«مطر صيف»: جردةُ حسابٍ مع الانتظارِ العراقيّ

 

الحفلُ الذي نظّمَ قبلَ أيّام من لدن مؤسّسة عيون (منظّمة مجتمع مدني ببغداد) وجرى فيه اعلانُ اختيار مسرحية «مطر صيف» كأفضل عرض في العام 2012، بعد استفتاء جمهورٍ واسعٍ ومثقفين ومؤسّسات اعلاميّة، يؤكّد مجدّداً تمكنَ العرضِ من لفت أنظار كثيرين واعجابهم بموضوعته.

 

كاظم النصار، المخرج المسرحيّ المحترف، متمرّس في جعل راهن البلاد مادّة لعرض يبتعد عن المباشرة في ادانة الحال القائم، وبشكل ينأى عن عروض وقعت في فخّ نقل خطاب الشارع من دون معالجات فنيّة، يقال ذلك عن النصّار، بعد تجارب ناجحة في «حياة مدجنة» العام 1993، «جزرة وسطيّة» 1996، وصولاً إلى عمليه الأخيرين «نساء في الحرب» 2005، و»خارج التغطية» 2009.

عمله الجديد «مطر صيف» الذي قُدّم مؤخّراً ببغداد وعمان(فاز هناك بأربع جوائز في مهرجان عشيات طقوس) وأربيل، نصّ الكاتب علي عبدالنبي الزيدي، يحيلنا عنوانه إلى مقطع من قصيدة شعبية معروفة عراقيّاً « حجيك مطر صيف ما بلل اليمشون»، فالثوابت التي كانت قائمة بين زوجين عراقيين عن أحلام الحياة السعيدة، كلّها في مهب سنوات المأساة التي هشّمت ما هشّمته من روابط اجتماعيّة وانسانيّة، ليحلّ محلها الغياب الطويل والانتظار الأبدي بنسخته المحلية.

ولأنّ العمل يشتغل على فكرة «الانتظار» التي كثيراً ما جُسّدت على خشبة المسرح، أخذنا المخرج إلى منطقة «التذكير بالخيبات العراقيّة» قال إنّ أكبرها انتظار ثلاثة عقود لنحصد بعدها القش في حين الجلادون هم..هم والضحايا ذاتهم..».

بطلا العرض (هناء محمد وفاضل عبّاس)، من العائدين مؤخّراً إلى بغداد، بعد رحلة اغتراب تلت أحداث نيسان 2003، بين قطر والجزائر، بمعنى إنّ اختيارهما لم يكن اعتباطاً، وإنّما لتحقيق تفاعل أكبر من لدنهما تجاه أفكار «الانتظار» و»الهجرة» من التي احتواها العرض وجربا تفاصيلها في الواقع.

«جثّة تحتفل بعيد ميلادها يسلمها قطار إلى قطار»، من عبارات الفقد والخسران التي ترددها الزوجة مع افتتاح العرض بأصوات الطائرات والمجنزرات العسكريّة، فهي تنتظر شريكها الغائب، يؤدّي دوره «فاضل عباس» الذي يدخل بمواجهة سينوغرافيا مصممة بشكل يختصر ثلاثة عقود من العذابات العراقيّة التي لم تتوقف، حيث بقايا هياكل عظمية معلّقة، عارضة ملابس عليها رداء وقبعة رجل، حقيبة سفر، غير التي تدخل وتخرج مع الأزواج المستنسخين، وسائد بيض كأنّها توحي –بتشظيها على الخشبة- إلى أجساد الموتى الذي أزهقت أرواحهم فيما مضى،  وفي عمق المشهد مرآة غرفة نوم تتوسطها قنينة عطر سيتضح لاحقاً انّ رائحتها دالة على ذكرى قديمة بين الزوجين، تتحرّى عبرها عن شريكها الحقيقي بين رجال مستنسخين يدخلون بالتناوب.

الرائحة ستكون لاحقاً إحدى أهمّ لازمتين يستخدمهما المخرج على مدار العرض (ساعة زمن تقريباً)، مع لازمة أخرى هي أغنية المطربة العراقيّة المغتربة سيتاهاكوبيان(دروب السفر: صغيرة كنت وانت صغيرون).

البطلة تسأل أوّل الأزواج «المستنسخين»:»هذا عطرنا شنو نسيته»، «أغنيتنا نسيتها :صغيرة كنت..»، لتتلاحق اشارات الانكسار في التراجيديا العراقيّة بقولها»عندما تشمّ هذا العطر تجدني أمامك»، في حين يكون لباسها الأسود دالاً على حزن طيف من نساء البلاد.

الاستنساخ في الحياة لا يتوقف مثلما هو الانتظار- ثيمة العرض الأساس- لم يزل قائماً، فالزوجة منذ بدء العرض، تعيد تكرار أسئلة تتحرّك كلّها في فضاء الغياب والفقدان، لكن باشتغال يمزج بين الفصحى واللهجة العامية العراقيّة، مثلاً كما في حوارية البطلة مع نفسها «اطرق الباب وتعال.. وك بس تعال» أو «قلت لهم أعيدوه لي شاباً، فقالوا سنصنع لك نسخة طبق الأصل»، لننتقل بعدها إلى حوار بالعامية « عيني كل شي مستنسخ الله وكيلك».

التغني بحبيبها وزوجها المنتظر يذكرنا بالذات العراقيّة-العربيّة التي كثيراً ما تعود إلى الماضي في خطابها «عيونه سومريّة خشمه(أنفه) بابلي اما طوله نخلوي..»، خاصّة وإنّها تطالب بايقاف الزمن كي لا يستمرّ الفقدان في عرض ترمز فيه المرأة إلى وطن ينتظر الخلاص من استنساخ فشل السلطات المتعاقبة في العراق مقابل انتظار الناس لأنموذج حكم ناجح وعادل، بينما نسخ الرجال هم كلّ الأحزاب والجماعات السياسيّة التي توالت على السلطة في العراق.

وما أن تنتهي-الزوجة- من اكتشاف استنساخ الزوج الأوّل، تدخل في حوار مع الثاني «لنعش تحت سقف واحد أيّها الحبيب»، لحظات وتجرب معه لازمتي العطر وأغنية « سيتاهاكوبيان»، ويبدو انّه يفشل في تذكرهما.. تستدرج البطلة الجمهور إلى استفهاماتها التي شغلت العرض بأكمله» أسوي قرعة لو حدره بدره(لعبة شعبية عراقيّة) لو انتخابات مبكرة» (أعمل قرعة أم «حدره..»)، وهنا تنتقل هناء محمد من تجسيد سنوات الغياب إلى راهن البلاد بطريقة ساخرة وهي تستفزّ الجمهور بأزمات الساسة وأخبارهم الآنية بين مشاريع «سحب ثقة» و»انتخابات مبكرة» و»حكومة أغلبية».

تعدل عن اقتراحها الأخير لأنّ قصّة الانتخابات في العراق حتّى تشكّل حكومة تحتاج إلى ما يقارب السنة.

وبطرد كلّ الأزواج «المستنسخين»، تختار شريكاً صنعته بيديها (عارضة الملابس)، فالانتظار طال والخيبة من الحال مستمرّة، بعد تسع سنوات من تزاحم الألم مع الأمل، لتختار مشروعها الذي ألبسته ما تريد.

 

 

حسام السراي*

http://www.newsabah.com

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *