يقظة الربيع” مسرحية عن المراهقة وآمالها وآلامها — أبو بكر العيادي

لا تزال مسرحية “يقظة الربيع” للألماني فرانك فيدكيند تلقى الإقبال حيثما حلّت، فقد استطاع مؤلفها أن يصوّر ببراعة طور المراهقة التي ينتقل فيها الفرد من سنّ الطفولة إلى سنّ الكهولة. مسرحية لم تفقد راهنيتها رغم أنها كتبت في نهاية القرن التاسع عشر.

“يقظة الربيع” التي تعرض حتى نهاية شهر مارس الجاري في مسرح “العاصفة” بباريس في إخراج رائع للفرنسي أرميل روسّيل، هي من النصوص الكلاسيكية العالمية، ألّفها الألماني فرانك فيدكيند (1864 – 1918) عام 1891، ووصفها بـ“تراجيديا طفولية” أثار فيها مختلف مسائل الحياة كالخير والشر والدين والأخلاق والجنس وخيبة الشباب. عبر لوحات متتالية، يتابع المتفرّج تيه مجموعة من المراهقين والمراهقات وتساؤلاتهم وجموحهم وقلقهم وخيباتهم، حيث تختلط حكاياتهم بعضها ببعض.

ما من قارئ في ألمانيا إلاّ واطلع على “يقظة الربيع”، لاسيما الشباب، فبعد فاوست وهاملت ليس ثمة أفضل من هذا العمل الذي يتحدّث صراحة عن الحياة الجنسية والإجهاض والانتحار والخوف من الانتقال إلى سن الكهولة. أي أنه سابق لعصره، كشف فيه الكاتب عن المسكوت عنه بمنتهى الجرأة، واستشرف في الوقت نفسه أنواع المشاكل المترتّبة على كبت أصوات المراهقين وعدم تمكينهم من التعبير عمّا يطمحون إليه ويرغبون فيه.

هذه التراجيديا الطفولية ما انفكت تستحوذ على اهتمام القراء والمخرجين، مثل أرميل روسّيل الذي ظل يفكّر في عرضها على الخشبة منذ ربع قرن، ليحاول الإمساك بالرغبة المنفلتة، تلك اللحظة الفزعة والمُفزعة التي تمثلها المراهقة، مع اكتشاف الحبّ والرغبة المحمومة في الكبر والخوف من الموت.

تلك المسرحية التي كتبت عام 1891 في ألمانيا المحافظة حدّ التزمّت في عهد بسمارك، وقوبلت بالانتقاد الشديد ثم بالمصادرة بوصفها “عملا بورنوغرافيا”، وظلت رغم ذلك علامة في المسرح الألماني والعالمي، حتى أن برتولد بريخت وصف مؤلفها بأكبر مربٍّ في ألمانيا الحديثة.

ذلك أن فيدكيند تجرّأ على إثارة ما لم يثره أحد قبله، وهو الحديث عمّا يعتمل في أذهان المراهقين، والمسائل التي يواجهونها حيث الرغبة الجنسية المتنامية، والسعي إلى أن يعيشوا تحولاتهم الجسدية دون قلق ولا حياء، وأسئلة أخرى كثيرة لا يعولون فيها على أجوبة من الأولياء.

ورغم أن العلاقة بالجنس والأخلاق والتربية شهدت تحولات كبرى في أوروبا فإن مثل هذه الأسئلة الوجودية عادت لتطرح من جديد من منظور ديني وأخلاقي مع وصول زعماء من اليمين المحافظ، سواء في أوروبا أو في الولايات المتحدة والبرازيل.

عرض يصوّر شبيبة تعيش لحظتها كما هي وتسعى جاهدة لتجاوز أخطائها وجروحها
عرض يصوّر شبيبة تعيش لحظتها كما هي وتسعى جاهدة لتجاوز أخطائها وجروحها 

تدور أحداث المسرحية إذن في ألمانيا أواخر القرن التاسع عشر، وتعكس كل الأطوار التي يمر بها مراهقون يكتشفون أجسادهم، والكاتب لا يستعرض ذلك كعمل بورنوغرافي كما ادعت الرقابة زمن صدورها، بل ينتقد بطريقة ذكية التهويمات والمحظورات الثقافية لمجتمعه، ليكشف في الوقت نفسه عما يعيشه الأطفال حين يبلغون تلك السن الحرجة، من أسرار شبقية وتساؤلات ميتافيزيقية، مع ما يرافق ذلك من تناقضات في النظر إلى القيم الأخلاقية.

قد يتبادر إلى الأذهان أن هذه المواضيع تجاوزها الغرب بتعميم الأفلام والفيديوهات والمجلات الخليعة، ولم يعد بالتالي يحتاج إلى قراءة فيدكيند، غير أن أرميل روسّيل استطاع أن يربط ما تثيره المسرحية الأصلية بقضايا الراهن، وتحديثها دونما دمغجة، حيث أضفى على حركية الممثلين حركات شباب اليوم، رقصا وغناء وأداء.

وبذلك يدين بدوره المنظومة المحافظة التي تريد أن تفرض اليوم فهمها المخصوص للقيم الدينية والأخلاقية. فالممثلون والممثلات، وعددهم أحد عشر، إضافة إلى عازفتين مغنيتين من فرقة جويسي، عبّروا في إيقاع صاخب أحيانا عن هموم الشباب وإفراطهم ونزقهم، مثلما عبّروا عن آمالهم ورغباتهم ووفائهم ووقوفهم مع بعضهم بعضا عند الشدائد.

ولكنهم صوّروا أيضا ما يتعرّض له بعضهم من مآسي كقتل الأبوين ابنتهما الحامل بعد أن أجبراها على الإجهاض على يدي ولاّدة، اتقاء للفضيحة، أو تواطؤ المدّرسين في ما بينهم لإلقاء تبعات انتحار تلميذ على عاتق أحد رفاقه، بدل الاعتراف بدورهم في دفعه إلى الطريق المسدود.

المسرحية “تراجيديا طفولية” أثار فيها فيدكيند مختلف مسائل الحياة كالخير والشر والدين والأخلاق وخيبة الشباب

الخشبة مفروشة بالأتربة مثل ساحة قرية، تلوح فيها بعض الفوانيس الكهربائية، وفرقة موسيقية لها منصة متنقلة. الممثلون والممثلات يتنقلون على هذا الفضاء العضوي ليؤدّوا نحو أربعين دورا شملت مختلف الشرائح العمرية، حيث الرقص وتبادل القبل خلسة خلف الأبواب.

وتتوالى اللوحات لتحمل معها رغبات المراهقة والأحلام المثالية، وخزعبلات طفولية تدفع دفعا إلى هاوية بلا قرار، وذلك ما يحدث عندما يبعث كهول محدودو التفكير والرؤية إلى جحيم من الظلمات شببة تملك تصوّرا جديدا للعالم.

وتتقدّم المسرحية في لوحات متتالية حينا، ومتوازية حينا، ومتلازمة حينا آخر حيث تتشابك حكايات وجوه كهول مع شخصية غامضة، هو الرجل المقنّع، لتمثل الحياة في وجهها المنحرف والغريزي والمنزوع الجنس والمخفي. ما جعل العرض متميزا، والجمهور منبهرا يمرّ بحالات كثيرة تتراوح بين الإعجاب والتأثّر والارتباك والضحك، وينتهي بانبهاره بالشبيبة كوعد جميل بمستقبل أفضل.

أي أنه عمل جماعي بالأساس، استوجب كثيرا من الجهد لتقديم عرض مطهّر، يصوّر شبيبة تعيش لحظتها كما هي، وتسعى جاهدة لتجاوز أخطائها وجروحها وما تلقاه من عالم الكبار.

أبو بكر العيادي

( العرب )

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش