مسرح الدم الذي تتحاشاه فرنسا

كيف يمكن لكاتب أو مخرج مسرحي أن يتناول عشر سنوات من غزو أكبر قوة في العالم لبلد من العالم الثالث يكابد أهله الحصار ، وكل ما في ذلك العمل

 

العدواني السافر – الذي انتهى باحتلال العراق، مهد الحضارة الإنسانية، وتدميره وقتل أبنائه وتشريدهم – أشبه ما يكون بمسرحية نسج خيوطها المحافظون الجدد من سنين، ووجدوا في أحداث الحادي عشر من سبتمبر فرصة لإخراجها إخراجا رديئا أمام أنظار عالم وَجِلٍ ذاهل : بوش الابن وهو يعلن عن علاقة صدام بالقاعدة، توني بلير وهو يؤكد حيازة العراق لأسلحة الدمار الشامل، كولن باول وهو يلوّح بمسحوق أبيض يعرف أنه ليس من الأنتراكس في شيء… كيف عالج المسرح هذا الحدث الجلل ؟ وما مدى حضوره في المسرح الفرنسي ؟

أبو بكر العيادي

باريس- خلافا للمسرح البريطاني الذي نشط خلال السنوات العشر الماضية، خصوصا ما عرف بالمسرح السياسي، لفضح سياسة حكومة توني بلير التي رهنت مصيرها بقرارات البيت الأبيض زمن بوش الابن، فإن الأعمال المسرحية التي تناولت غزو العراق لم ترق في فرنسا إلى مستوى موقفها الرسمي المندد بالحرب وجرائرها.

والسبب، فيما يرى المؤرخ بنجامين ستورا، أن المسرح الفرنسي لا يميل إلى الأعمال التي لها صلة مباشرة بالأحداث السياسية، فحرب الجزائر مثلا لم يقع التعرض لها إلا في عمل وحيد هو “الحجب الساترة” لجان جينيه عام 1966. رغم أن حرب العراق كانت مناسبة للنظر في العلاقة بين الحرب والمسرح أو حضور الحرب في المسرح.

هل ينبغي على المسرح أن يمارس التعرية والنقد والوقوف ضد الحرب والالتزام كما يفهمه برتولد بريشت، أم يقيم الدليل على أن الحرب لا تحمل سمة محددة كما تقول آن لاري في معرض حديثها عن أعمال إيشيل وشكسبير وجان جينيه، لأن المسرح في رأيها هو آلة حرب ضد الحرب نفسها ؟ والسؤال الأهم : “كيف يمكن إخراج الحرب مسرحيا ؟”

قلة قليلة حاولت تقديم إجابة شافية. الأول هو المخرج العراقي مخلّد راسم في مسرحية ذات منحى وثائقي عرضت بمسرح “الضفة اليسرى” بمدينة سان إتيان دي روفري عام 2007، قام بأدائها لاجئان عراقيان وفرنسيتان، تقدم في خمس لغات وهي شهادة حية عن مصير الإنسان في أتون حرب متواصلة وصرخة من أجل الحرية، من خلال تجارب فردية قاسية، في نبرة آسية لا تخلو من طرافة، حيث الجد يمتزج بالهزل، لأن الضحك في حدّ ذاته سلاح لمن يحسن استعماله.


والثاني هو المغربي أحمد حافدي في مسرحية ألفها عام 2008 بعنوان “ضيف الله” في صياغة تحيل على التراجيديا الإغريقية – إسخيلوس وسوفوكليس خاصة في لغتها، وكافكا في التباس ما تطرحه.

والضيف هنا هو سميث الأميركي الذي يكرم ياسر وفادته ويمنحه صداقته، ويفتح له في صحراء العرب رحابا بسعة الحلم، ولكن الأميركي يتنكر للعهد وينقض الصداقة، لأن علاقاته مبنية على حب المال، حتى لكأن طبعه مجبول على الطمع والخيانة.

والمؤلف إذ يلمح إلى مأساة العراق يذكر بحكمة القدامى في تقديم القناعة على جمع المال لبلوغ السعادة، وهو ما لم يدركه سميث الذي ظل يلاحق حلما سرابيا حتى النهاية.

والثالثة هي الفرنسية إيرين بونّو في “ميوزيك هول 56” عن مسرحية The Entertainer للإنكليزي جون أوزبورن، حول العدوان الثلاثي على مصر عام 1956. هذه المسرحية لم تعرض إطلاقا في فرنسا للسبب الذي سقناه أعلاه.

تقول المخرجة التي قدمت هذا العمل عام 2009 في المسرح الوطني : “في الوقت الذي تشهد فيه السياسة الأميركية فشلا ذريعا في العراق، وجدت دافعا من أعماقي يدعوني إلى إعداد هذا العمل لخشبة المسرح، خلافا لما درجنا عليه من تجاهل لحرب السويس، لأنها تذكرنا بحرب الجزائر وطموحاتنا الكولونيالية”.

في هذه المسرحية، تحل حرب العراق محل حرب السويس، وتبدو صور الحرب وصور السفاح بوش مطبوعة في مقدمة المسرح، حيث فضاء مغلق يجمع عائلة من الفنانين وقع ابنها سجين حرب.

هذا العالم المغلق الذي يتخلل أرجاءه الرقص والغناء لا يعدم خطابا سياسيا، ينتقد التدخل العسكري والاحتلال والعنف بوجه عام.

الرابع هو المخرج الفرنسي رونيه شينو الذي أعدّ مسرحية عن رواية الكاتب الجزائري الفرانكفوني ياسمين خضراء “صفارات إنذار بغداد” وشارك بها أول مرة في مهرجان أفنيون عام 2008.

وتروي حكاية شاب بدوي في ربع ناء بصحراء العراق، كان يحيا حياة البسطاء إلى أن اندلعت الحرب وأقدم جنود الجيش الأميركي على قتل أبيه بعد تعذيبه وإذلاله. مما اضطره إلى حمل السلاح طلبا للثأر، فإذا هو عجينة طيعة للإرهابيين، يوجهونه كيفما أرادوا تحقيقا لمآرب لا صلة لها بثأره.

في هذه المسرحية التي ينهض بأدائها ثلاثة ممثلين، تبدو الحرب دوامة يتداعى إليها العنف باطراد، حيث لا إيجابية ولا بطولة. بإذلال الإنسان، تتجلى الخيبة وفقدان المعنى والانتقال إلى العدمية. وبذلك يغدو مسرح الحرب على قلة العروض التي أحصيناها ناقدا نشيطا للحرب.

في مقال لها بعنوان “إخراج الحرب مسرحيا” كتبت المؤرخة الفرنسية رافو رالّو تقول : “المسرح يناهض الحرب، ليس من باب الالتزام، وإنما لأن المسرح في جوهره فنّ يحبط العنف، فهو قائم على الكلمة والحوار ولو في شكل صراع.”

 

 

http://www.alarabonline.org


شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *