تكنيك بريخت في المسرح الملحمي

اهمية الاغتراب الابداعي تكمن ايجابيته من الوجود الانساني وفي مضمونه الانساني ومضمونه السيسيولوجي فالفن يسير في اثر الواقع حسب تعبير بريخت بما يحفز المجتمع تحقيق فرصة انسانية اكبر في الحرية والعدالة والامتلاء الروحي والمادي وتحقيق التوازن النفسي الاجتماعي.


واحد اشكال هذا الاغتراب الخلاق هو تغريب مسرح بريخت من خلال ما اطلق عليه جدلية العلاقة المسرحية بين المؤلف والنص والنظارة المتلقي معتمدا الديالكتيك الايديولوجي الماركسي نهجا ونظرية فمجرد الوجود لا يكفي فطبيعة الانسان تحددها وظائفه 1 .
وتبلورت نظرية المسرح الملحمي كما تذهب له الباحثة القديرة د.منى سعد ابو سنة في بحثها الشامل المعمق لرصد ظاهرة الاغتراب في مسرح بريخت في نظرية اطلقت عليها تكنيك الاغتراب Alienation- Technicque وهذا يعني للناقد الالماني راينهولت جريم اغتراب الاغتراب، الاغتراب الاول يمثل الخطوة الاولى وهي النفي أي جعل ظاهرة الاغتراب غير مالوفة وهذه الخطوة تنطوي على الخطوة الثانية وهي الاغتراب وهي خطوة ايجابية لانها تنفي الاغتراب بما ينطوي عليه من الوعي باسباب الاغتراب بالاضافة الى الرؤى المستقبلية. 2 وتكنيك الاغتراب يهدف الى ان يعترف المرء على الشيء وان يراه غريبا في نفس الوقت. 3
الخطوات المتداخلة
ويلخص بريخت هذه الخطوات المتداخلة
1ــ علينا ان نعثر على الوسائل الكفيلة باظهار الانسان عن بعد 4 فهدف الديالكتيك التغريبي كـ فهم { فهم عدم فهم فهم } نفي النفي.
2ــ ان هدف التكنيك ذا التاثير التغريبي يتلخص في الايحاء للمشاهد بعلاقة تحليلية انتقادية تجاه الاحداث المصورة اما الوسائل فتكون فنية 5 .
3ــ تراكم الغموض الى ان يحل الوضوح التام تحول الكم الى نوع . ان وعي الاغتراب الابداعي لدى بريخت هو اول خطوة نحو ازالة الاغتراب القائم على الديالكتيك. والاغتراب الابداعي كما مر بنا في جوهره يمثل حالة تقاطع ورفض وعدم تواءم مع المحيط والمجتمع . والاغتراب موقف حافزه الموضوع ولا اغتراب حقيقي بدون موضوع كما لا وجود حقيقي بدون موضوع . بمعنى ان الاغتراب حالة نابعة من داخل الانسان مبعثها المحيط في محاولة الانسان التطابق مع ذاته وخلق توازنه النفسي العقلي مع محيطه ومجتمعه . وتغريب او اغتراب بريخت يتوخى خلق حس لدى المشاهد والمتلقي للنص المسرحي من عدم الارتياح وعدم التوافق وعدم الانسجام مع المحيط والمجتمع. وضرورة بحث المشاهد تلقائيا عن اسباب الاغتراب التي هي على الاغلب بنظر بريخت عوامل سياسية اقتصادية اجتماعية والعمل على إزالة تلك المسببات فبزوالها ينتهي الاغتراب ويتخلق مجتمع جديد اكثر انسانية تنعدم فيه وسائل القهر والاستلاب الانساني .
يقول بريخت اما القسوة الحقيقية لهذا العالم فيجب ان تصور بلا هوادة على اعتبار اية من آيات عظمته ان الهه يجب ان يصبح إله الاشياء بالشكل الذي هو عليه في الواقع . ان هذه المحاولة الجديدة المكرسة لايجاد ايديولوجية جديدة تستند بشكل غير مباشر على الحقائق 6 .
ومن اجل ان تحمل الواقع على النطق كان من الضروري اختيار الشكل الملحمي 7 .
ويقول بريخت ان الهدف الجديد وحده هو الذي يمكنه ان يوجد فنا جديدا و التعليمية هي الهدف الجديد 8 . و تغريب المتلقي او المشاهد من الخارج وهو بعث الاغتراب لديه في مرحلة اولى واعطاءه مبررات من خلال النص وضرورات تجاوزه لاغترابه في المرحلة الثانية من خلال استقصاء اسباب ودوافع الاغتراب وفهمها . ولا ينسى بريخت انه يتعامل مع مسرح وادوات فنية وليس مع معطيات ايديولوجية خطابية مباشرة فيشرح وجهة نظره
قائلا من اجل ان يوفق المسرح في تسلية المشاهد المشتت الفكر يتعين عليه قبل كل شيء ان يحمله على التركيز عليه ان يقتلعه من وسطه الصاخب فيخضعه لسلطانه . فالمسرح يتعامل مع مشاهد منهك مستنفد القوى عبر يوم منظم وفق احدث الوسائل العقلانية 9 . ويضيف يفترض التطبيق الحقيقي والفعال لأثر التغريب ان المجتمع ينظر الى نفسه على اعتباره شكلا مشروطا من الناحية التاريخية ومؤديا الى التطور المقبل والتغريب الحقيقي يحمل طابعا كفاحيا 10 .
ان دارسي مسرح بريخت ومنهم الباحثة القديرة د.منى سعد يذهبون ان اغتراب المشاهد كان حالة طبيعية لدى المشاهد عندما يتطابق ذاتيا مع العمل الدرامي الارسطي ويصبح جزءا من ذاتية البطل الدرامية في شكل ومضمون المسرح السائد قبل المسرح الملحمي.
ويعتبرون اغتراب المشاهد يصبح جزءا من اغتراب البطل والتعاطف معه وهو ما اطلقنا عليه في غير هذا المجال السلبية الاغترابية، الذي يطمح النص المسرحي تجاوز مثل هذا الشكل من الاغتراب من قبل المتلقي النظارة واستبداله بـ ايجابية اغترابية وسيلتها الفن الملحمي المسرحي.
يقول بريخت المسرح الملحمي ينبذ كل الانفعالات غير انه لا يجوز فصل العقل عن الشعور 11 ، فالاغتراب السلبي الذي كان مهيمنا في المسرح الارسطي اصبح بمنهج بريخت ديالكتيك الاغتراب مفهوما مغايرا يعتبر الاغتراب وسيلة تغيير للمشاهد والمجتمع معا، وليس من اعتبار الاغتراب عالما قائما بذاته ومن طبائع المشاهدة المسرحية والتلقي المسرحي…باختصار اراد بريخت ان يمسك بيد المشاهد ويضعه امام مسؤوليته في التفتيش عن الاسباب التي قادت الى اغترابه وتعرفه كيفية مجاوزتها . ان تغريب المشاهد الذي سعى له بريخت هو في بعث الاغتراب لديه وتحريره من حالة التطابق اللاشعوري وحتى العاطفي الوجداني مع العمل الدرامي المعروض ومع البطل ايضا كما كان الحال سائدا في المسرح الارسطي .
أولى مراحل الاغتراب
فقد كان المشاهد يجد نفسه جزءا من ذلك العمل المعروض امامه، فلا يتحسس اغترابه الايجابي المطلوب المرغوب اصلا. ولا يعي ذلك الاغتراب وبالتالي غير قادر على تجاوزه بامكانية الانفصال عن العرض المسرحي امامه
فالتصوير المغلق في الذاتية للواقع يمكن له تاثيره المضاد للحياة الاجتماعية حسب تعبير بريخت يحصل الانسان على متعة وهو يتغير تحت تأثير الفن كما انه يتغير تحت تاثير الحياة .
ان اولى مراحل اغتراب الانسان الانفصال غير الكامل تماما عن موضوعه فمراجعة الذات ونقد الموضوع في علاقة جدل تطورية لا تتم في فراغ وهمي يفصل الذات عن الموضوع .. ولا فاعلية لذات ليس لها موضوع، ولا موضوع حقيقي تبرزه علاقة ذاتية غير عادية او منحرفة.
لذا لا يمكن توصيل المشاهد الى موقف نقدي متجاوز لاغترابه باندماجه بالحدث الدرامي بل بالاحتفاظ بـ مسافة الانفصال والرصد والابتعاد النقدي المتفحص . ولا نقصد ان يمتلك المشاهد موهبة نقدية متخصصة بالتقنية الجمالية الفنية للعمل المسرحي بخصوص المنجز لنقل المعروض امامه… وانما هو موقف نقدي مبعثه التركيز على العلاقات الدرامية التي ترتبط بها الشخوص ومن ثم تحليلها وفق رؤية ايديولوجية مسبقة تقود الى نتائج تغيير وتبديل علاقات غير انسانية وليس الوصول الى الاحتفاظ بقناعات فردية مشتتة لا قيمة جمعية اجتماعية لها .
في ذلك يقول بريخت ان البلبلة الجادة يترتب عليها سعي لتقديم عدد من الحقائق اشبه بكبسولات الدواء المحلاة.. انه أشبه بالسعي لأظهار تجارة المخدرات بمظهر اكثر اخلاقية بحجة تقديم حقيقة للمستهلك مع هذا المخدر، غير انه يمكنه إلا يلاحظ هذه الحقيقة من جهة، ومن جهة ثانية فانه سينساها بمجرد ان يتخلص من تاثير المخدر 12 .
وعلاقة الاغتراب السلبية التي كانت سائدة قبل المسرح الملحمي ان المتفرج لا يكتشف ذاته الا في البطل من خلال التطابق بينه وبين الاخرين وهو في هذا التطابق لا يرى غير ذاته في البطل فكان جزءا من ذاته انفصل عنه واصبح يسيطر عليه، هذا الجزء انتزعه البطل حين فرض عليه ان يدمج في ذاته، أي ذات البطل والنتيجة الحتمية اغتراب المتفرج 13 . هذا الاغتراب زائف سلبي غير اصيل وهو ليس الاغتراب الذي يسعى بريخت بعثه في المشاهد من خلال مسرحه لأن الوعي الذي ينقله المسرح الارسطي التقليدي وعي مزيف وطبقا لـ التوسير يقوم على ديالكتيك مزيف وهذا الديالكتيك المزيف يوجد داخل نفسية البطل ولا يتجاوزه الى الواقع الموضوعي 14 .
بريخت كان يسعى من خلال تقديم عمله الى جعل اغتراب المشاهد يبدو غير مالوف بمعنى تحويله من حالة سلبية الاغترابية الى حالة الاغتراب الايجابي لتاتي خطوة اغتراب الاغتراب المندمجة بالاولى من اعتبار ان لا يكون اغتراب المشاهد هدفا بذاته فينتفي الاغتراب الحقيقي بما ينطوي عليه من اسباب الوعي باسباب الاغتراب وهي النتيجة الطبيعية المتوخاة من الاغتراب باعتباره وسيلة تغيير للواقع وليس هدف تكريس ذلك الواقع.
اذ ان التطهير الارسطي هو ترسيخ الاغتراب في اعتباره هدفا لوحده وجزءا من العمل المسرحي . والاغتراب كي يكون ايجابيا وسيليا تغييريا واداة للتبديل ليس من اعتباره الاغتراب جزءا من العمل المسرحي، وان بعث اغتراب المشاهد ومن ثم ازالته ونفيه لا تتم بغير قدرة المشاهد على الانفصال عن العرض المسرحي والاحتفاظ باستقلاليته النقدية الايديولوجية غير الجمالية او الفنية التقنية الخاصة بالشكل الفني المسرحي بل الخاصة بمضمون النص المسرحي التحريضي التثويري ولا يمكن الوصول الى مثل هذه الحال من خلال الاندماج بالنص والاندماج بالنص يقود الى سلبية اغترابية مظاهرها
1ــ سلبية الاغتراب، أي لا جدوى الاغتراب اذ ان عزل المتفرج عن المسرح يهدف مساعدة المتفرج على ممارسة التفكير النقدي 15 ، حسب مفهوم بريخت وهو ما لايتم بالاندماج على وفق العرض الارسطي.
2ــ عدم تغيير العلاقة التقليدية في المسرح الالماني بين جمهور المتفرجين والممثل والعرض 16 . التي هي تكريس لمفهوم السلبية الاغترابية عند المشاهد.
3ــ عدم الوصول بالمشاهد من حالة عدم الاكتراث الى الخروج والتمرد على تقبل حالة الاغتراب التي يعاني منها البطل على انها وضع طبيعي 17 . وهي سلبية اغترابية للمشاهد ايضا.
تحرير المشاهدين
فالتغريب الذي كان يتوخاه ويسعى تحقيقه بريخت هو وضع المشاهد في موقع انفصام متامل من العمل المسرحي لمساعدته في استنباط ادراكات فكرية نقدية منه مستمدة من العرض المسرحي تقود المشاهد خارج المسرح في بحث متواصل عن بدائل التغيير التي ينشدها بريخت ويجد المشاهد ضالته بالتحديد في الايديولوجية الاشتراكية المستنبطة من تاويل النص، فالاغتراب لدى بريخت لا يمت بصلة جوهرية يعول عليها للتقنية الفنية.
اذ انحى بريخت على المسرح قبله كونه تنويم مغناطيسي ومشاهدة اتكالية كسولة فرجة مسترخية ذهنية مخدرة عقليا تغذيها المتعة الحسية المباشرة .. لذلك طالب ضرورة تحرير المشاهدين من هذه العبودية التي يفرضها النص عليهم ويكملها المخرج والممثلون واكد على اهمية تقديم الحدث والشخصية كشيئين منفصلين جديدين غير متوقعين كي ما يخلقا الدهشة لدى المشاهد وحينما تخلق الدهشة يتحفز نوع من الوعي لديه، تحفزه هو الاخر الوعي الى امتلاكه واحتيازه نزعة نقدية ايديولوجية تغريب المتلقي . ان اختيار بريخت لمقولة الاغتراب واستخدامها في التكنيك المسرحي يرجع الى تصوره الاغتراب هو الصفة المميزة للبناء الداخلي للشخصية والمجتمع 18 ، وفي تطبيق رؤيته تلك كان يؤكد ايضا على تغريب الممثل عن الشخصية وكان ينصح الممثل ان لا ينسى من انه مجرد ممثل وعليه واجب ان لا يذوب في الشخصية التي يقدمها لان تقمص الشخصية يخلق مايسمى بالوهم لدى المشاهد وهذا الوهم من عوامل بعث اغتراب المشاهد.
ولكي لا يساء فهم ما يرغبه بريخت تحديدا من ضرورة احتفاظ الممثل من خلال دوره ان عليه واجب تغريب المتلقي، نجد بريخت يبث الى احد الممثلين رسالة يقول له فيها يخيل اليك اني اطالب الممثل الا يندمج تماما في شخصيته المسرحية التي يمثلها وان عليه ان يبقى محاذيا لها وان يقيمها كناقد وان يجعل التمثيل شرطيا تماما وان يفقد الحياتية و البشرية بصورة او اخرى اما انا فاعتقد ان الامر ليس بهذه الصورة… ولا مكان على خشبة المسرح الواقعي الا للناس الاحياء، الناس من لحم ودم بكل تناقضاتهم واهوائهم وافعالهم 19 .
هذا النوع من التغريب المسرحي للمشاهد، يفرضه المؤلف والمخرج والنص والممثلون، ويكون الاغتراب ايجابيا من حصتهم لانهم من خلال تقديم النص يعمدون ترك اثر تنويري تثويري في المجتمع، بينما قد لا يكون اغتراب المتلقي المشاهد اغترابا خلاقا ايجابيا بالضرورة في تغريبه المثمر… وربما لا يرقى اغتراب المشاهد الى مستويات قريبة متقدمة بالقياس لاغتراب المؤلف ذاته او المخرج او الممثلين وهي مسالة جدا طبيعية لاختلاف وتباين تركيبتهم الثقافية.
اذ سيكون بعد نهاية العرض المسرحي في تغريب المتلقي النظارة متباينا مختلفا بردود افعال نقدية تختلف من موقف شخص لاخر وربما تترك هذه الانطباعات اثرا ايديولوجيا تعبويا مرغوبا، مطلوبا في المجتمع او لا تترك… فليس بالضرورة افتراض نسبة عالية، نتيجة التجارب والتفاوت الثقافي للنظارة ان كل مشاهد لعمل مسرحي ملحمي سوف يعي اغترابه ويلتزم بمسؤولية ذلك الوعي ومتطلباته .
ثمة مستويات ثلاث من الاغتراب في العمل المسرحي الملحمي
اولا اغترب بطل النص والممثلين عن ذواتهم Self-Alienation.
ثانيا اغتراب المشاهد عن البطل»ايجابية الاغتراب كوسيلة لازالة الاغتراب تكنيك الاغتراب يهدف ان يتعرض المرء على الشيء وان يراه غريبا في نفس الوقت 20 .
ثالثا ازالة آثار الاغتراب بمساعدة المؤلف والمخرج والممثلين في تحفيز المشاهد لتفكيره النقدي بازالة وتغيير اسباب الاغتراب التي هي سياسية اقتصادية واجتماعية… تحيط بعملية الاغتراب وهي النتيجة المتوخاة من اغتراب المشاهد هذه المشاركة ليست مفروضة على المشاهد وانما تصله من خلال عملية التاويل والتاويل هنا لا يعني مجرد التامل السلبي وانما يتطلب مشاركة فعالة وذاتية من جانب المتفرج تقوم على تمثيل ما تشاهده وذلك
عن طريق الوعي باسباب اغترابه ومجاوزة الواقع بممارسة تفكيره النقدي في
الواقع أي خارج المسرح 21 .
ثمة اوجه مقارنة بين الاغتراب الايجابي في المسرح الملحمي و الاغتراب السلبي في مسرح اللامعقول.
الاغتراب في المسرح الملحمي
الاغتراب في مسرح اللامعقول
1ــ غتراب البطل عن ذاته اغتراب ايجابي فيه الاغتراب هدف مقصود ووسيلة لتحقيق غاية.
2ــ اغتراب المشاهد عن البطل .
يعرف المشاهد ان ما يعرض امامه نص مسرحي عليه يترتب واجب نقده ايديولوجيا .
3ــ ازالة آثار الاغتراب غاية العمل المسرحي
1ــ اغتراب البطل عن النص اغتراب سلبي كونه ياتي عفويا غير مقصود .
2ــ اغتراب المشاهد عن النص اغتراب سلبي .تسلية وقتية فقط.
3ــ تكريس الاغتراب تعميم اغترابية المجموع السلبية في المجتمع
وتتم المستويات الاغترابية الثلاثة في مسرح اللامعقول بايحاء من المؤلف والمخرج وتاويل النص للحفاظ على دوامة الاغتراب السلبي واعتبار ذلك غاية وهدف العمل المسرحي.وهذا يناقض تماما مفهوم بريخت للاغتراب في تاكيده ان تغريب المشاهد ليست هدفا وانما وسيلة للتزود برؤية نقدية ايديولوجية في البحث عن بواعث الاغتراب ومجاوزتها.
كما تذهب بعض الدراسات لمسرحيات بريخت المتاخرة الناضجة ما بين الاعوام 1933 1947 عالج فيها مسالة اغتراب التاريخ عن الوعي الانساني 22 . كحل للمشكلة الاغترابية وكوسيلة لتحرير الانسان من الاغتراب و تحقيق تاريخ حر انساني غير مغترب 23 .
ان هذا الطموح البعيد الذي سبق وراود مخيلة فويرباخ وماركس واخيرا بريخت يبدو الان اكبر بكثير من رغبة بريخت الذي كان امينا جدا للتراث الايديولوجي الماركسي اللينيني بمقدار ما املته عليه الظروف السياسية والاقتصادية السائدة عصر ذاك التي عاشها بصدق وتطابق مع ما يحمله من افكار يسارية … اننا ندرك بعد الذي مر بنا في فصول الكتاب السابقة انه يستحيل امكانية تصور وجود انساني مجردا عن اغتراباته التي لا حصر لها، وان ما كان اغترابا لفرد او مجموعة افراد » طبقة » او شريحة اجتماعية مثقفة في مرحلة تاريخية معينة انما يمثل الاغتراب الانساني فيها ضرورة تاريخية حضارية في مجاوزة عصرها على الدوام … وان كان الاغتراب يبدو متخلفا بالقياس لمرحلة لاحقة متقدمة اعلى من سابقتها في سلم الصعود الحضاري في نفس انها في زمانها ومرحلتها تحمل ايضا عوامل اغتراب كامنة جديدة تناسب مرحلة وظروف وبيئة انسانية لاحقة.
لايوجد تاريخ بشري مغترب عن الانسان والوعي به سلبيا لم تصنعه ارادة الانسان وطموحه وكفاحه ونضاله اللامحدود نحو الحرية الكاملة والتي كان وراء كل ذلك يكمن اغتراب الانسان الابداعي الايجابي … والانسان دوما على امتداد التاريخ البشري كان يستثمر اغترابه الذي يكون سببا في استثماره للطبيعة وصنع تاريخه ولم يحصل العكس أي لم يكن اغتراب الانسان يستنفد طاقته الخلاقة ورغبته الاكيدة في التقدم نحو الافضل … ووعي الانسان لاغترابه نقلة نوعية في صنع تاريخه، ولم يكن وعي الاغتراب البشري سلبية اغترابية غير فاعلة في نفي الاغتراب في مرحلة ما وعصر ما وازالته او العمل لازالته ليستحدث نفسه بقانون ديالكتيك المادية التاريخية نفي النفي ويتمظهر باشكال اغترابية مختلفة متجددة على الدوام، ولا نعتقد من السليم الصحيح تصورنا تحقيق تاريخ انساني في مرحلة وعصر مامتحرر نهائيا او حتى نسبيا من عوامل وظواهر اغترابية .. ويتم تحقيق ذلك في دوام ازالة ظواهر اغترابية تحد من ارادة الانسان وطموحه. لم يتاكد في الدراسات الانثروبيولوجية وجود انساني في عصر ما لم يكن فيها الانسان اغترابيا باستثناء المراحل البدائية الاولى التي سبقت عصر الزراعة حيث كان وعي الانسان لذاته متدنيا جدا وموضعة هذه الذات طبيعيا في درجاتها البدائية البسيطة ايضا. ان الدراسات التي تؤشر اغترابات الانسان عوامل اعاقة لحركة التقدم التاريخي الحضاري والعلمي للبشرية غير دقيقة وكانت مثل تلك الافكار تمثل في حقيقتها ثيولوجيا تاريخ اغتراب الانسان أي التاريخ المزيف للاغتراب.
لقد نسخ بريخت بنفس الاصول الماركسية التي آمن بها مفاهيم حالات الثبات السلبي لاغترابات الانسان كعوامل اعاقة تعترض ارادته في صنع تاريخه، حتى لدى ماركس نفسه عندما اعتبر حسب ما مر بنا كل اشكال الاغترابات الانسانية انما مبعثها وناتجها عن اغتراب الانسان اقتصاديا نتيجة تقسيم العمل وملكية وسلئل الانتاج وبزوال هذا الشكل الاغترابي تتلاشى وتزول تلقلئيا حالات الاغترابات الانسانية الاخرى في عصره نهائيا، من الصحيح جدا ان تطبيق الايديولوجية الماركسية على تجارب بلدان عديدة ومجتمعات مختلفة خلصت الانسان تقريبا من كل اشكال الاغترابات التي كان عاملها الاقتصادي مبعثها، لكن بقيت واستحدثت الحياة الاشتراكية انماطا واشكالا اخرى من الاغترابات وهذا ما كشفته التجربة الغورباتشوفية وتفكك ما يسمى سابقا الاتحاد السوفييتي وما طرا من تغييرات مصيرية على بلدان اخرى كانت تطبق الشيوعية.
ولم ينكر بريخت هذه المسلمة الماركسية في حينها بمعنى تخطئتها ولا قبلها ايضا وطبقها بمعنى ايمانه المطلق بصحتها بل تعامل معها وفق معطيات عصره المنظورة، فردد بريخت ايضا ان اغترابات الانسان اسبابها القهر الاقتصادي والاستلاب الاجتماعي الناتج عنه وهو ظاهرة عرضية يتوجب ازالتها وعقبة امام تحقيق صنع الانسان لتاريخه خاليا من الاستغلال الذي منشؤها الاغتراب.
ان اغتراب الانسان لازمة ضرورية للوجود الانساني او حتى ظاهرة تفرض نفسها لعوامل ذاتية وموضوعية خارج عن قدرة تحكم الانسان المعاصر بها وهو ما يؤكده علماء الاجتماع المعاصرين فالاغتراب ليس ظاهرة مؤقتة بمعنى تلازم الانسان في مرحلة تاريخية معينة بامكان الانسان بقدراته ان تنهيها والى الابد، وقد يكون بالامكان ازالتها بشكل معين، ولا يمكن اعدام عدم استحداثها لاشكال اخرى جديدة في مراحل لاحقة.
والاغتراب ليس مرضا حالة مرضية لا بالمعنى الطبي ولا بالمعنى الانثروبيولوجي يقول والتركوفمان يمكن ان تصل بالشعور بالاغتراب الى الحد الادنى من خلال الخفض الحاد للتعليم العام وغسيل المخ والمخدرات وحتى عن طريق اجراء عمليات في فصوص المخ الجبهية ولكن اذا ما كان معظم الناس مجرد صور هزلية لما ينبغي ان يكونوا عليه فان من الممكن تماما لكي يغدو اكثر انسانية ان يصبحوا اكثر اغترابين وهذه الفكرة تجد تاييدا لا في افكار هيجل وحده ولكن في بعض ديانات العالم الكبرى 24 .
AZP09

 

علي محمد اليوسف

http://www.azzaman.com

 

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *