مرويات النهر الحزين.. التداخل وإثارة الأسئلة

في عمل مسرحي جديد وضمن فعاليات مهرجان ينابيع الشهادة المسرحي الثاني، قدّم نادي المسرح في بابل عملاً مسرحياً بعنوان (مرويات النهر الحزين) عن قصيدة

 

(العباس) للشاعر حامد خضير الشمري، وهي من تأليف وإخراج الفنان ثائر هادي جبارة الذي شارك التمثيل أيضا مع الفنانين (غالب العميد وحسن الغبيني واحمد ضياء تاج الدين) ، المسرحية قدمت على قاعة النشاط المدرسي في بابل وسط حشد كبير من الجمهور من مختلف المدن العراقية، ولعلني وجدت نفسي أمام مواجهة العمل هذا، لأن فنانيه كثيراً ما يعملون على إبراز الأعمال المسرحية ذات الصبغة التجريبية الحديثة، وهذا ما لمسناه في السنوات الأولى بعد الاحتلال .. 
في كل عمل مسرحي يريد ثائر هادي جبارة كسر النسق المتعارف عليه عبر (الأداء والمضمون والمكملات الفنية الأخرى) ، مهما كانت مضمونية العمل، ومهما كانت له تأسيسات فنية ثابتة، وفي كل مرة يقف أمام الجمهور (مخرجا/ ممثلا/ مؤلفا) ليوصل ما يريد عبر أسلوبية النمط التجريبي ، غير ان عمله الأخير كشف عن تحولات مضمونية اقتربت في دلالاتها الموضوعية وتنافرت في الأداء بين شخصية  (المهرج) الذي قام بالدور الفنان البارع حسن الغبيني، وشخصية (النهر) الذي قام بدوره هو.. لا شك ان قصدية النهر انطوت على إيقاعات الشاهد عبر التاريخ لكل التحولات (الدينية/ المقدسة) و(الدينية/ السياسية)، لتظهر فاعلية الأداء على خشبة المسرح بعلامات الفعل التجريبي على جميع الفنانين، وكأننا نقترب كثيراً في عملية تقارب الأحداث وتناظرها بواقعنا الذي لا يختلف عن كل الفواجع التي مرت على أرضنا منذ واقعة الطف واستشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) وحتى يومنا هذا ..
( مرويات النهر الحزين ) ، تفتح أسئلة لدى الآخر( المختص) ، الى أي مدى يمكن ان نخرج بعمل مسرحي يحمل فكرة كونية متناظرة مجازياً مع (النهر) بوصفه الحاضر في كل الأزمنة، ومع ( البهلول ) الذي يختصر بنية الإنسان منذ أزمان بعيدة، ومع (التاريخ) الشاهد الذي يمضي ويقطع أوراقه، ومع (الصوت) الذي يروي كل هذه التحولات بمستوى تعبيري.. مع إعطاء معنى مؤثر رمزي لفعل الحكي، إنها استثارة الوعي الفني عبر استحضار المقدس بآلية الأداء الفني المعاصر ..
أفاضت المسرحية منذ بدايتها تلك الموسيقى الهاجية العالية عبر أصوات متداخلة لـ(قارئ القرآن .. والآذان.. وبعض الأصوات الأخرى)، لتعكس الإلهام الكوني عبر سماع الأصوات هذه، وقد ساعد ذلك تصميم (السينوغرافيا) الرائع مع الإثارة، وبعد ذلك بان أداء المهرج (حسن الغبيني) بمرونة مع ظهور شخصية التاريخ (علي ضياء تاج الدين) الذي كان مكتفياً بإيماءات الوجه فقط وبحركته التي يقطع فيها الأوراق ويصنعها في ماكنة تقطيع اللّحم، ثم ظهور شخصية الصوت (غالب العميدي) ليعبر عن تجسيد سمعي، وتمنيت لو كان (الرقيب الصوتي)، وان يكون له ظهور عياني خصوصاً ان العميدي يتمتع بنبرة صوتية مميزة وخبرة معروفة في المسرح ، حتى العبارة التي قالها (التاريخ ينام…التاريخ يصوت..التاريخ…الخ) تؤكد ذلك.
كما انطوت المشاهد الأخرى على مقاطع الصوت عبر سياقات أدائية نصية، وكأن جميع الأحداث التي قرأناها والأخرى التي عاصرناها تقترب من حيث دلالاتها المعروفة، وإن للنهر الكثير من المرويات الشاهدة على انهزام الإنسان الساعي عبر السلطة في تشبثه بالكرسي، وبعد عملية صراع بين الطرفين، يصرخ النهر بصوت عالٍ بوحه المهرج (هناك الكثير قد انتصروا عليك)، ثم تتكرر العبارات (أكون…لا أكون..أكون … كنا .. كنتم)، وهي عبارات جدلية تحمل في عمقها الصراع الوجودي لقضية مقتل الإمام العباس(ع)، ليصرخ النهر (قتل العباس.. فاض النهر).. ثم يقوم بكسر (المظلة) فوق رأس المهرج، إلا ان المهرج يفتح العديد من المظلات الموزعة على جدران المسرح، لنقف عند مفهوم أزلي أن الإنسان يبقى في صراع مستمر مع ذاته وأيضا نلمس الأكياس السوداء المعلقة التي تقترب إلى الشكل الآدمي، هي الأخرى قام بتهشيمها المهرج، غير أن النهر صاح بصوت رافعاً يده وهو على أرضية المسرح (لا تفتحوا المقابر الموتى راقدون)، لتظهر صور المقابر الجماعية، ويستمر المهرج ينثر الأوراق فوق رأس النهر، كما كانت هناك استخدامات سريعة لثيمة الكرسي، أخذت في حواريها إيقاع تراتبي في نقد السلطة، وسيرة بعض الطغاة كالحجاج وغيرة، إلا أن العبارة المأثورة الشخصية النهر (يا تاريخ لماذا كل هذا الصمت .. كلما جاء طاغي صحنا يا حسين) قد أخذت اختزالا كبيراً لفكرة النص المعمول عليه قبل ان يتحول العمل إلى نصه الثاني.
في التحول الحاصل في العمل، كانت هناك لمسة (برختية) واضحة من قبل الفنانين حسن الغبيني وثائر هادي جبارة، حيث توقف الأداء مع قصدية واضحة ومفتعلة في اللوم مع بعضها، ثم دخلا مشهداً جديداً تحور ثيمة الماء، وهي التفاتة رائعة، لما لهذه الموضوعة من دلالات مؤثرة، منها ما يأخذ على عاتقه قضية عطش الحسين، أو مسألة الاغتراب الكبرى لماء (الفرات)، بخاصة عندما بانت العبارة (قد بدلوا الفرات بالعطش)، فكانت هناك قناني ماء فارغة قد نثرت، ثم عرض على جهاز (الداتاشو) المعلق على المسرح، مشاهد من جفاف الأنهار والمسطحات.. في الحقيقة كانت هذه الاستخدامات سريعة ، حتى الحوارية التي تناولت الموضوع ذاته لم تأخذ عمقاً كبيراً بسبب ضيق مساحة المسرح.
( تساؤلات مشروعة ) 
مرة أخرى يقع الفنان ثائر هادي جبارة في فخ النمطية (المقولبة) في حركة الجسد وطريقة الأداء، بعد الأعمال التي قدمها في السنوات الماضية، خصوصا وقد أخفى جسده بالرداء (الأبيض)، في حين نجح (الغبيني) بزيه المعهود وحركته المرنة في تقديم اداءً درامياً تناسب مع العرض، كما أن هناك ثيمات داخل خشبة المسرح لم تستغل، منها القطع الخشبية المستطيلة، ومنها المنصات الثلاث الموزعة أمامها، ومنها الورق الشفاف (النايلون)، كلها ثيمات راكزة ويمكن التعامل معها بوصفها أجزاء مهمة في العرض المسرحي.. 
من جانب آخر، لا بد من الفنان (جبارة) أن يتعامل مع مكان العرض بالرؤية التي تشبع عمله، بمعنى انه يحتاج إلى مساحة واسعة من المسرح (خشبة + جمهور + مدرجات)، وهذا لم يتوفر في مسرحيته الأخيرة، فهو الفنان الوحيد ـ كما أرى ـ في بابل ينظر إلى زوايا المسرح بأبعاد مختلفة، ولطالما خرج عن الحدود المألوفة في مسرحياته السابقة، وكثيراً ما جعل الآخر جزء من عمله.. 
ككل ، ساهم في مسرحية (مرويات النهر الحزين) كل من الفنيين: علي فؤاد/ مخرج الموسيقى وتنفيذ الداتاشو، وإسراء كريم/ الأزياء، وحميد قدح/ الماكياج، وخضر السلطاني/ تسجيل الموسيقى، وسراج منير/ الإضاءة، والفنان الرائد محمد علي الشلاه/ تنفيذ الديكور، وبشار عليوي/ مدير المسرح.

زهير الجبوري

http://www.almadapaper.net

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *