ليلي داخلي خطبة لاذعة.. الزواج بعد عشر سنوات!!…عندما يتحول المسرح إلى رقصة ألم!!…روبين عيسى تتفوق على نفسها وخجلها و جرأتها!

في محاولته الاستعادية لنص ماركيز «خطبة لاذعة ضد رجل جالس» ستبدو مغامرة سامر محمد إسماعيل عملاً لا تنقصه الشجاعة في ظرف استثنائي تعيشه البلاد وفي توقيت لا يمكنك أن تسقطه من حساباتك وأنت تعد خطواتك إلى خشبة القباني حيث عرض «ليلي داخلي» العنوان الذي يختاره المخرج لعرضه وهو العمل المسرحي الأول له ليدخل إسماعيل عالم المسرح من البوابة العريضة في «التوقيت الضيق» حيث الخشبات الباردة تختبئ وراء الكواليس في عز حرارة الحدث السوري وتواتراته والتصدعات الكبيرة في الذهنية السورية على طريق التشكل من جديد..

والانهدامات على حافة جنون النطاح وغليان المشهد وارتعاد فرائص الأرصفة واستنفارها وتطلعها إلى وقع خطوات كما يليق بـ«المشية» السورية المجبولة بخيوط شموس الصباحات على دروب الحياة.

شغف.. جمر.. ومطبخ باهت
من هنا تماماً حيث تبدو الساحة السورية على امتدادها مسرحاً كبيراً يعج بالأحداث وعلى مقربة من جمرة القبض على أبي الفنون وعلى خشبة أبي المسرح السوري وتحية- على سبيل الإهداء- إلى «جاندارك» المسرح السوري (مها الصالح) يخوض إسماعيل تجربته المسرحية الأولى متكئاً على خبرته الواسعة ناقداً ومتذوقاً للمسرح وخبيراً عاش «شرفات» المسارح السورية وخشباتها عن شغف وهو الكاتب الصحفي والشاعر والسيناريت الـ«دخل» ورشات الكتابة السينمائية عن سابق «توتر عال» لمعايشة نبض الشاشة الذهبية من داخل مطبخها الباهت سورياً في محاولة لتكثيف الضوء على جوانب معتمة من المشهدية السورية.

مد وجزر.. وحذر
التحدي أو الهاجس الذي سيسكن روح المغامرة في خيار فريق العرض هنا اتكاء على «خطبة لاذعة ضد رجل جالس» هو- إلى جانب المحافظة على روح نص ماركيز- كيفية القولبة أو التشكيل الراهني لنص مر عليه عقود ليست بالقليلة ليتشاكل مسرحياً مع الحالة السورية في أشد حالاتها حرارة وغلياناً والمشهد في تداعياته في لجة المد والجزر ومن هنا فإن المقاربة على درجة من الحذر والارتباك والجرأة إن لم يكن في خيارات الاشتغال وهي متاحة ولا تغيب عن بال القائمين على العرض (المخرج إلى جانب الكاتب والروائي خليل صويلح درامارتوجياً وطارق مصطفى مولّفاً ومخرجاً للمادة السينمائية..) في ذهنية مسرحية حاضرة ومتمرسة تتقن اللعبة وفنونها فعلى الأقل – الأخطر في حالات التلقي ومستوياته تعالقاً مع الراهنية السورية شديدة الوقع وتالياً الأثر والحديث عن إخفاق أو نجاح.
العصا المسرحية.. والطائر السوري

لذا فإن العصا المسرحية راحت تضرب إيقاعاتها فيما يشبه النقر في التماعات متباعدة ولصيقة على دقات القلوب لجهة «المشتركات» في تقاطعاتها العامة حيناً والوجدانيات حيناً آخر في ملامسة للقلب السوري أو انحياز له بصرف النظر عن مسارات سريان الدماء في تشعبات شرايين وأوردة تضيق أو تتسع أو حتى ربما تهرق هنا وهناك فحافظ العرض على إيقاعية لم تسقط في فخ الأدلجات ولم تنفخ في طبول الشعاراتية ولم تلو رقصة الألم للزوايا الحادة ذلك أنه اختار للطائر السوري لجهة راهنية الحدث فضاء لا يصطدم من خلاله بـ«حواجز» التفاصيل أو شرنقة الألوان بما فيها البراقة هنا أو هناك.

مزاج.. مرايا وهروب ذكي
هذا كله بالصورة العامة أو العنوان العريض ربما يعدّ هروباً ذكياً أو إهمالاً متعمداً عن سابق تلمس وعورة، حتى لا يقع العرض في ما يمكن اعتباره مطب التجاذبات في توقيت– ليلي داخلي- على غاية من الحساسية ؛ الهروب «الذكي» والتوقيت «شديد الحساسية» هما ذاتهما أيضاً اللذين يوقعان العرض- بطبيعة حال تلقي غير متناغم- في فخ خيارات سينظر إليها البعض على نحو متضارب، دون إعلان الإدانة على نحو فاضح، وإلا عدّ ذلك تجنياً ومصادرة غير عادلة لخيارات فريق العمل لجهة «المزاج» أو التعالق الإبداعي ومستوياته، رغم امتلاك البعض مشروعية الذهاب باتجاه النقد الذي ربما كان سيأخذ هو الآخر شكلاً انتقائياً لجهة انعكاس مرايا في الحديث عن خطبة ربما تكون لاذعة قام بها العرض ضد الجمهور العرض..!!

جنون … عادي وشفقة
في «ليلي داخلي» تأتي القراءات متعددة ولاسيما في تجاهلاته لمحطات وتسليط الضوء على أخرى بعينها والحديث هنا يتعلق بخط مواز للنص هو عرض شرائحي فيلمي في الشاشة الخلفية كخط بدا أساسياً في العرض وإلا ما فائدة هكذا عرض في هكذا توقيت كهذا أصبحت فيه خيانة الأزواج والزوجات أمراً ليس ذا بال في هذا العصر المفتوح على الجنون ليتم فضحه وفضح نماذج اجتماعية متلوّنة ووصولية وذات نفوذ لها كلمتها في البلد؛ الأمر الذي كان مبرراً ولافتاً منذ عقود (كتابة النص الأصلي أواخر السبعينيات) بات عادياً اليوم بما فيها أشكال أخرى من التعاطي يراها البعض خيانات حتى إن الزوج بدت مثار شفقة وهي ترتمي على أقدام الزوج وربما كان الأحرى أن ترمي «خاتم الزواج» في وجه الزوج وتمضي انتصاراً لكرامتها وأنوثتها.

غربان.. أقنعة ونجومية
الستارة مرفوعة والوقت ليلاً.. أريكة بـ«وسائد» خمرية.. مشجب.. صورة معلقة لزوجين في وقت عشق.. كومبيوتر محمول على طاولة وكرسي شاغر.. علب سجائر و«قناني» بألوان متعددة.. وشاشة خلفية مفتوحة على صفحة فيسبوكية شخصية.. وسرعان ما تخفي الإضاءة الخشبة لتظهرها من جديد وقد عاد الزوجان: وداد التفتاهندي «روبين عيسى» وسمير الصوفي «بسام بدر» لتوهما من حفل زواجهما العاشر وفي الأرجاء رائعة «اسأل روحك» لأم كلثوم بصوت ربا الجمال.. وداد متوترة في حالة غليان على حين سمير على برودة أعصاب جليدية متجاهلاً زوجه متصفحاً صفحته على الفيسبوك وتبدأ حفلة أخرى صادقة وحقيقية معرّاة من كل الأقنعة والزيف هذه المرة؛ حفلة تقريع لاذعة للزوج تحوّل فيه وداد «عش الزوجية» إلى عش دبابير وجحر تتقافز فيه العفاريت وتنعق فيه الغربان وقد عانت خيانات الزوج الفاضحة وتجاهلاته وعدم مبالاته للزوج العاشقة روحاً وجسداً وحيوات على مدى عقد من الزمن وفوق هذا وذاك ضربه كل المبادئ والقيم عرض حائط الإنسان الـ«كانه» أو الذي زعمه شاباً جامعياً مثقفاً حالماً بعدالة اجتماعية ومنتصراً لقيم الإنسان والجمال ليتحول إلى نجومية تبييض الأموال وتلميع وجوه الفساد كرجل مال وأعمال وسياسة يرتدي قناعاً هنا ويرمي بآخر هناك في وجوه متعددة تفوح منها رائحة العفن والنتانة لتجد الزوج نفسها ضحية «مؤامرة عشق» وقد نذرت حياتها لحب فارس أحلامها الذي ما لبث أن مزق روحها أشلاء جعلت من صبرها ينفد ومن قلبها ممرغاً بوحل أشكال خيانات من القبح تسردها وداد بتواتر وألم وسخرية وخيبة أمل على تماس مع المضحك المبكي في سلسلة محطات فضائحية من الزوجية حيث خصوصية الحالة والتفاصيل إلى التعاطي العام مع المجتمع حيث شهوة المال والسلطة ودهاليز السياسة في واجهات برّاقة- تنطبق هنا على الكثير- تخفي ما عفن ونتن، على حين سمير الزوج بأذنين واحدة من طين والأخرى من عجين ويا نتن ما تهزك ريح..

جليدية.. فداحة وشهوات
حفلة تقريع الزوج مدماة الروح في صراخات من الألم وتقلبات الآه المكلومة جاءت بإيقاعات متواترة صمتاً غاضباً وبوحاً موجعاً تستمر طوال العرض (نحو ساعة من الزمن) تتصدى لها تمثيلاً روبين عيسى في إطلالة مسرحية هي الأولى لها على نحو لافت مظهرة وجهاً يمتلك طاقة تمثيلية عالية على مستوى الروح والجسد نجحت من خلالها في شد الانتباه في دور مركّب لعرض «مونودرامي» يتطلب مهارة في الأداء في التجسيد المسرح لشخصية تخرج كل هذا الوجع المكبوت دفعة واحدة وكأنثى تدرك مكنونات الجسد وحاجاته في تصالح وتشاكل مع الغرائز والشهوات بالدرجة ذاتها التي تعي فيها ما تعيش من وجع روحي طعن فيها كبرياء الإنسان والزوج في مجتمع تظهر فيه المرأة غالباً كضحية على غير صعيد.. بالمقابل فإن براعة بسام بدر في الصمت وجليدية أعصابه جعلت من حضوره اللامبالي ضرورياً في العرض لإدانة الصمت وإظهاره حجم فداحة أولئك الصنف من البشر يديرون ظهورهم ببراعة لكل المآسي وييممون وجوههم شطر «الأنا» في قاعها السحيق و«من بعدي الطوفان»..

نفاق.. و«نجمة الصبح»
العرض بدا أنه أخذ وقتاً أطول مما يفترض تبعاً لحفلة التقريع التي تدين الزوج وصولاً إلى إدانة وجوه «مخملية» في المجتمع وشخصيات لها حضورها العام ولكي يكسر سامر محمد إسماعيل مخرجاً ما يمكن أن يشوب العرض لجهة المدّة فإنه وعلى جانب الملامسة للراهنية في حالتها السورية وهو الأهم هنا يلجأ إلى تنويعات على غير صعيد، من الحضور الموسيقي والغنائي إلى عرض فيلمي شرائحي عبر الصور في الشاشة الخلفية- الشاشة ذاتها التي كشفت في صفحة سمير الصوفي الحجم الكبير لطلبات الصداقة المهملة أو قيد القبول لرجل فاسد من باب النفاق- تظهر محطات من الحدث السوري وتداعياته بالتقاطع مع عرض صور لمحطات الزوجين فحضر بذلك الجانب الموسيقي إضافة إلى البصري المشهدي- وخاصة مع اقتراب نهاية العرض- يتناغم هنا بصورة أو بأخرى مع وجهوه للحالة السورية وهي تعيش أزمة على مدى سنتين حيث يخلي الممثلان الخشبة أو يهمل حضورهما لصالح ملامسات الحدث السوري في التقاط لحظات تصاعد الحالة المشاعرية أو الوجدانية على إيقاع أغنية من التراث الفلسطيني بصوت وأداء سناء موسى «يا نجمة الصبح» ؛الأغنية الحزينة في شجن وطيف أمل يلامس الوجدان: «يا نجمة الصبح فوق الشام علّيتي
الجواد أخدتي والأنذال خليتي
يا نجمة الشام وين علّيتي
الجواد أخدتي والأنذال خليتي
نذر عليّ إن عادوا الأحباب ع بيتي
لأضوّي المشاعل وأحنّي العتاب»

 

http://alwatan.sy/


شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *