المســـــرح العـــــربي مـــــن الاستعارة إلى التقليـد

كتاب صدر حديثاً للمسرحي والباحث العراقي أحمد شرجي، عن مكتبة عدنان، للطباعة والنشر في بغداد، ويتألف من 217 صفحة ، يحاول أحمد شرجي أن يناقش في هذا

 

الكتاب طبيعة العلاقات التاريخية التي تربط الظاهرة المسرحية العربية، في المسرح الغربي، من دون أن ينسى تسليط الضوء على الكيفية والخصوصية التي جعلت من المسرح العربي يلتصق بالمسرح الغربي، من خلال عوامل الاستعارة والتأثر، والنقل، والتقليد، التي أدت في النهاية، إلى خلق بنية مسرحية عربية رصينة، وتجارب مسرحية عـدة تدعو إلى الانبهار والدهشة.

وإذا كان توجه احمد شرجي في المرتبة الأولى، البحث عن المسرح العربي الذي لا يمكن فصله، في الحقيقة، تاريخيا، عن المسرح الغربي، فهو يحاول بالمقابل البحث في خصوصية المسرحين (العربي والغربي) في آنٍ واحد، من خلال: (الرمزية والمسرح الإصلاحي، الإئتلاف والاختلاف، أدولف آبيا، إدوارد كوردن كريك، وإشكالية التأصيل والهوية في المسرح العربي، ومناقشة الماضي وما نجم عنهما). وبما أن احمد شرجي ليس ببعيد عن المسرح العراقي ولا الغربي، ويُعـد واحداً من العاملين في حقولهم المتعددة (تأليف، إخراج، تمثيل ونقـد) يحاول الحديث عن المسرحين (العربي والغربي) بنوع من الشمولية والاقتضاب في ذات الوقت، مناشداً في ذلك سوسيولوجيتهما الداخلية وبالعكس، وذلك بالاعتماد على منطق أن المسرح يستطيع أن يضيء ما هو اجتماعي، بالعمل على دراسته. ولقد تطلبت مادة هذه الكتاب أن يتبع المؤلف المنهج التاريخي، لرصد تطور المسرح في الوطن العربي، عبر كل فترة، منبهاً في كل مرحلة، إلى خصوصية الظاهرة المسرحية، ولهذا فقد امتزج التاريخي بالجمالي والسياسي بالاجتماعي. ونتيجة لهذا الامتزاج المتعدد المناهل ونتيجة لتقدم المنهج التاريخي التحليلي على بقية المناهج، فإن المؤلف يرى في نهاية المطاف، أن لكل عصر وبلد نوعه الأدبي وأسلوبه المسرحي في العرض. 
ليس من الصدفة أو الخطأ أن يحمل كتاب احمد شرجي، مثل هذا العنوان الذي يحاول وضع النقاط على الحروف منذ الوهلة الأولى، ويُسمي الأشياء بمسمياتها. إن المؤلف، قبل أن يطرق أبواب البحث والمعرفة المتنوعة، هو رجل مسرح ممارس لفن التمثيل والإخراج والتأليف وبقية فنون العرض من تلفاز وسينما. وقبل أن يدرس ويعمل في مجال المسرح في هولندا وبقية الدول الاوروبية والعربية، كان قد درس المسرح وعمل في مجالاته المتعددة في العراق. إذن، إنه من أجل أن يعنون كتابه بهذا العنوان المثير للتساؤل والجدل، لا بد أن يكون عارفاً لما يفعل، وخبيراً بما يقول، لا سيما أن المسرح هو حقل للتبادل الثقافي مثلما يقول بيتر بروك، والاستعارة فيه واردة، ولكنها عندما تتحول إلى تقليد، يموت الفعل المسرحي ويتحوّل إلى عملية سطو. 
يتألف كتاب (المسرح العربي من الاستعارة إلى التقليد) من أربعة فصول، تحتوي على مقاربات عدة وأبحاث يسلط المؤلف الضوء من خلالها على واقع المسرح العربي الذي عاش بين قلق البحث عن الهوية المسرحية، والخوف من السقوط في هُـوَّة التقليد، لاسيما أن التراث الأدبي العربي قبل العصر الحديث، لا يقدم لنا أمثلة شبيهة لما يقدمه الغرب من معنى لكلمة مسرح، وإن أغلب الباحثين في هذا المجال، قد أكدوا على أن المسرح الحديث هو نتاج غربي بحت، قد تم زرعه بتربة بكر في المجتمعات العربية، ولا يمكن أن يكون هناك مسرح عربي قبل القرن التاسع عشر، وقبل غزو مصر من قبل نابليون. 
إن احمد شرجي يتطرق إلى هذه الإشكالية، ويستعرضها من خلال العديد من الآراء والأفكار المؤيدة منها والمعارضة لفكرة وجود وعدم وجود المسرح في المجتمعات العربية،(المسرح والإسلام، هل حرَّم الاسلام الفـن، التعازي الحسينية، 1848 .. مارون النقاش، أبو خليل القباني، يعقوب صنوع، مسرحة التاريخ، الجسد بوصفه تابو، الجسد عربيا) ثم يتساءل في الختام: هل أن طهرانية الجسد كمفهوم ديني، قرآني حال دون تحرره، ومن ثم أمسى أحد الأسباب التي ساهمت في عدم تطور المسرح العربي ؟  ثم يُجيب الباحث بشكل ضمني، بان الله قد خاطب الرسول محمد (ص) بكلمة إقرأ، ولهذا يرى أن الشعر كان اكثر رسوخاً من بقية الفنون الاخرى في التراث العربي القديم، لأنه يتداول عبر الألسن وكذلك الحكاية والرواية، وكما يقول بشار بن بَرد (الأذن تعشق قبل العين أحيانا)، لكن تحرر الجسد بالنسبة لمؤلف الكتاب، يُعـد واحداً من اهم العناصر لتطوّر المسرح في العالم، كون الممثل لا يمكن أن يبقى حبيس لسانه، وعقله فقط على الخشبة.
بلا شك ان الكتاب يطرح اسئلة عديدة لا يمكن حصرها في مقال، مثلما إنه لا يكتفي برصد جانب من جوانب المسرح، فهو يتطرق إلى الممثل والمخرج والتأليف، والبروفة والجمهور، الذي هو ملك الحفل وسيده الأوحد والذي لولاه لما اكتمل الحفل، مثلما تقول آن ابوزفولد، في كتابها، قراءة المسرح. ينتقل بنا الفنان الباحث أحمد شرجي، في هذا الكتاب من مكان إلى آخر، برحلة نحو المسرح ومجالاته المتعددة، التي لا يمكن ان تكتمل من دون أن تمر عبر فـن الاخراج وتنظيراته في المسرح العربي، انطلاقا من النص إلى العرض  بحيث يشير المؤلف، إلى إن (المنطقة العربية لم تتعرف على المخرج كوظيفة مستقلة في عملية صنع العرض المسرحي مبكرا، بل كانت تقلد الخطوات التي سار عليها المسرح الأوربي في بداياته). ويستعرض الباحث هنا، التصور الاخراجي في تجربة المسرح الذهني عند توفيق الحكيم، وفي سامر … يوسف إدريس الريفي، متطرقاً إلى مسرحية (الفرافير)، ثم ينتقل إلى الحكاية والأغنية الشعبية عند يوسف العاني، ويتطرق إلى واقعيته، من خلال مسرحية (رأس الشليلة)، ومسرحية (فلوس الدواء) 1952، ومسرحية (ستة دراهم)، ومسرحية (أنا أمك يا شاكر)، ومسرحية (المفتاح) وبنائها الدرامي للحكاية، ويحلل  شخصياتها، ولغتها، وزمكانية النص وتقسيماته، ثم يتوقف عند الإرشادات المسرحية، إذ يقول في هذا الصدد: (لعبت الارشادات المسرحية دورها في تعريف القارئ/الممثل/مصمم الديكور/المؤلف الموسيقي، بالأسلوب الذي أنتهجه النص، وبتوفير معلومات كافية لإغناء تصوراتهم للمسرحية). ثم يقوم المؤلف بتسليط الضوء على تأثيرات برتولد بريشت على المسرح العربي، وعلى نص مسرحية (المفتاح) بشكل خاص، من خلال: الحبكات المتعددة التي تكتنز الاغنية الشعبية، واستخدام التراث والفلكلور الشعبي، وتوظيف الأغاني الشعبية، والتعريف بالمكان من خلال اللافتات، التي تحملها الشخصيات، وكسر الجدار الرابع، ومخاطبة الممثلين للجمهور بشكل مباشر، واستخدام الماضي والرجوع إليه، لتغريب الحدث، بحيث يقول الشرجي: (لقد استفاد العاني من بريشت وطروحاته، في تغيير شكل الكتابة المسرحية في العراق، التي عرفت أشكالا أخرى بعد تجربة العاني المميزة) ثم يأتي الفصل الثالث، ليلقي بنا مباشر في استمرارية التأثير الغربي على المسرح العربي، من خلال تجربة الطيب الصديقي وتأثرها بتجربة استاذه جان فيلار الفرنسي، مؤسس المسرح الشعبي، واستمرارا لهذا التأثر الفرنسي، يتطرق المؤلف إلى تجربة محترف بيروت روجيه عساف ونضال الأشقر، وتجربة المسرح الجديد لفاضل الجعايبي وفاضل الجزيري، وجليلة بكار، الذين قاموا بتقليد تجربة مسرح الشمس لأريان منوشكين. ويقول في هذا الصدد: (هناك من سعى لهضم التجربة الأوروبية والتأسيس عليها وإلباسها لباسا محليا، من دون استنساخها حرفيا مثل الطيب الصديقي وتجربة المسرح الشعبي للفرنسي جان فيلار، والعراقي ابراهيم جلال والجزائري عبد القادر علولوله، واشتغالهم على منهج بريشت الملحمي، وصلاح القصب واستفادته من مسرح الكادر الروماني، الذي اخذ عند القصب تسمية اخرى، وهي مسرح الصورة)، أما الفصل الرابع فيكرسه احمد شرجي إلى يوميات البروفة عند جواد الاسدي، وجاء تحت عنوان (تدوين يوميات البروفة عند جواد الاسدي)، من خلال قراءته لثلاثة كتب، (المسرح والفلسطيني الذي فينا عام 1992، وجماليات البروفة عام 2003 والمسرح جنتي عام 2008. ويتناول الكاتب في هذا الفصل الجانب التدويني الذي يتعرض من خلاله إلى العديد من المخرجين العالمين العظام، من أمثال: ستانسلافسكي، الذي شكلت كتاباته، مصدرا مهما للاجيال المسرحية، واصبحت تنظيراته في فن الممثل، من خلال كتابه (حياتي في الفن)، درسا مهما.  وقد سار على نهجه بيتر بروك، في كتابه (النقطة المتحولة: أربعون عاما في اكتشاف المسرح). و(أنتاولي ايفروس)، الذي تغزل في البروفة في كتابه المعنون: (البروفة حُبي)، وإلى آخره من الكتاب والمنظرين الذين حاولوا أن يدونوا يوميات تمارينهم وبحوثهم العملية في كتب، اصبحت فيما بعد مصادر مهمة جدا لقرائها. ويُعـد الفنان جواد الأسدي واحداً من القلة القليلة النادرة الذين تأثروا بهذا اللون من الكتابة، ولقد سبقه في ذلك الفنان والكاتب العراقي الكبير (عزيز عبد الصاحب) عندما قام بتدوين يوميات بروفات مسرحية (سر الكنز) لقاسم محمد، التي نُشرت في عام 1979 بمجلة الأقلام العراقية، تحت عنوان (لا ترسم عصفوراً ناقصاً). يشير احمد شرجي في هذا الفصل الرابع والأخير، الى اهمية معرفة اسرار البروفة من داخلها والإطلاع على (هموم المخرج ومرجعيته الفكرية والمواقف الاجتماعية والسياسية التي يتبناها والتي تفرض عملية اختيار النص والممثلين والانتاج وغربة الاماكن وحميميتها) ثم يُنهي الكتاب بفصل فرعي وأخير عن الناقد المغربي (سعيد الناجي)  تحت عنوان (نهارات المشهد النقدي الجديد في المغرب، سعيد الناجي أنموذجاً) .
ونستشف من كل ما تقدم أن الفنان والباحث المسرحي أحمد شرجي مع فكرة ان المسرح ظاهرة عالمية، لا تؤطرها الهوية ولا البلدان، ويمكن ان تنشأ في بلد ما ولكن ليس بالضرورة أن يتطور ويأخذ اشكاله الجديدة فيه. ويسوق لنا مثلا، بقوله (قد تكون موسكو أهم من أثينا فنياً، وإن كانت تحسب الريادة لأثينا، ولكن في موسكو كانت هناك ثورات فنية متكاملة حملت معها سمات بقائها واستمرارها), ثم يتحدث عن ستانسلافسكي، وتشيخوف، وداشنكو ، ومجموعة الشكلانين الروس، (الذين أحدثوا ثورة عظيمة ليست على المستوى المسرح فقط، وإنما على مستوى الشعر قادها مايكوفسكي ومايرهولد بالمسرح، وكذلك على مستوى التشكيل).

 

باريس /محمد سيف

http://www.almadapaper.net

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *