شهادات عن سيرته وجهوده في التشكيل وسينوغرافيا المسرح..كاظم حيدر و»واقعة الطف» في مجلس المخزومي الثقافيّ

وفي النهاية لا بدّ من التنويه بأنّ مجلس المخزومي الثقافي هو أحد المجالس الثقافية البغدادية  يعقد جلسته الثلاثاء الثالث من كل شهر في الساعة الرابعة

 

 

 

مساء في المنصور شارع 14 رمضان  فرع مطعم ركن العزائم، وهو فضاء مفتوح لكل التواقين للمعرفة والثقافة وآل على نفسه تكريم المبدعين عبر التاريخ العراقي.تحدث بعدها أستاذ الفن العراقي المعاصر د.سلام جبار عن مسيرة الفنان الراحل الأكاديمية، وأعقبه أستاذ الفلسفة وعلم الجمال د.محمد الكناني بإشارته الى «انحياز الراحل الى الواقعية التجريدية».بعدها تكلم عن اللحظات الأخيرة في حياته وهروبه من مستشفى ابن البيطار لإعطاء محاضرة لطلابه في مشغله بأكاديمية الفنون الجميلة.. «انّه الموت الذي لاحق كاظم حيدر منذ طفولته ومرضه»، ومن ثمّ انهمرت الدموع بصورة تدريجية من المتحدث ليقترح مدير الجلسة محمد الجابري قراءة سورة الفاتحة على المرحوم كاظم حيدر.وإذا كان الفنان العراقي قد استلهم واقعة الطف وإن بصورة غير مباشرة، كون جميع مدركات الإبداع تنغمر في الذاكرة وتكون في ما بعد مصادر الإلهام الذاتية، إلا أن كاظم حيدر قد استوحى صرخة احتجاجه على الظلم بتجسيده صورة القتل كما صورتها الذاكرة الفطرية التي هي أصدق تعبيراً من غيرها.إن تجسيد واقعة الطف بلوحات فنية هو محاكاة بوصفها بناء فكرياً يستغرق وقتاً طويلاً للانتهاء منه، انها نظرة واقعية جديدة تنتمي إلى كلاسيكيات فن الرسم برغم أشكاله الحداثية، وتنتمي إلى (حكائيات) روبنز وانجيلو ودافنشي، وكل اللوحات (القصصية) التي كانت تستلهم القصص المقدسة، بمعنى إنها تجسيد خالد بصورة رمزية لواقعة كربلاء الأثيرة.انه عنفوان حب الحياة نعم حب الحياة في إعطاء فرصة للسمكة في أن تعيش على الورق وله من هذا المنظور بعد حضاري كبير يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالنفس الإنسانية، وهنا تتجلى علاقته مع الموت والمرأة كما بين ابن أخيه د.نجم حيدر أستاذ فلسفة الفن، في شهادته في المجلس، الذي كان مرافقاً لعمه في أواخر عمره وهو يصارع الموت لإصابته بمرض اللوكيميا (ابيضاض كريات الدم البيضاء الحاد)، فهو يقول إن معاناة عمه كاظم حيدر مع الموت بدأت وهو طفل صغير عندما كانت والدته مصابة بمرض معدٍ فأبعدوه عنها وعن احتضانها له، لتشكل وفاتها صدمة له وهو بعمر ثلاث سنوات، وهذا ما حاول أن يرسمه في ملحمة الشهادة، إذ أعطى بعداً للمرأة وحزنها في أطر متكررة مع الخيول والقمر في لوحاته، إما لوحته “الطف” فقد رسم فيها المعركة وتداعياتها ورسم الإمام علي وهو يكسر سيف ذو القفار، سيفه الذي ثبت الإسلام وقتل به الكفار وكسر الأصنام، انها رسالة ضمنية بان السيف والفكر لم يستطيعا بناء دولة العدالة من دون إرادة الجماهير.وانّ الألوان المختلفة التي تطرز ملابس الشخوص المقدسة تركت أثراً بين الأخضر المتمثل بالخير والأحمر بالشر والاستبداد والدم والأسود المرتبط بالحزن والأبيض المرتبط بالصفاء والجنة والشهادة. إن الحياة والموت شكلت جدلية في تفكير كاظم حيدر منذ بداية رسوماته فهو يقول في عن بدايته في الرسم: “في أحد الأيام جاءنا محمد صالح زكي إلى الصف وطلب منا أن نرسم سمكة.. رسم الجميع السمكة بشكل اعتيادي.. أما أنا فرسمتها بشكل مائل. فسألني: لِمَ رسمتها بهذا الشكل.. قلت: إنها لم تمت بعد!! ضرب على كتفي وقال لي: ستصبح رساماً”. وان اهتماماته بفن الديكور المسرحي تتضح من أنه كرس كل أعماله لهذا الفن ولفرقة المسرح الفني الحديث تحديداً؛ لأنّ الديكور جزء من بناء اللوحة عنده. وكانت بدايته في  المسرح العام (1950) مغ الفنان حقي الشبلي مخرج مسرحية (يوليوس قيصر) وكان بطل العرض المرحوم (عزيز شلال عزيز) واشترك مع نوري الراوي في تصميم ديكور لباليه (جيزيل) وديكور مشترك مع المرحوم جواد سليم لمسرحية (أوديب) وصمم بالاشتراك مع فائق حسن ديكوراً لتمثيلية محلية التي هي غرفة الفنان (فان كوخ) واشترك مع إسماعيل الشيخلي في تصميم ديكور لمحلة شعبية.. في أعوام (1950– 1954).. ولكن رؤيته الإبداعية تغيرت بعد أن درس فنون الرسم والديكور المسرحي والسينوغراف في الكلية المركزية بلندن التي تخرج فيها عام 1962، فأصبح من أبرز مصممي الديكورات ولا سيما للمسرحيات الشعبية منها (القربان) و(النخلة والجيران) للكاتب غائب طعمة فرمان عام 1969 وديكور (المفتاح) الذي يعده الكاتب ياسين النصير” من الديكورات المهمة في المسرح والذي من خلاله أدخل فن زيت الى اللوحة وجعلها قطعة فنية”، وكذلك عمل ديكور مسرحية (الشريعة) للفنان يوسف العاني عام 1971 وديكور المسرحيتين (الصخرة) للكاتب فؤاد التكرلي و(الإمبراطور) لجونز ليوجن اوثيل ومسرحية (هاملت عربياً) إعداد وإخراج الفنان سامي عبد الحميد وعمل تصميماً وديكور مسرحيتين هما (بغداد الأزل) لفرقة المسرح الفني الحديث تأليف الفنان القدير قاسم محمد و(البوابة) لفرقة البيت العمالي، حتى أصبح فن الديكور الذي أنجزه الفنان حيدر انجازاً مهماً في مسرحنا العراقي الأصيل في ما بعد. ومن هنا تستوضح أبرز خصائص فن كاظم حيدر بأنها تكمن في تأكده من أن الإنسان قيمة عليا، ففي معظم أعماله يأتي الانسان عبر تجسيد ديناميكية الحياة وقدرتها على التجدد والتطور ومن خلال اهتمامه الخاص بالفعل المسرحي للإنسان الذي  يعد المركز أو النقطة الأساسية فيه هو اعتماده على الواقعية المنبثقة من تأثره بحال الإنسان العراقي المضطهد والمحاصر عبر التاريخ، ومن مأساة الحسين التي بقيت خالدة في ذهنه من مراقبته الطفولية للمشهد الحسيني لترسم في مخيلته، إذ نبتت طفولتها على وقع طبول المواكب الحسينية التي كان يشاهدها حينها وكانت تحفل بأجواء تبهر نظره، وهو يشاهد جمع عامر بالشيب والشباب وكل يعمل على الإعداد للعاشر من محرم على أمل عرض تلك الواقعة بكل فجائعها وآلامها على وفق ما يسميه الجميع (بالتشابيه) وهي كلمة أجدها متوافقة تماماً مع الطبيعة الدراماتيكية لتلك الأعمال الإبداعية الفطرية بكل تقنيتها وتقبلها والانجذاب إليها، إذ ينجذب إليها الجميع من دون فرق بين مثقف أو غيره. إن الفنان حيدر بدأ فناناً أكاديمياً  من خلال تطوير قدرته الفطرية وتعشيقها مع دراسته الأكاديمية في بغداد ولندن في مخاضه الأول عبر تجربته ذات الجذر الواقعي برؤية إنسانية، فالواقعية الاجتماعية متمثلة بسيرة حياته في طفولته أثرت في مسيرته الفنية إلى حد كبير ولا سيما الحياة العامة للإنسان والمجتمع، ولم يبتعد عنها في موضوعاته حتى دخل إطار التقليدية في ما بعد بدراسته لتجارب الفنّانين الأوروبيّين في الخمسينيات، وكل هذه التجارب جعلته يمتلك أداة إبداعية ورؤية فنية خلق من خلالها مدرسة خاصة به في الرسم وتصميم الديكور للمسرح إذ إنّه يردد دائماً: “على الفنان ألا يتوقف عند حد معين من التطور الإبداعي وبروحية متدفقة بالعطاء الذي لا ينضب”.وقد أدار الجلسة  الباحث محمد الجابري بدماثة خلقه واستيعابه لأطروحات الآخرين، وكان أول المتحدثين المسرحي الرائد د.سامي عبد الحميد بالعودة الى ذكرياته مع الفنان كاظم حيدر، إذ “كان سينوغرافاً متميزاً والسينوغراف أساس تصميم العرض المسرحي وتنفيذه؛ لأنّ عمل السينوغراف ينصب على خلق الفضاء المسرحي بكل أبعاده ومكوناته. وقد تعددت التسميات التي أطلقت على هذا الفنان: مصمم الديكور، ومصمم المناظر، وأخيراً السينوغراف. كما تطورت وظيفته في العملية المسرحية بحسب تطور النظرة إليه وبحسب تطور شكل الفضاء المسرحي وفلسفته وجمالياته، وهكذا عمل كاظم حيدر في تصميم الديكور لمسرحيات متعددة وبطرائق إبداعية جعلت المسرح فضاءً كبيراً لتخيلات المتلقي أو المشاهد. واستطرد الرائد سامي عبد الحميد انه حينما قررت إخراج مسرحية «كنوز غرناطة» لجير الدين سكس عام 1964م، استهوى النص كاظم حيدر، ووجد فيه فرصة لتحقيق أفكاره عن تصميم المنظر المسرحي على وفق منظوره التشكيلي والمعماري، وخلق التنوع في الأشكال والألوان، وسهولة تحريك مفردات المنظر، وكذلك توفير الطراز الخاص بالمعمار الأندلسي. ومنذ ذلك الوقت طلب حيدر مني أن أترك له الحرية الكاملة في وضع التصاميم الخاصة بالمنظر، وألا ألجأ إلى تلقينه حول طبيعتها، وأن أكتفي بإبداء بعض الملاحظات عن المتطلبات التي تفرضها المشاهد المتغيرة الكثيرة في المسرحية. وأنا أعترف الآن انه منذ ذلك الوقت فهمت أنّ عمل المصمم لا يكون فناً إلا إذا استقل، وانّ الابتكار لا يتحقق فيه إذا أصبح تابعاً لعمل المخرج، فالمصمم يضيف رؤية أخرى إلى رؤية المخرج في مهمتها السينوغرافية، كما أدركت بعد ذلك إن الكثير من الذين عملوا في فن الديكور المسرحي وصناعته كانوا منفذين لأفكار المخرجين أكثر مما يكونون مصممين مبتكرين. ويضيف عبد الحميد “إنّ كاظم حيدر قدّم له بعد حين عدة تخطيطات ومصورات ورسوم فهم منها الخطوات التي يتبعها المصمم في تصميماته، ووجد أنّ عمله يلبي متطلباته وتطلعاته، وكانت النتيجة تحقيق مناظر مسرحية مناسبة لطابع المسرحية وأسلوبها، ومساعدة للممثلين في تحركاتهم على الخشبة وفي انتقالهم من مشهد إلى آخر”. ثم صمم حيدر السينوغرافيا لأربع مسرحيات أخرجها عبد الحميد للفرقة القومية للتمثيل ابتداء من عام 1965م، وهي: «تاجر البندقية» لشكسبير، و«انتيغونا» لجان آتوي، و«الحيوانات الزجاجية» لتنيسي وليامز، و«النسر له رأسان» لجان كوكتو”.إنّ الإنسان المبدع مهما طال غيابه بإرادته أو بالموت، فمنجزه الإبداعي يبقى حاضراً في ضمير المتابعين والتواقين لتوثيق الحضارة الإنسانية بصورة عامة والعراقية بصورة خاصة، وهكذا كان “مجلس المخزومي الثقافي” الممتد تاريخياً إلى مجلس الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي في صدر الإسلام في مكة متمثلاً في الوقت الحاضر بعميده الأستاذ د.عادل المخزومي ذي الابتسامة الدائمة الذي جعل من منزله الخاص مكان مشاعاً للمثقفين والتواقين للبحث عن المعرفة بأشكالها المختلفة، ولكن منهجيته الأولى تنصب في التذكير بالمبدعين ممن أسهموا في بناء قاعدة المعرفة الإنسانية عبر التاريخ بمنجزهم وإبداعاتهم الخالدة. وكانت جلسة المخزومي الشهر الماضي هي لاستذكار أحد رموز الفن التشكيلي في العراق ألا وهو الفنان المرحوم كاظم حيدر.


د. رافد علاء الخزاعي

http://www.newsabah.com

 

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *