إشكالية الاستقلال في المسرح العربي المعاصر

عادة ما تنحو مفردة (الاستقلال) الوجهة السياسية أو الوطنية، وأحيانا تتخذ المفردة نفسها الوجهة الذاتية ذات الطابع الفردي، وأحيانا أخرى تلتصق هذه المفردة بمفردة أخرى

لتشكل مصطلحا جديدا يمكن أن نتدارسه بالفحص والتحليل، وهذه هي الركيزة المحورية لهذه الورقة التي تحاول الوقوف عند مصطلح (الاستقلال المسرحي) بوصفه ظاهرة مسرحية جديدة تحاول أن تؤسس لها كيانا مسرحيا متميزا، وسط هذا الكم الهائل من الكيانات المسرحية بمسمياتها المتعددة، وتباين مديات الإبداع الجمالي فيها.
مشكلة هذا البحث تتركز في الإشكالية الفكرية لمفهوم الاستقلال المسرحي في المسرح العربي المعاصر، حيث يعمد الكثير من الدارسين والنقاد المسرحيين الى مصر هذه الاستقلالية بالجوانب المادية (الإنتاجية) أولاً، أو بالجوانب السياسية (التحزبية) ثانياً، إلا أن الباحث يرى أن هناك استقلالية في الخطاب المسرحي برمته بوصفه خطاباً جمالياً فكرياً، لا يكترث لمؤسسة داعمه، بل يكترث لاستقلاليته الجمالية حاضراً ومستقبلاً. بينما تجلّت أهمية البحث بوصفه ينطلق في دراسته لظاهرة مسرحية عالمية وعربية يحاول أشخاصها العمل على تأسيس كيانهم المسرحي المستقل عبر منجزهم التجريبي على صعيدي النص والعرض المسرحي. أما هدف البحث فتم اشتقاقه على النحو الآتي: تعرف مفهوم الاستقلال المسرحي وعلاقته بالمنجز الجمالي في الخطاب المسرحي العربي المعاصر.

[ في مفهوم الاستقلال المسرحي:
يعد المسرح وسيلة إعلامية مهمة كمختلف الوسائل الإعلامية الأخرى، لكن ما يميزه عن هذه الوسائل، القدرة التأثرية على الناس في طرحه لقضاياهم المصيرية فضلا عن امتلاكه عناصر جذب جمالية وفكرية تفسح المجال اكثر لقدرته التأثيرية، وهنا تكمن خطورة المسرح، وما تفسير حذر الكثير من السلطات الحاكمة منه في أي زمان ومكان ومتابعتها له ومحاولة تسييسه احيانا على وفق ايديولوجية معينة، الا دليل على دوره الخطير والمؤثر في صفوف الجماهير برغم تمايز مستويات الوعي في ما بينهم.
وفوق هذا تحاول هذه الوسيلة الاعلامية (المسرح) ان تكون مستقلة ولها كيانها الخاص بها ايمانا منها بحرية التعبير الفني، فجاء مصطلح (المسرح المستقل) بوصفه تيارا جديدا يحاول ان يضع نفسه وسط قائمة طويلة من الكيانات المسرحية التي تتقارب مع مفهومه احيانا وتختلف عنه احيانا اخرى، ونورد بعض من هذه التيارات المسرحية بمسمياتها الواردة نفسها في المعجم المسرحي: (المسرح الحر) و(المسرح البديل) و(المسرح المعارض) و(المسرح الحميمي) و(المسرح المضطهد) و(مسرح الحياة اليومية) و(المسرح العفوي) و(مسرح العصابات).
ويورد الباحث أيضاً أشكالاً مسرحية أوروبية معارضة نجد فيها اقترابا من حيث المفهوم الفكري للمسرح المستقل، مثل: (المسرح التجريبي) و(المسرح الشعبي)، كذا الحال مع تسمية (المسرح التجاري) و(المسرح السياسي) وهناك ايضا (المسرح التحريضي) و(مسرح الهواة)..
ان تكون مستقلا يعني ان تكون حرا، ولهذا وجدنا ان مصطلح (المسرح الحر) من اقرب المسميات الى مصطلح المسرح المستقل، ويذكر ان المسرح الحر يرتبط بالمخرج الفرنسي اندريه انطوان (1858 1943) وقد انشأه في باريس وقدم فيه مسرحيات واقعية وطبيعية من الربرتوار المعاصر وبحسب المعجم المسرحي فقد ” اختار انطوان اسم المسرح الحر للتعبير عن رغبته في التحرر من التقاليد والاعراف المسرحية السائدة، وفي الاستقلال عن المؤسسات الرسمية والتوجه الى جمهور جديد، وفي تجديد الحركة المسرحية من خلال تقديم نصوص غير معروفة لكتاب شباب. وقد عرض هذا المسرح خلال عمله القصير اكثر من مائة مسرحية جديدة، وساهم في اطلاق شهرة مؤلفين امثال السويدي اوغست سترندبرغ (1849-1912) والنرويجي هنريك ابسن (1828 1906)”.
هذه المواصفات للمسرح الحر نجد فيها مقاربة موضوعية مفاهيمية مع المسرح المستقل ويمكن ان نجد ايضا مقاربات اخرى مع ما ذكرناه من مسميات مسرحية، ولهذا ارتأى الباحث ايراد عدة تقسيمات لهذا الاستقلال المسرحي بهدف تجنب الخلط المفاهيمي للمصطلح ومحاولة فرز المعنى المراد الوصول اليه قدر الامكان.
[ التقسيمات المقترحة
1 الاستقلال المسرحي الانتاجي:
وهو معنى بالدرجة الاساس باستقلال الفرقة المسرحية ماديا عن أي جهة داعمة او مؤسسة حكومية ما، حيث انها أي الفرقة تمول نفسها ذاتيا ومصدرها في هذا التمويل القائمون عليها انفسهم ومن مالهم الشخصي الامر الذي ربما يشكل مستقبلا تكوين خزين مالي من ايرادات عروضهم المسرحية واعتمادهم على هذا الخزين المدور.. وهذه الحالة معرضة للربح وللخسارة فالامر مرهون بنجاح العرض المقدم او فشله جماهيريا.
ولدينا تجربة المسرح الاستهلاكي المعروف بالتجاري في اكثر البلدان العربية لعروض هبطت بمستواها نحو فكرة (الجمهور عاوز كده) جاعلة الربح المادي هدفها الاساس، وهي برغم انها حققت استقلالها المادي فعلا، الا انها اساءت للمسرح ولرسالته الاخلاقية والتربوية والجمالية.
2 – الاستقلال المسرحي السياسي:
وهو ان لا ترتبط الفرقة المسرحية باية مؤسسة من مؤسسات الدولة الحاكمة او أي حزب فيها او اتجاه ديني او أية منظمة اخرى تابعة لتكتلات معلنة او مخفية، داخلية او خارجية، والابتعاد عن أي ايديولوجية معينة يمكن ان توفر لها دعما ما لاغراض ترويجية دعائية خارج الدور الابداعي للمسرح، لان الفرقة يمكن ان تتحول حين ذاك الى وسيلة دعاية رخيصة انضوت تحت هذه المؤسسة او ذلك الحزب، ولهذا يجب ان لا تقع الفرقة المسرحية المستقلة في مثل هذه الهوة السحيقة حفاظا على سمعتها الفنية.
3 – الاستقلال المسرحي الجمالي:
هذا النوع من الاستقلال هو ما نسعى الى فرزه وبيان تجلياته الفكرية والفنية على مستوى الخطاب المسرحي الذي تصوغه الفرقة المسرحية المستقلة جماليا، فهي وان احيانا حصلت على دعمها المادي من الدولة مثلا، الا انها تمتلك حرية انتاج خطابها المسرحي على وفق رؤية مسرحية ومعالجة فنية ترتكز على مقتضيات العمل المسرحي نفسه واسلوب اخراجه المرهون بحالة الابداع والالهام واللجوء الى الحلم والى ما وراء الاشياء بغية التحليق بقيم انسانية عليا، ووضع اسقاطات فكرية تحتمل القراءة والتاويل والتحليل والترميز لبواطن الاشياء، لتؤسس بعد ذلك المعنى الاستقلالي الصريح جماليا عن قناعة وايمان وصدق القائمين على التجربة جميعهم. ويمكن ان تتحول هذه التجربة الى ظاهرة او اتجاه او اسلوب مسرحي جمالي يجد له امتدادا في الاخرين يولد لديهم تفاعلا جماليا متواصلا.
[ المبحث الثاني
الاستقلال في المسرح العالمي:
برغم أن مصطلح (المسرح المستقل) يكتسب صبغة الحداثة والمعاصرة ألا أنه ومن الناحية التطبيقية يؤشر وجوده التاريخي لكن بطريقة (فطرية) غير مقصودة، ففي المسرح الاغريقي يمكن القول أن الرجل المسرحي الاول الذي طبق مفهوم الاستقلال المسرحي هو (فيسبيس) الممثل والشاعر الاغريقي المعروف الذي كان يكتب المسرحية ويجسدها أو يعلمها للكورس، ومن ثم يقوم بتدريب على المقاطع الغنائية والحركة والرقص في سياق تمثيله للشخصيات بنفسه وتمتعه بهذه الاستقلالية في عمله المسرحي وإشرافه على كل صغيرة وكبيرة فيه.
ومما يعزز هذه الاستقلالية، الاسهامات التي أرساها (فيسبيس) كاعتماده أسلوب المسرح المتجول باستخدامه لعربة خاصة ينتقل فيها من مكان الى آخر، وتناوله لموضوعات حياتية عديدة خارجة على مأساة ديونسيوس، فضلاً عن نقله لنشاطه المسرحي من موطنه في (ايكاريا) الى أثينا بهدف توسع نشاطه المسرحي فيها.
وعندما بدا التنافس المسرحي ما بين الثلاثة الكبار في المسرح الاغريقي (اسخيلوس، سوفوكليس، يوربيتس) ومع ظهور دور المشرف على مقتضيات تقديم العروض المسرحية والمسمى بـ(الارخون) الذي يقوم باختيار المسرحيات في المباريات وبطريقة “القرعة المغلفة ويطلب منه تدبير الاحتفال، ولم يكن وقته يتسع لقراءة المسرحيات، ولو أنه قرأها فلم تكن لديه القرة غالباً على الحكم، وكان يؤثر في ذلك الجانب الأيسر وهو اختيار المسرحيين الذين ينعمون بالشهرة والإيثار في الشعب وهو إنما يسعى من خلال ذلك لإنجاح مهمته واستهواء النظارة” من هنا انحسرت الممارسة الاستقلالية وتم تضييقها برغم فطرتها حتى في انحسارها مع ظهور مثل هذا الرقيب والموجه في العمل المسرحي.
ولو انتقلنا الى مسرح القرون الوسطى حين ظهرت الديانة المسيحية وسيطرة الكنيسة فمنعت وحاربت المسرح والتمثيل، ووضع قوانين صارمة ضدهما لدرجة أحكام الموت، الأمر الذي جعل الممثلون يقدمون مسرحياتهم في بيوتات سرية لبعض العوائل التي تطلب منهم ذلك ومن دون علم الكنيسة. هذه السرية تحديداً يجد فيها الباحث استقلالية مسرحية من نوع آخر، لأن المسرح يقدم للناس ما يحتاجونه ويتمتعون به من دون علم الرقيب الحكومي أو الديني، لكن شيئاً فشيئاً وحين عجزت الكنيسة وفشلت في محاربتها للمسرحي وللممثلين بدأت تفسح المجال أمامهم شريطة أن تكون هي المسؤولة المباشرة والرقيبة على موضوعات هذه العروض التمثيلية، حينها بدأت باستغلال المسرح للتبشير والترويج للديانة المسيحية عبر مسرحيات الأسرار المعروفة والمسرحيات الدينية الأخرى، فانكسرت عندها تلك الاستقلالية السرية لتقع العروض المسرحية تحت الرقابة الحكومية المتمثلة بالسلطة الكنسية.
وهناك محطات تاريخية مسرحية أخرى يمكن أن نتلمس فيها وجهاً آخر من الاستقلالية المسرحية، إلا أن الباحث يكتفي لضيق المجال البحثي، وينتقل الى الوقوف عند تجربة مسرحية معاصرة حققت استقلالها الجمالي على يد صاحبها وهو رجل المسرح الإيطالي (داريو فو) إلا أننا وقبل الوقوف عنده توجب الإشارة الى تجارب مسرحية أخرى حققت استقلالها الجمالي بجدارة وعلى يد أصحابها الداعين لمثل هذه الاستقلالية في طروحاتهم التنظيرية والتطبيقية أمثال: (ألفريد جاري وأنطوان ارتو وغروتوفسكي وبيتر بروك وجوزيف شاينا واوجينيو باربا وليشيك مونجيك وروبرتو بوتشيللي وتجربة مسرح المقهورين لـ اوجستو بوالوه).
(داريوفو): هو ممثل ومؤلف وسينوغرافي ولد عام 1926م في روما، سطع نجمه في اواخر الستينات، حتى أطلق عليه البعض لقب موليير أوروبا، وذلك لشعبيته ونشاطه الواسع وجرأته في طرح الموضوعات المسرحية الساخرة والناقدة التي يستلهمها من مصادر ومرجعيات متنوعة تراثية ومعاصرة، سياسية ودينية واجتماعية، موضوعات تخص الإنسان يقدمها في شكل هزلي وناقد، أسس مع زوجته (فرانكا راما) فرقة مسرحية في عام 1958م، ألف وأخرج ومثّل العديد من المسرحيات.. وعلى الرغم من النجاح الكبير الذي عرفته مسرحياته، فإن الحزب الشيوعي الإيطالي حاول إقصاءه لأن محتويات نصوصه لم تكن تتماشى وتوجهات هذا الحزب.
اشتهر داريوفو بتجواله المستمر لدرجة أن وصفه محبوه بالرحالة المسرحي الذي يجوب البلدان، الأمر الذي اكسبه شهرة واسعة وعريضة، ومما ساعده في ترحاله المستمر بساطة مناظره المسرحية وإمكانية تقديم عروضه في أيما فضاء مغاير لمسرح العلبة. كما وتجدر الإشارة الى اهتمامات داريوفو الأخرى وتخصصاته المنوّعة كالرسم وكتابة الشعر ويعمل على تصميم الحركات الإيقاعية فضلاً عن عمله كمصمم للديكور وللأزياء لمجمل عروضه المسرحية. حصل على جائزة نوبل للآداب عام 1997م.
لقد كتبت الناقدة نازك الأعرجي عن وصف بيان الأكاديمية السويدية لداريوفو “أنه مثل المهرج في العصور الوسطى، يختطف السلطة ويعيد للمستضعفين كرامتهم”… من هنا يشير كاتب السطور أولاً الى أن أغلب شخصيات مسرحياته هم من أولئك المستضعفين في الأرض الذين هم بحاجة فعلاً الى من ينقذهم ويعيد إليهم كرامتهم وحقوقهم الإنسانية المستلبة، والمثير في هذا الصدد ما قاله دايوفو نفسه: “المهرجون الحقيقيون، منذ أريستوفان وحتى موليير، كانوا مشغولين على الدوام بحالات الجوع الأساسية. ليس فقط الجوع للطعام والجنس، وإنما كذلك الجوع للكرامة، والجوع للسلطة، والجوع للعدالة..”. وفي مكان آخر يضيف داريوفو: “أنا لا أهتم بالسياسة قدر اهتمامي بالعدالة”. ولعل في قوله الصريح والواضح هذا، يمكننا البحث عن العدالة الاجتماعية في نتاجاته، تلك العدالة التي من شأنها إنقاذ المستضعفين في هذا الكون برمّته، وفي ذلك يمكن تلمّس استقلالية تتجلى لنا عبر هذه الطروحات الفكرية.
الأمر الآخر الذي يعزز هذه الاستقلالية الفكرية لجوء داريوفو في نهله من مصادر متباينة، فتارة نجدها من التراث وخاصة القرون الوسطى معتمداً الديانة المسيحية منطلقاً له، وتارة أخرى نجده يعتمد الوقائع الحياتية الحقيقية لأناس استلبت حقوقهم وضاعت بسبب فقدهم لعدالة اجتماعية غائبة عنهم لأسباب سياسية أو دينية أو غيرها.
ومن المهم الإشارة الى أن داريوفو كان ممن فسحوا الطريق أمام نجاح التظاهرة الدولية السنوية مع فنانين وأدباء أجانب وعرب عام 1998م حينما قادوا تظاهرة في حملة إعلامية مكثفة لمكافحة الجوع في العالم، ففي ذلك تأكيد على اهتماماته السياسية ونشاطه فيها علها تسهم في تحقيق بعض من العدالة الاجتماعية التي يجدها غائبه وغير متحققة.
كتب داريوفو العديد من المسرحيات نذكر منها: (الاكمه والكسيح) و(ليس للصباغين ذكريات) و(الرجل العاري والرجل بثياب السهرة) و(أسرق أقل رجاء) و(ايزابيل ثلاثة مراكب ومشعوذ) و(موت فوضوي صدفة) و(حكاية نمرة – مونودراما) و(الاستيقاظ) و(من هو.. من؟) و(الموت المفاجئ لخوخي) و(لا ندفع الثمن) و(مستربوفو) و(سوبر ماركت) ونصوص مسرحية أخرى عن المرأة الإيطالية. هذا الى جانب تأليفه كتاب بعنوان (دليل الممثل) يضم دراساته النقدية ومسرحياته، ويقدم خلاصة تجربة داريوفو المسرحية، قام بترجمة هذا الكتاب (هندي مجدي) وصدر عن وزارة الثقافة المصرية مهرجان القاهرة التجريبي 2004م.
سعى (داريوفو) بذلك إلى مواكبة الظروف الجديدة التي تطرأ على الساحة الايطالية، وذلك بالاضطلاع إلى كسب مفاهيم جديدة تخص المسرح وأهم قضاياه الاجتماعية والسياسية. فإن ما حدث في بداية الستينيات كان تحولاً في المجال الاقتصادي في ايطاليا، وذلك بسبب التضخم الاقتصادي الذي جرف بدوره شرائح المجتمع من الطبقات المتوسطة والفئات الشعبية الأخرى إلى الحياة الاستهلاكية. وفي ضوء هذه التغيرات الحاصلة التي دعت (داريوفو) إلى البحث عن وسائل جديدة للاتصال الأوسع بالجماهير، وذلك بالنزول إلى الساحات العامة والمصانع، الساحات العامة ليقدم أعمالاً تلبي حاجياتها الأساسية. بكتابة نصوص مسرحية معتمدة على شخصيات من المسرح الملحمي، متفقة مع آراء ومنطلقات مسرح (بريخت) و(بسكاتور) الأساسية بالتناول المطروح للجوانب الاجتماعية على وفق منظور الصراع الشعبي. فضلاً عن قيامه بإعادة صياغة نص (أوبرا القروش الثلاثة).
ساعياً بهذا الطرح إلى كشف الهموم الجوهرية التي يعاني منها المجتمع الايطالي. وبدأ عام (1963) في البحث والتقصّي عن التراث الشعبي، وأسس مجموعة تضم فريقاً كبيراً من المتخصصين بالمسرح والمثقفين لدراسة الثقافة الشعبية على الصعيدين النظري والعملي، لكافة الجوانب المختلفة من التراث الشعبي الايطالي لمرحلة ما قبل ظهور البرجوازية. وعني البحث في التركيز على معالم الحرف اليدوية وما تتضمنه من مفاهيم لفنونها للأخذ بها على وفق رؤية معاصرة مع توظيفها التام في المسرح. وبهذه الدراسة الواسعة التي شملت كافة أراضي ايطاليا وإلى بعض الدول الأوروبية المجاورة وحوض البحر المتوسط. توصل (داريوفو) إلى نتائحج مهمة وغنية لمفاهيم جديدة، تم عكسها بصورة مباشرة على نصوصه الأدبية، واقتباسه لعدد من الشخصيات في مسرحياته اللاحقة من الحرفيين ومنهم (الصياد والفلاح وسائق العربات والحائك وغيرها). فضلاً عن بناء لغة مسرحية عضوية تكون مرتبطة بالفن والثقافة الشعبية بصورة مباشرة وجعلها مرتبطة بالحياة المعاصرة بأفكار ومفاهيم جديدة، وبعيدة كل البعد عن الصور الخرافية والأساطير التي لا جدوى منها في المجتمع القائم.
تميزت لغة (داريوفو) المسرحية اندماجاً ما بين اللغة الأدبية التي نجدها في النصوص الكوميدية التي سادت القرن الثامن عشر، واللغة الدارجة الشعبية، أي أنها ليست بلغة فصحى متعالية جداً ولا هي باللغة الخشنة جداً، بل هي عبارة عن كلام بسيط يسوده بعض المفردات والتعبيرات اللفظية التي نادراً ما نجدها في المسرح البرجوازي، والتي قد تعتبر من وجهة نظر نقدية، خارجة عن الصياغات الأدبية المتعارف عليها من الأدب الدرامي والأكاديمي. ولكن (داريوفو) سخّر من هؤلاء النقّاد وذلك بإخضاعهم إلى مواضيع ساخرة في بعض المواقف الكوميدية. فضلاً عن ذلك لم يكتف (داريوفو) إلى هذا الحد وإنما عمد إلى رفع اللغة الأدبية إلى مستوى منطوق، وكأنها إيماءات صوتية للتعبير الموسيقي مستنداً بذلك إلى بعض التلميحات لإيصالها. ومن الجدير بالإشارة ان هذه النصوص أشبه ما تكون بـ(الاسكيتشات) Scheht مبنية على أساس وجود حوارات كلامية مع بعض الآليات المُحكمة، التي باستطاعتها بناء المشهد الذي يكون بحوزته، يتكون من عناصر متعددة منها الإيماءة التمثيلية والحاجات الشيئية التي باستطاعتها ان تلبي عدة استخدامات مع التعبير الجسدي ووجود الغناء والارتجال. أي أنها تحمل جميع مستلزمات البناء للمشهد في المسرح البرجوازي، والذي تخلى عنه لاحقاً في أعماله الأخرى ولكنه لم يغير المنحى الأساس في النقد والتحريض السياسي والذي سعى جاهداً لإيصاله والذي يخدم كل متطلبات الشعب الايطالي.
في ضوء ما تقدم يرى الباحث ان داريوفو حقق استقلالية فكرية أولاً جراء جهوده في مواكبة أحداث عصره ومجتمعه ومتابعة همومهم وثانياً إنتاج عروضه ذات الطابع الكوميدي الساخر المميز سابغاً عليها أداء تكنيكياً تسومه جمالية الحركة المسرحية المدركة لأفعالها وان انصبغت بطابع تهريجي مقصود فهذا هو ما يعمق هذه الاستقلالية الجمالية التي نروم.
[ الاستقلال في المسرح العربي
من بين معطيات عديدة انتجتها حركة النهضة العربية هي الاستجابة السريعة التي حققتها مجالات فنية وعلمية متعددة لترسيخ هذه النهضة عبر مديات ابداعية يقظة بدأت من الجذور الاولى للحضارة العربية مرورا بجميع العصور التاريخية المتعاقبة التي كان فيها العربي صاحب اليد الاولى في تفعيل جل المستويات الحياتية والاخذ بها قدما نحو مناطق النهوض ومواجة (الآخر) ومعرفته والتصدي له بجميع الوسائل المعرفية منها والمادية.
من هنا كانت الاستجابة التي حققها (المسرح العربي) في النهوض والبحث عن (هويته المستقلة) الغائبة وإيجاد السبل السريعة التي من شانها تأصيل المسرح والتعريف بجميع ملامحه التراثية بغية الكشف عن مساحات أدبية موروثة والتحاور معها أو إعادة إنتاجها مسرحيا في ضوء قراءة جديدة وتسعى هذه القراءة هي الأخرى إلى نوع من الاستقلالية المنتظرة.. عندها كانت الانطلاقة الأولى في موسمها الأول للبحث عن الذات الأصل وتفعيل هويتها لتواجه الآخر المستورد بفتح الراء مواجهة معرفية واعية.
لقد هيمن البحث ولا يزال على الساحة المسرحية العربية وصار هو الظاهرة الأولى التي يبحث عنها ولها عدد غير قليل من المسرحيين العرب إلى جانب عدد قليل من المستشرقين وعلى مستويات فنية متعددة تنظيرية منها وتطبيقية.
كان اول لقاء جرى على المستوى العربي في بيلاجيو 1936م أعقبته بعدها المهرجانات المسرحية العربية التي كانت ومازالت تقام في القاهرة ودمشق والرباط إلى جانب مهرجانات عراقية كلها كانت تبحث جاهدة عن السبل الكفيلة التي تصل بها الى هوية المسرح العربي الخالصة واستقلاليته. ولقد ظهرت الدراسات والنصوص المسرحية التي انجزها العدد الأكبر من الكتاب والنقاد والباحثين والمخرجين العرب أمثال: (توفيق الحكيم ويوسف ادريس وعلي الراعي ومحمود ذياب وعبد الكريم برشيد والطيب الصديقي وسعد الله ونوس وقاسم محمد وسامي عبد الحميد وفاضل خليل وعز الدين المدني ومحمد المديوني وروجيه عساف وحسن المنيعي ووليد اخلاصي وفرحان بلبل ويوسف العاني وعادل كاظم وسلمان قطاية وعلي عقله عرسان وعبد الحميد يونس ومحمد كمال الدين وعبد الحليم كركلا.. والقائمة تطول، هذا فضلا عن الفرق والجماعات المسرحية العربية التي اثرت بشكل فاعل ومباشر للنهوض بتاصيل المسرح العربي وهويته، من هذه الفرق والجماعات نشير الى ابرزها مثل: (جماعة المسرح الاحتفالي، وجماعة مسرح الحكواتي، ومسرح السرادق ومسرح السندباد السياسي ومسرح الفوانيس ومسرح الفرجة وفرقة المسرح الفني الحديث (في بعض محاولاتها الجادة).
استقلالية جمالية
لقد قدمت هذه الفرق والجماعات باسماء مخرجيها ومؤسسيها نتاجات مسرحية كبيرة الى جانب التنظيرات والدراسات الاكبر اهمية حققت من خلالها تطورات ملموسة جدا اسهمت في الوقوف عند تجليات العرض المسرحي العربي فنيا وفكريا للوصول الى استقلالية جمالية، هذا فضلا على الدور الذي أداه النقد المسرحي العربي الذي اخذ على عاتقه مهمة الحكم والتفسير والتقريب بين وجهات النظر الموضوعية لأنه أي النقد هو المسؤول الأول والأخير عن إعلان هوية المسرح العربي واستقلاليته، إذا ما وجدها الهوية الحقيقية التي تستحق فعلا الإعلان عنها والترويج لها.
لقد وجدت المحاولات العربية نفسها في حيرة، ذلك ان القراءة لثقافتنا الموروثة وجدت نفسها بين امرين لا ثالث لهما: الاول الجري وراء اشكال التعبير الغربي المستورد من الاخر. والثاني محاولة التمسك بالجذور التراثية شكلا ومضمونا الى جانب الاشكال والمضامين المحلية ضمن مرجعياتها الشعبية المتوارثة.
هذه الثنائية جعلت المسرح في حالة تحد كبيرة. يضاف الى هذه الانشطارية ان جل الواجهات المسرحية العربية بدأت شيئا فشيئا تخلو من تراثنا العربي الأمر الذي يؤدي حتما الى حفر هوة عميقة في ثقافة الجيل المعاصر والأجيال المتعاقبة.
لكن اذا كان لابد من فرز بعض من هذه الجهود العربية الفردية منها والجماعية التي حققت استقلالية فنية وفكرية من بين ما قدمته على صعيد التنظير والتاليف والاخراج المسرحي ونخص بالذكر: توفيق الحكيم ويوسف ادريس وعبد الكريم برشيد وروجيه عساف وقاسم محمد، مع التنويه الى وجود مشتركات اسلوبية في المعالجة والتوظيف التراثي وسينوغرافيا العرض المسرحي والبحث عن الامكنة المغايرة وغير ذلك لكن الاستقلال الجمالي بشكل عام قد تحقق بتباينات ابداعية بين هذا وذاك الا انها في النهاية تصب في مجرى واحد، مع ضرورة الاشارة الى خطاب المسرحي اللبناني عبد الحليم كركلا الذي يمتلك استقلالية جمالية خاصة كونه اعتمد لغة الرقص الدرامي الحديث في تشكيل خطابه المسرحي العربي عبر التوظيفات التاريخية والفلكلورية نفسها لكن باسلوب ادائي حديث ولغة مسرحية جديدة وهي لغة الجسد. لقد آمن كركلا بان للجسد قدراته الخلاقة وإمكانياته الجمالية لا بوصفه جسدا يتحرك، بل جسدا يفكر وينتج المعنى والجمال صانعا توازنا ما بين الروح والجسد من جهة وما بين الجسد والواقع من جهة اخرى، ان تجربة مسرح عبد الحليم كركلا في مسرحه الراقص وفي محاولته الجمالية في تكوين لغة مسرحية جديدة راقصة في خطاب العرض المسرحي العربي – حيث أسس عام 1970 اول مسرح عربي راقص – تعد اول تجربة عربية اعتمد فيها منتجها (توظيف جميع إمكانيات الممثل النفسية والجسدية، التي تنبع من كيانه وغرائزه وأحاسيسه، فدربه على الحركة والإيماء والتشكيل، وأبعده عن التناقض، بين تكنيك التدريب الداخلي أو الروحي، أي تجسيد الدور بالإشارات الداخلية)..
() كاتب ومسرحي عراقي

 


محمد حسين حبيب

http://www.almustaqbal.com

 

شاهد أيضاً

المسرح متعدد الثقافات، أم مسرح المهجر … مادة بحثية حـسن خـيون

المسرح متعدد الثقافات، أم مسرح المهجر … مادة بحثية  حـسن خـيون  المقدمة  في قراءة للتاريخ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *