مواصلاً تجربته مع المكفوفين على مسرح سيدي بلعباس: «أوديب» توفيق الحكيم برؤية المخرج الجزائري الصادق الكبير

المصدر/القدس العربي/ نشر محمد سامي موقع الخشبة

من إدريس الجاي: بعد أربع سنوات على تجربته المسرحية مع المكفوفين «غرفة الأصدقاء» يعود المخرج والحكواتي الجزائري الصادق الكبير ليمد جسور تجربته المسرحية مع المكفوفين، بمغامرة جديدة تتمثل في «الملك أوديب» لتوفيق الحكيم.
هذه التجربة التي عرفت انطلاقتها فوق خشبة المسرح الجهوي لوزارة الثقافة في سيدي بلعباس، ثم تلاه أكثر من ثلاثين عرضاً في عدد من المهرجانات والمدن الجزائرية. ويعد نص الحكيم من أنضج وأمتع الكتابات التي تناولت مأساة الملك أوديب، سواء العربية منها أو الغربية. فمنذ تحويل سوفكليس أسطورة الملك أوديب حوالي 450 ق. م. إلى عمل مسرحي، وهي تعد من أفضل الأعمال المسرحية، التي استأثرت باهتمام الكتاب والدارسين القدامى والمحدثين في كل الثقافات. فقد صنفها أرسطو في كتاب الشعر بأنها «أكمل نموذج تراجيدي عرفته البشرية» حيث جسدت هذه الميثولوجيا ذلك الصراع اللامتناهي بين الإنسان وقدره.

محاولة أسلمة البطل الأسطوري

ما يميز «أوديب» الحكيم هو سعيه من خلالها إلى ترسيخ شرعية العمل المسرحي في الأدب العربي، ووضع أصوله كجنس أدبي ضمن هذا الأدب، الذي لم يعتد النصوص المسرحية. لقد استحوذت مسرحية «أوديب» على حيز كبير من اهتمام الحكيم، حيث أخذت كتابتها أربع سنوات من حياته، على الرغم من حجمها الصغير نسبيا. فليس الحكيم وحده من بين كل المؤلفين، الذين حاولوا إيجاد صيغة جديدة لأسطورة أوديب، دون الابتعاد عن قيمتها الفنية والحكائية أو الإخلال بمضامينها.
لقد اعتمد الحكيم كأول كاتب عربي في موضوعات مسرحياته على التراث المصري بكل وجوهه التاريخية.. الفرعونية، الرومانية، القبطية والإسلامية. فإذا كان سوفكليس قد أضفى على شخصية أوديب تلك الهالة البطولية والأسطورية، التي رفعتها إلى شبه أنصاف الآلهة مثل أبطال الإلياذة والأوديسة، فقد جردها الحكيم من هذه الأسطورية، ليمنحها قيمتها البشرية بكل تناقضاتها الإنسانية، وهو ما يرجعه الحكيم نفسه إلى «روح الدين الإسلامي». هذه النبرة الفكرية الإسلامية نلمسها في الحوار الذاتي لأوديب وهو يقول: «عينك تستطيع أن تبصر يد الإله في هذا الكون، هذا النظام المقرر للأشياء، الدقيق كالصراط، كل مَن خرج عليه وجد حفرا يقع فيها. صراط لك أن تسير فيه بإرادتك أو تقف، ولكن ليس لك أن تتحدى أو تنحرف». إلا أن ذلك لم يمنع الحكيم من الإبقاء على الروح الوثنية في أجزاء من المسرحية، ضمن إطار الحفاظ على روح جذور الأسطورة القديمة ومناخ بنائها الميثولوجي العام.
واستنادا إلى هذه المعتمدات الفكرية للحكيم، انطلق الصادق الكبير في تجربته الثانية مع المكفوفين، كقاعدة نظرية من أجل إعطاء دلالات فنية وتعميق الأبعاد الفكرية، ليصبح هذا النص الذي صاغ فيه الحكيم شخصية أوديب بنوع من التعقيد أكثر مما فعله سوفكليس أو غيره من المؤلفين، يعكس الواقع السياسي والسلطوي في الوطن العربي. فالحكيم لم يجعل أوديب مجرداً من عظمته الأسطورية وحسب، بل جعله شخصية مهووسة بالبحث عن حقيقة انتمائها الاجتماعي، إلى جانب اهتمامها الكبير بالوباء الذي حل بطيبة. فإذا كان سوفكليس يقدم لنا أوديب القانع المقتنع بأنه المالك الشرعي الوحيد للعرش، وذلك بسبب حله للغز وقتله الوحش الخرافي، فإن الحكيم يقدمه في جملة من المشاهد متخما بمشاعر الذنب في اغتصابه عرش البلد، لأن ذلك اللغز الذي غير حياة أهل مدينة طيبة ما كان إلا من صنع حكيم البلاد تيرسياس، الذي يأتيه الوحي من السماِء، وبتواطؤ من أوديب معه. ما كان الوحش الأسطوري «أبو الهول» إلا أسدا تمكن أوديب من قتله. فحين يقدم سوفكليس اللغز كواقع حقيقي، يعرضه الحكيم كأكذوبة واسعة حولته بين عشية وضحاها إلى بطل في عيون مَن حوله. فقلق أوديب ليس مصدره قدره المحتوم كما هو في الأسطورة الإغريقية، وإنما هذه الأكذوبة اللغز «إني لأنتظر اليوم الذي أطرح فيه عن كاهلي تلك الأكذوبة الكبرى التي أعيش فيها منذ سبعة عشر عاما».

العرض المسرحي

لقد عمل الصادق الكبير وهو يختار من بين عدد من المسرحيات عن الملك أوديب مسرحية توفيق الحكيم، على إبراز ذلك التقارب الفكري المشترك التاريخي والجغرافي بحمولاته العربية والإسلامية. وهو يسند شخصيات هذا العمل إلى ممثلين مكفوفين ليخوضوا معه هذه المغامرة المسرحية الثانية، فإنه ينتقل بالعمل من إطاره المعد للقراءة إلى فضاء المشاهدة ويضفي عليه نوعاً من أبعاد الأوضاع السياسية والفكرية في المشهد العربي، حيث الواقع الموبوء والتسلط على كرسي الحكم بأكاذيب كبيرة، وعلى السلطة التي يمتلكها أشخاص عميان البصيرة. لقد تجلت هذه الشخصية المغتصبة في دور أوديب (محمد أمين بن صافي) الذي يعتمد على عصاة طيلة العرض كمستند يتوكأ عليها في سياسة شعبه، أو في شخصية جوكاستا (الشولي نصيرة)، التي طبعت دورها بنوع من قسوة نساء القيادات العربية. بينما اتسمت الشخصيات الباقية الراعي الأول (فاطمة حام الشريف)، أو الراعي الثاني (مونية صلعة)، أو خادم القصر (عباس الطويل) بنوع من الخضوع أو التملق، الذي بدا جلياً في طبيعة أداء هذه الشخصيات. من الجهة المقابل جسد (أحمد بن خال) دور تريزياس، المتواطئ مع أوديب وهو يدير دفة الحكم من خلف الستار. وحتى انتيجون (رميسة لحمر) لم يبق دورها في حدود تلك البراءة، التي عهدناها عند سوفكليس أو كوكتو، بل يتعداه إلى تعميق أسطورة أبيها قاتل الوحش، كتأكيد بريء في عقلها الباطن على شرعيته في الحكم.
لقد جسد الصادق الكبيرمن خلال السينوغرافيا، التي صممها يحيى بن عمار الواقـــــع العربي، عبر أحداث تدور داخل دائرة مغلـــــقة يتحرك ضمنها الممثلون، حيث تتوالى الوقائع، سواء الخاصة بحياة أوديب أو العامة في علاقــــته بشعبه. كما أضفى الكبير على الأسطورة العالمية خصوصية محلية، يؤكدها منظر البوابة الضخمة بملامحها المعمارية المغاربية.
إنها تجسيد لامتداد أمكنة الأحداث الأسرية كالقصر الملكي، والسياسية كساحات المدينة، إضافة إلى ملابس نجوى بن عيسى، حيث عباءات طوارقية زرقاء للممثلين، إشارة واضحة عمد المخرج من خلالها إلى جعل الشخصيات أكثر انتماء إلى المحيط الصحراوي بكل امتداده الدال على المناخ العربي، كذلك سيطرة الإضاءة الزرقاء المتماثلة وزرقة البحرالأبيض المتوسط.

النص والعرض

لقد اثمرت تجربة الصادق الكبير عن تطور واضح في أداء الممثلين، وعن تمكنهم في التفاعل مع الأدوار في دقة التحكم في الحركة والتوقيت، وفي التناغم بين الإيماء والاستجابة للفعل، سواء الثنائية منها أو الجماعية. فإذا كان الحكيم قد أطلق على توجهه المسرحي اسم «المسرح الذهني» فإن الصادق الكبير جعل من هذه الأفكار ممثلين يجسدون الحياة وليسوا رموزا، بل تعدى ذلك إلى تحويل مقاطع من حوارات مسرحية الحكيم إلى مشاهد غنائية من ألحان سمير لمرابط تذكرنا بمناخ الجوقة في المسرح الأغريقي، وبذلك قدم لنا أوديب الحكيم كعمل مسرحي تزاوج فيه الحوار الملقى والمغنى.
وفي الأخير، ورغم أن أوديب يعلن أنه مستعد لتطبيق القانون على أي مَن كان، وحين يأتيه الواقع بحقيقة أنه قاتل أبيه، يرفضها بكل كبرياء وجبروت، ويدير دفة الاتهام إلى الذين حملوا له الخبر بأنهم متآمرون على حكمه وطامعون في عرشه، إلا أن الحلم يبقى حاضراً في نهاية المسرحية.. حلم اعتراف الحاكم أوديب بأنه «لم يكن يوما ما بطلا». وحين يعترف بذلك تقول له أنتيجون.. «إنك لم تكن يوماً بطلا مثل اليوم». غير أن هذا ليس بكاف لإيقاف العجلة المتواصلة، فحين يتخلى أوديب عن العرش بعد أن سمل عينيه، يعتلي العرش ــ في نسخة الصادق الكبير ــ أوديب آخر، لتهتف له جوقة الشعب، كما سبق لها وهتفت لأوديب السابق «الملك.. ملك طيبة».

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *