية العراقية من قبل ، من خلال ارتكازها على المتداول اليومي . تجربة تشكل انعطافة مهمة في مسيرة المسرح العراقي ، الذي أصابه الترهل والتكرار في علاماته وموضوعاته. اتسمت اغلب العروض المسرحية العراقية بالدموية بالمعنى الآخر للمفردة ، ذاكرة حرب/ حروب ، عروض عنيفة ، قاسية لغويا وبصريا وهذا نتيجة ما رسخته الحروب في الذاكرة الجمعية للفرد العراقي. فالجندي عنصر مشترك في اغلب العروض وكذلك ثيمة الحرب التي حملها الخطاب اللغوي، حتى أصبح تكرارا للعلامات في العروض، واستثارة الجانب العاطفي عند المتلقي بواسطة الخطاب اللغوي وكلائشية أداء الممثلين

تمثل تجربة المخرج مهند هادي مفصلا مهما في تاريخ المسرح العراقي، والتي بدأت بعد سقوط النظام السابق في نيسان 2003 . وكأنه جاء بشكل آخر سقطت معه الكثير من التكلسات والترسبات التي التصقت بالمسرح العراقي قبل 2003. أعد لنا هادي درسا جماليا أخاذا اطلعنا عليه نظريا ، فكانت عند هادي دروسا عملية من خلال عروضه المسرحية والتي اتسمت بالبساطة والسهل الممتنع بدون تعقيد علاماتي او فكري تصعب من مهمة المؤول وقراءة المنظومة اللغوية والبصرية. 

مسرحة اليومي…. مسرح ما بعد 2003
ينتمي هادي إخراجيا لما بعد هذا التاريخ ، بعد إن قدم العديد من التجارب المسرحية كممثل إن كانت أثناء دراسته في معهد الفنون الجميلة بغداد، أو خارج نطاق الدرس الأكاديمي مع الكثير من المخرجين منهم احمد حسن موسى وكاظم النصار وآخرين.  انعكس اشتغاله التمثيلي على طريقة تفكيره وتعاطيه مع العرض المسرحي فيما بعد، وكأنه هضم كل اشتغالات المسرح العراقي من خلال تراكم تجربته التمثيلية ، لكنه إخراجيا لا ينتمي إلا لتجربته الشخصية ، تجربة لا تتشابه مع تجارب الآخرين ، بل العكس تتقاطع تماما معها إن كان على مستوى الشكل البصري أو مستوى الموضوع ، حيث كتب كل تجاربه بنفسه . العرض عنده فكرة سينغرافية تتشكل عليها الحكاية، عندما يكتمل الشكل البصري يبدأ بنسج خيوط حفره المعرفي داخل بنية المجتمع العراقي ليجتر منها مادة العرض . اقترح هادي منهجا جديدا لتجربته المسرحية ، منهجا خاصا به ، ولد من اليومي العراقي ، تراكماته السياسية والاجتماعية والاقتصادية ، نستطيع أن نطلق عليها (مسرحة اليومي ، أو مسرح اليوميات) لأنها تناولت هموم وشخوص الشارع العراقي ، وبمعنى آخر ما يحدث بالشارع العراقي بكل تناقضاته  السياسية. تجربة مسرحية تدون انعكاسات التغير العراقي سياسيا ، تلملم شتات الشارع / المجتمع ، وتحوله الى علامات ثقافية ، لغوية ( لهجة) ، فيكون كل شيء على المسرح علامة كما يقول ( يان ماكاروفسكي). حديث بسيط أو حديث يومي يتداول على الأرصفة أو على المقاهي ،  لا نستطيع ان ندونها كتابة فتكون موضوعا لعرض مسرحي بجمالية عالية كما في مسرحية ( كامب)  وظف الحديث العراقي اليومي على أرصفة دول الجوار عن اللجوء والتقديم الى مفوضيتها السامية ، حديثا يوميا سبب قلقا كبيرا لمتلقي العرض المسرحي ، عندما حولت السينغرافيا المسرح كله الى أبواب يلجا إليها العراقي أينما ذهب ، وكأنها أبواب السموات التي يريدها ان تفتح له. الأبواب المشرعة للزيف والمتاهات .  أبواب يتحول فيها اللاجئ الى رقم في ملف يحفظ داخل خزانة خلف جدران تقرر مصير حياته وانهزاماته وانكساراته المتكررة. تحولت خشبة المسرح الى أبواب مشرعة للخروج والدخول المستمر لحركة شخوص الحدث، يفتح هذا ويغلق ذاك بانضباطية مشهدية عالية الدقة، تعمقها فكريا جمود الحركة/ موتها على الأبواب / الأرصفة. وكأن الحياة معطلة، ميتة بلا حراك طالما مصيرها بيد الآخرين ، الذين لا يعون حجم الكارثة.
تجربة مختلفة ومغايرة من ناحية الاشتغال ، تمتد جذورها للبحث الانثروبولوجي من خلال الغور في الشخصية العراقية ، من ناحية سلوك الشخصيات. أراد لأبطاله ان يكونوا من المهمشين ، او الذين يعيشون على هامش الحياة العراقية ، المغيبون، نراهم في يومياتنا ، لكننا نسقطهم من تفكيرنا عند الحديث عن مشاكل المجتمع، وكأنهم لا ينتمون إلينا ولا ننتمي إليهم، فلم نسمع لهم رأيا أو تصورا إزاء ما يحدث داخل البلد. حتى فرض علينا (حضر التجوال) التعرف على هذه الشخصيات من خلال ( غاسل السيارات ، وصباغ الأحذية) وتداعيات الاحتلال الأمريكي على هذه الشخصيات.لأن ما حدث عام 2003 ترك أثره على الجميع، هدمت البيوت على رؤوس أصحابها ، فكيف  يكون حال أناس سقفهم غيمة ؟  وحياتهم ترتبط بالموت المجاني الذي تحصد فيه السيارات المفخخة حياة الأبرياء ، من إذا لهؤلاء المغيبين؟ 
يستمر البحث الانثروبولوجي لمسرح اليوميات وصاحبه في مسرحية ( قلب الحدث) ، حيث شاكس الشخصيات وانتقل بها الى عالم الأموات فكلهم جاءوا لهذا المكان نتيجة انفجار سيارة مفخخة ، وهذا ما يشير إليه العنوان ، فنحن في قلب الحدث. يقرأ احدهم خبر موته في الصحيفة، ترى من يكون هو( المفخخ) ام ضحيته ، حتى تكشف لنا الشخصيات صراعها على بطولة مجانية أو إزاحة تهمة تفخيخ السيارة التي جاءت بهم جميعهم الى هذا المكان، معادلة صعبة ، كحال المعادلة العراقية التي ترفض القسمة على اثنين. ما يحسب لمهند هادي اشتغاله في منطقة مسرحية جديدة وبكر في التجربة المسرحية العراقية. لم يهمش الخطاب الجمالي والبصري على حساب السياسي ، ولا العكس أيضا، و لم يذهب العرض الى مباشرة وعظية ساذجة، بل حريفا في تقديم الوجع العراقي بابتسامة تشعر بألمها. عمق فكري شفيف و موجع، المراهنة فيه للفكر وليس لاستثارة الحس العاطفي عند المتلقي.       
تعتبر تجربة مسرحة اليومي  أو مسرح اليوميات،تجربة مشاكسة ان كانت على مستوى النص ( باعتباره مؤلف كل تجاربه) كفعل أولي، او على مستوى العرض وتأثيثه لفضاء العرض وتشكيل منظومته العلاماتية والبصرية، علامات تستطيع تفكيكها وفق معادلاتها الجبرية، لانها جزء مهمش من ذاكرتنا الموغلة بالألم والحزن اليومي . لملم شتاتها مهند هادي لعيدها لنا عروضا مسرحية عالية الجمال .والاهم البحث عن مقترحات جديدة على مستوى الديكور وعدم سكونيته طوال العرض المسرحي رغم كتله الكبيرة.

الفعل السينغرافي
اعتمد هادي في كل تجاربه المسرحية على الكتل الكبيرة ، بحيث تغطي المسرح بأكمله ( الجدار في مسرحية حضر تجوال، والأبواب في عرض كامب ، والجدران السود/ الكواليس في مسرحية قلب الحدث).  وإضاءة بيضاء تميل الى الصفرة بحيث تحول قطع الديكور والممثل الى أشكال نحتية .رغم حجم كتل الديكور الكبيرة والتي من المفترض ان تكون عائقا أمام انسيابية الحركة ، لكنها كانت ذات دلالات مهمة  داخل العرض ،كونها جزءا مهما من فكرة العمل ، بل تصبح أكثر أهمية من الممثل ذاته داخل نسيج العرض . وهذا ليس تجنيا على الممثل ، كونها تشكل بؤرة التمركز الدلالي لاشتغال منظومة العرض البصرية والعلاماتية. كتل متحركة ، تتحول بدلالات مختلفة حسب ما أراد لها المخرج. فالجدران في مسرحية قلب الحدث ، تمثل مدن المجتمع العراقي التي تحولت الى جدران إسمنتية اضمحلت فيها معالم المدنية والمدينة في عراق ما بعد 2003،  جدران تخنق المدينة قبل المواطن ، وهي العلامة الأكثر تحولا داخل العرض ، حتى أصبحت لنا فريمات سينمائية تتشكل وفق آلية المونتاج السينمائي التي وظفها هادي بحرفية عالية، والتي اعتمدها بتقطيع سريع للانتقال من عالم المدينة الآني الى العالم الآخر ( عالم الأموات)، تتحرك بجمالية وانسيابية عالية ، ويدير الحدث غريب بملابس تنتمي لزمن آخر وبيده حقيبة ويوزع ابتسامته على الجميع. فأصبح صاحب الصورة والمسيطر على حركتها يوقفها متى ما يشاء. حتى أصبح الممثل جزءا من حجم اللقطة ( المشهد) داخل العملية المونتاجية للعرض. وهذا ما ذهبنا إليه بأهمية الكتل الكبيرة إزاء دور الممثل الذي يعيش بداخلها، عمقها الدلالي والفكري أكثر أهمية لحسه العاطفي الذي جاء في خدمة السينغرافيا ، وليس العكس لأنها علامات ثقافية وبيئية ذات حمولات فكرية كبيرة ، تنشد التفكير العميق إزاء التشكيل البصري الذي أراده المخرج. تتحول الى شخوص تؤدي دورها وفق اشتراطات الصورة البصرية للمشهد.

 

أحمد شرجي

http://www.almadapaper.net

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *