«نهارات علول» عرض ينحاز إلى الحلم النقي ضد الشراسة

يمكن وصف عرض “نهارات علول” الذي شاهدناه مساء أمس الأول بقصر الثقافة بالشارقة، ضمن عروض الدورة الثالثة والعشرين من أيام الشارقة المسرحية، بأنه عرض ملأ الفراغ النسبي للأعمال المتكاملة التي افتقدناها لزمن، والتي تجتمع فيها شروط التميز والتوهج نصا وإخراجا وأداء وسينوغرافيا وتلألأ في التشكيل البصري الباذخ والسخي الذي يجعل المتفرج مسكونا بكل التفاصيل والابتكارات المشهدية الممنوحة له، كما أنه عرض أعاد البهجة ليس لأيام الشارقة فقط، ولكن لكامل المشهد المسرحي في المكان.

 

 

تضامن وامتنان

صفق الجمهور طويلا للعرض بعد انتهائه، وكان هذا التصفيق الحارّ ّومعه دموع الممثلين وعاشقي المسرح في الصالة والمغسولة بالفرح والنشوة الداخلية، وكأنها تبعث بإشارات تضامن وامتنان وإعجاب بما قدمه المخرج حسن رجب، والمؤلف مرعي الحليان، وكامل الطاقم الفني والأدائي لفرقة مسرح الشارقة الحديث، والتي كوّنت هذا المانيفيستو المرئي والديناميكي المتشبّع ألما وشفافية وإبداعا، وانحازت فيه لكل المهمشين والمسحوقين في عموم الأزمنة والأمكنة، أولئك الذين يقودهم حلمهم النقي، لمقاومة كل ما هو شرس وعدواني ومظلّل لإنسانية الإنسان، ولكل ما هو ممزّق لخبز الحرية ومائها وهوائها.

فمن هذا المبدأ حصرا ومن هذه النقطة بالذات يتأسس نص مرعي الحليان في “نهارات علّول” على فكرة مفادها أن الرصاصة التي لا تميت، تتحول إلى شظايا من نور، وأن القسوة التي لا تهزم الروح، تجعل البحث عن الخلاص فعلا جماعيا زاهيا ومنذورا بوعود خضراء أينما حلّت هذه الوعود وارتحلت.

ومنذ الدقائق الأولى للعرض يلقي حسن رجب ببعض المفاتيح المشهدية اللامعة فوق الخشبة، وكأنه يمهّد لمغامرة مسرحية فائرة بالصور والخيالات ومتجاوزة لمغامراته السابقة في فضاء متعدد الأطياف، طالما عشقه حسن، وشغف به لحد العطش، والبحث عن ينابيع جديدة يروي بها بحثه ونهمه المتواصل في هذا الحقل الفني الشائك والفاتن أيضا.

فخلف ألواح السيليلويد المصفوفة بشكل هندسي متناغم نرى ظلالا لمجموعة من المهمشين والمشردين وهم يرمون بعلب الصفيح الفارغة على أرضية الخشبة، وكأنهم يرمون بأحلامهم التالفة في صحراء الأرق، وفي المشهد التالي نراهم وهو يئنون ويتأوهون ويغالبون النعاس في رغبة جماعية للنوم، وهي رغبة لن تتحقق في هذا المناخ المشحون بالخيبات والكوابيس.

وفي الكادر الأيمن من الخشبة نرى الصعلوك والمتشرد (علّول) ــ الفنان جاسم الخرّاز ــ وهو يحاور صديقه المتشرد مثله ــ الفنان أحمد ناصر ــ الذي يشاركه همّ الإقصاء والنبذ الذي يعيشانه دون مبرر منطقي ودون مسوغات واضحة، ونستمع لعلول وهو يقول لصديقه “من الصعب أن تفارق مهدك، حتى لو كان هذا المهد مسورا بالجحيم”، ويتشارك الاثنان في عبارة يملأوها الاحتقان الذاتي، تقول “إلى متى نموت، كما تموت الصراصير العفنة تحت الأقدام”، وينتقل بنا المشهد بعد ذلك إلى لقاء مستتر بعتمته يجمع بين علول، وحبيبته (علّاية) ــ الفنانة بدور الساعي ــ التي تعمل خادمة في القصر الكبير، وتخاف أن يراهما الحارس ــ الفنان باسل التميمي ــ فيطلق عليهما النار، ولكن علول يرفض أن تفارقه الحبيبة بهذه السرعة، ويشير إلى افتقاده لمساحة الحب والعيش السوي من أجل تكوين عائلة تجمعه بمن اختارها قلبه، وسرعان ما يتبدد هذا الحلم عندما يفاجؤه حارس القصر بطلقة، تضعه في منطقة عجائبية بين الحياة والموت، فالرصاصة اللعينة ــ كما يعبر عنها علول ــ لا تقتله، كما أن حركتها المستمرة في أجزاء مختلفة من جسده تصيبه بحالات غريبة ومتناقضة من الألم والدغدغة والضحك والصراخ والتلوّي والتأرجح بين ضفتي البقاء والفناء، تدفع هذه الحالة الغرائبية التي تصيب علول، إلى تمسك علاية به أكثر، فيذهبان بخيالاتهما الفائضة إلى مشهد افتراضي مزدحم بالأطفال ــ الذين يستعيض عنهم المخرج رمزيا بمخدات النوم ــ حيث يرغب علول في أن يحقق كل طفل ما عجز هو شخصيا عن تحقيقه وسط مجتمع محاط ومحاصر بالجهل والأمراض والخوف والآلام الحاضرة والمتحققة.

من جانب آخر نرى الصعاليك والذين يصفهم العرض بـ “الحرافيش” ــ ويجسّدهم هنا الممثلون : محمد جمعة، ومحمد بن يعروف، وسامي القطان، وعمر داوود، وخالد المرزوقي ــ وهم يتجمعون حول علّول وينعتونه بالرجل المبارك وصاحب الكرامات منتظرين منه معجزات تخلصهم من وضعهم المزري الذي لم يستطع واقع الحال المحيط بهم أن يخلصهم منه، ولكن علّول يرفض هذا التبجيل ويطالبهم بتغيير الوضع المحبط والكاتم على صدورهم، طالبا منهم أن يملأوا الفراغ من فوقهم وأن يزيحوا الخوف عن طريقهم، يرفعوا هاماتهم، ويقول لهم : “ رصاصاتهم لا تقتل، بل تموت فينا”.

الفرجة

في النصف الثاني من العرض وفي نقلة ذكية من المخرج لتنويع مساراته ومساربه، تتأسس الحالة الفرجوية على مواقف كوميدية لن تخل بدورها من مرارات مبطّنة، حيث نرى القاضي ــ الفنان جمال السميطي ــ ومعه المحامي ــ مرعي الحليان ــ وهما يدخلان في إشكالات ومفارقات متباينة وعبثية مع الجنود ــ الفنانان يوسف الكعبي، وحميد عبدالله ــ ومع حارس القصر تحديدا، ويتفقان في النهاية على تبرئة الحارس، وإعدام علول الذي يرفض جسده الموت، بطلقة ناجزة ومميتة هذه المرة.

وفي مشهد الختام نرى علول ممدا على أرضية الخشبة من إثر الطلقة الثانية، وجموع الصعاليك تتناوب على رمي العلب الفارغة فوق جثته، ولكن المفاجأة تتواصل عندما نرى جسد علول ينتفض من تحت ركام العلب وخرائب اليأس، ويعلن ولادة الأمل من جديد، وأن رصاصات الطرف الأقوى، ستبقى رصاصات مهزومة على الدوام عند اصطدامها بجسد يتكاثر وجسم يتوالد في جسوم عديدة، لا يستطيع الآخر أن يصفيها كلها، ولا أن يحرمها من حق مشروع، وتطلّع نبيل، أو يعزلها عن حلم فائض يتجدد ويتناسل كل يوم.

لقد جاء أثر الطلقة هنا رمزيا فلم نر دماء ولا جرحا نازفا، كما أن الطلقة ذاتها كانت صامتة في دلالة إلى معنى أشمل لا يخصّ علول وحده ولكنه يشير إلى المجاميع المقهورة التي تشبهه، وهو معنى عميق أيضا لا يخصّ الطلقة في ذاتها ولكنه يحيل على منظومة شاملة من القمع والكبت والمصادرة الضاغطة على أنفاس المهملين والمنسيين والمدفونين أحياء في تراب أوطانهم.

النص والإخراج والتمثيل

أحيا عرض “نهارات علول” أو احتضاراته المعلّقة إذا شئنا ، الكثير من البشارات المسرحية التي خفت وانطفأت لفترة في المشهد المسرحي المحلي، حيث رأينا مرعي الحليان في هذا النص المكتوب بالفصحى، أكثر انتماء لهاجسه الشعري والحميمي الذي يقرأ الألم في وجوه الآخرين، ويستشعر العذابات في مكمن الروح ودهاليزها، وتميزت المعالجة الإخراجية لحسن رجب بالكثير من التكنيكات الاحترافية المبهرة والمعبرّة عن حساسية خاصة تجاه وظيفة الإضاءة، وجمالية الكادر السينمائي وطاقة اللون في اللوحة التشكيلية، مرورا بالسينوغرافيا النابضة بالتعابير والمتمثّلة في لجوء حسن رجب للعبة الظلال ومزج الواقعي بالمتخيل اعتمادا على الدمى والتجسيمات الكاريكاتورية التي منحت العرض أبعادا موصولة بأبعاد النص ومستوياته ومثرية أيضا للتأويلات المتشعبة في ثنايا هذا النص، وكان اللجوء لخيار المؤثرات الحية من خلال همهمات الحرافيش المستضعفين واستخدام آلة (الطنبورة) الشعبية، واهتزازات (المنيور)، خيارا موفقا أشاع في فضاء العرض نوعا من الشجن أو الأسى المواكب والمتداخل مع عذابات علول، الأمر نفسه ينطبق على الممثلين الذين تفوقوا على أنفسهم وأبانوا عن مرونة جسدية لافتة، وتقمص للشخصيات في حالات صعودها وانكسارها، وإعطاء كل مشهد ما يستحقه من انفعالات حارة ومتدفقة وقارئة لقيمة الحالة الدرامية وتأثيرها.

إبراهيم الملا (الشارقة)

http://www.alittihad.ae

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *