مسرحية «زيت وورق» حينما يثور المثـقف على الورق

هل من الممكن أن يتحوّل المثقف إلى ثوري حاقد على ورقه الذي طالما قدسه؟ ومتى يمكن أن يحوّله الانكسار والضعف إلى ظالم ومتجبر؟ هذا ما تطرحه مسرحية «زيت وورق» للمؤلف والمخرج علي جمال، التي قدمتها جمعية حتا للثقافة والفنون والتراث، العرض الذي وصفه النقاد والمسرحيون بـ«العرض المحترم».

قدم العرض شتاء مؤلماً وخريفاً منكسراً قاد إلى ربيع ثوري رغم قسوته، فعلى الرغم من البساطة التي ظهرت على الخشبة، إلا أن هذه البساطة، والتي حضرت في كل جزء من العمل، كانت أحد أهم جماليات العرض المسرحي، خصوصاً ما رسمته الأوراق والحبال المتدلية من أعلى خشبة المسرح من دهشة جعلت المتفرج يدخل في خيال المخرج، لاسيما بوجود أداء عال من الممثلين علي جمال وعبدالله سعيد.

«أردت أن أشعل الزيت لأفضح الورق»، هذا ما أراده المؤلف في نصه، فكان له ما أراد وإن كانت الحقيقة مؤلمة، إلا أن تصديقها أمر حتمي ولا مفر منه، فالصديقان قررا أن يهجران قريتهما بحثاً عن المجهول في «غياهب الحياة»، وهي مدينة سمعا عنها ولكن لم يجدها أحد، ولعل حالة الضياع بحثاً عن الأمل أفضل بكثير من حالة القمع والبطش الممارس عليهما في مدينتهما، وهنا تبدأ رحلة البحث عن «الأرض الطيبة».

مشهد صامت

تبدأ المسرحية بمشهد صامت يعكس حالة الانتظار والترقب الطويل للصديقين، وسط غابة تغطي أرضها أوراق الأشجار اليابسة وتسودها ظلمة الليل الموحش، إلا من «فنار» قنديل يعمل بالزيت، هو للرجل الجبان الخائف من هذا المجهول والمضطر عليه، خصوصاً أنه لا أمل له في البقاء في قريته التي أصابه فيها التعفن والموت البطيء، أما الرجل الآخر الذي تمسك بأوراقه وآمن بحكمة الأمل التي زرعتها الكتب في عقله، فصار لا يؤمن بأن المدينة قريبة وأن الأمل قريب وإن طالت المسافات.

ينكسر حاجز الصمت بكلمات مطمئنة، «إنه يقترب.. لا تستعجل.. بات قريباً.. لقد دخل في المصيدة»، وما أن جر المثقف الحبل حتى هربت الطريدة، فما عاد لهم طعام يأكلوه ليمكنهم من مواصلة طريق البحث عن المدينة، هنا يغضب صاحب الفنار في المقابل ترتسم على وجه المثقف ابتسامه التفاؤل بما ينتظرهم في تلك المدينة التي قال الورق عنها بأنها جنة.

وبتصاعد الأحداث وحوارات الأمل من جهة المثقف، والتشاؤم من جهة المتمرد، الذي يحكي قصة معاناته في القرية، وهما في طريقهما يعصف بهما التعب والجوع، ويفاجآن بوجود فزاعة على الطريق المؤدية إلى الأرض الموعودة، وبشيء من الحذر يتفحصان تلك الفزاعة ليجدا في المعطف رسالة مجهولة من رجل مات في هذا المكان، وهذه الأرض الملعونة كلمات الميت التي قرآها بواسطة الفنار بدت مخيفة لهما كونها حذرتهما من تلك الأرض.

المدينة الموعودة

أخذ الرجل المتشائم المعطف، فيما تناول الآخر المظلة، وفي طريقهما وجدا ما كانا يبحثان عنه، إنها المدينة الموعودة، فرحا كثيراً لذلك، لدرجة أن المثقف قرر أن يقيم احتفالاً سنوياً للفنار الذي ساعدهم زيته على عملية البحث المجهولة، على اعتبار أن الفنار مبارك، أما الورق فمن دونه لم يكن يتخيل أن يصل إلى تلك المدينة، فصار يعلق أوراقه التي أحاكها بخيط كي لا تتساقط، على أطراف وحدود المدينة وصار يحلم ببيت صغير سقفه من غمام وأبوابه من ضحكات الصغار وفناؤه من صفاء.

غير أن تلك الفرحة لم تدم طويلاً، والسبب هو الرجل المتشائم الذي سرعان ما تمرد على صديقه، واعترف له بأنه ما عاد يقاوم الانتظار ليضع قوانينه الخاصة ويتحكم بها في هذه الأرض، رغم أن المثقف كان السبب في انتشاله من الحياة العفنة التي كان يعيشها واعتبره صديقاً له، إلا ان الطمع والتمرد سرعان ما أعمى بصيرة المتشائم الذي لم يعترف يوماً بتلك الصداقة، فصنع فزاعـة ألبسها معطف الرجل الميت ومظلته، تلك الفزاعة لا تخيف الطيور بل تحرقهم وتحرق كل من يقترب منها. ولم يكتفِ بذلك، بل وقف هو مكان الفزاعة ولبس المعطف كونه أصبح المتحكم في هذه المدينة، وأن على صديقه أن ينصاع إلى أوامره، إلا أن المثقف تحول إلى ثوري وقتل صديقه بالطريقة نفسها التي قال عنها صاحب الرسالة، كونه هرب من قريته من عقولهم العفنة بحثاً عن الطهارة، إلا أن الورق لم يسعفه فتطاير مع هبوب الرياح ولم يبق سوى نور الفنار الذي بدأ يخفت تدريجياً.

«عمل محترم»

اعتبر مسرحيون ونقاد شاركوا في الندوة التطبيقية التي تلت عرض مسرحية «زيت وورق» بأن العمل «محترم ورائع»، كونه احترم في المقام الأول المتفرج، إذ كانت المسرحية واضحة ومفهومة بعيداً عن الغموض الذي امتازت به مسرحيات أخرى، الأمر الذي احتوى المتفرج وجعله متابعاً وبصمت تفاصيل المسرحية التي تشد الانتباه بالاحتراف الذي ظهرت به.

ووصف العمل بالبساطة والامتاع وهما من النادر أن يجتمعا في عرض واحد، إذ كانت سينوغرافيا العمل المميزة، وهناك استخدام عال للورق وفكرة تعليقه ليصنع به أسوار بيته او المدينة فكرة جيدة، كما أن الجمال في العمل مرتبط بالبساطة فالأوراق والحبال رسمت الدهشة، وتم استخدام وتوظيف كل عناصر العرض المسرحي بحسب احتياجات النص كالإضاءة او السينوغرافيا.

ويحسب للمخرج اختيار الممثل عبدالله سعيد، الذي جسد الشخصية بكل انفعالاتها وحالاتها بأداء عال يعكس لغة الجسد متوازية مع لغة الحوار والانتقال والتحولات في الشخصية، كما يحسب للمخرج الاشتغال الجاد والجهد الواضح في رسم نهاية غير تقليدية للعمل جعلت منه رسالة مدهشة وفجائية بأن يتحول المثقف المسالم إلى ثوري وهي صورة جديدة للمثقف تدعو إلى التأمل.

 

المصدر:

  • سوزان العامري – الشارقة
  • http://www.emaratalyoum.com

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *