يحيى الحاج .. الساكن فينا حدّ العشق .. بقلم : يوسف الحمدان

 

يحيى الحاج .. الساكن فينا حدّ العشق ..
بقلم : يوسف الحمدان

كم هي بائسة كالحة هذه الحياة دون روح الفنان الإنسان يحيى الحاج التي تطفر بحيويتها وخفة ظلها وإنسانيتها التشيكوفية الفريدة ، كلما استبد بنا ضجر أو ملل أو بؤس أو حزن ، أو كلما التقيته عابرا في طرقات دربك أو ماكثا ومقيما بجوار روحك حتى مسرح آخر ..
يحيى الحاج الذي تجاوزت معرفتي به الثلاثة عقود ، هو هو ، وكما لو أنك التقيته للمرة الأولى بالرغم من تقادم زمن معرفتك به ، هو صاحب الوجه الطفلي المذهول والعين المدهوشة والضحكة المتقطعة الودودة والتعليق الساخر الذي لا تعرف أحيانا سببه وكما لو أنه يؤجل من خلاله حوارا آخر لم يقله بعد ، وربما لن يقوله أو ربما نساه في اللحظة ذاتها .
مهووس بالمسرح حد العشق والولع ، إذ لم أذكرة مرة أو يوما جمعني به حوارا أو نقاشا ليس له علاقة بالمسرح والمسرحيين ، وإن كان وصادف أن كان النقاش خارج دائرة المسرح ، فإنه بطريقة حواره الرشيقة والمبعثرة حد العبثية أحيانا يحيلها إلى المسرح ، وكما لو أن هذا النقاش فنا من فنون المسرح ، وخاصة الفن الساخر والكوميدي الذي اكتست به شخصيته الإنسانية المرحة المحببة ، والتي أحيانا يطعمها ببعض المفردات الإنجليزية والمصطلحات المعروفة ، ومن ثم يضحك ، ليجعلنا في دائرة الضحك ، ليحسم أمرها بكلمته المعهودة ( ok ( ..
يحيى الحاج الفنان المثقف الأصيل ، الذي ما إن يأخذنا الحوار معه إلى حد التماهي في الود والبساطة والحب ، حتى يدندن متعشقا ببعض الأغنيات السودانية التي سكنت ذاكرته ووجدانه ، دون أن يستأذنك ، الأمر الذي جعلنا ونحن في كل فيء لهذه اللقاءات ، ننتظر هذه ( الطلعة الحاجية ) ، فيستجيب لها دون أن نطلبها شخصيا منه ، لتصبح على مدى الأيام والأزمان ( أيقونة ) يحيى الحاج المأثورة لدى أصدقائه في كل لقاء يجمعهم به ، بعد العروض المسرحية أو في لحظات التجلي الجميلة التي تأخذنا معها حتى الفجر ، وبعدها يغادرك ( بومحمد ) حتى دون أن يستأذنك وكما لو أنه يؤكد بذلك السلوك بقائه معك ، حيث لا وداع ولا غياب .
كل شيء يبدو في الحاج غريبا ، يبدو في الوقت نفسه عاديا وطبيعيا ولا غرابة فيه .
وما أجمل اللحظات التي يتداعى فيها الصديق الحاج ، حين يكون معقبا على أحد العروض ، إذ يستطرد كثيرا في رأيه ، ولكن أجمل ما في الأمر ، أنه يبدو وهو يعلق أو يعقب ، أشبه بممثل يؤدي دوره أمام الحضور ، حيث تشديده على بعض المصطلحات والمفردات المسرحية وانفجارها من بين شفتيه ، وحيث الحركة الطفلية العابثة التي ترافق هذا التعليق أو التعقيب ، أصبحا ميسمين من مياسم شخصية الحاج ، خاصة وأنه يستكملهما بعد انتهاء الندوة الفكرية والتعقيبية بنفس الحماس ذاته مع أصدقاء وضيوف المهرجان .
ولعلك تستشعر ردود أفعال الحاج الجميل بومحمد أحيانا من خلال تقافز عدستي نظارته الطبية السميكة على حاجبيه وعلى أرنبة أنفه ، وحينها تتساءل : ما المصيبة التي يخبؤها الحاج للمنتدي أو المعقب أو لمخرج العرض المسرحي أو المتحاور معه ؟ ولكنها في نهاية الأمر تصبح لدى من يعرف الجميل النقي البسيط الإنسان مصيبة محببة وجميلة ومقبولة .
يحيى الحاج ، الذي كلما ألتقيه أشعر دائما أنه في مهام عاجلة ومهمة على الدوام ، خاصة ما إذا غادر الجلسة وهو متأبطا حقيبته أو ملفه ، هكذا ولا تعرف أحيانا ما الذي يشغله ، ولكنه يشعرك دائما أنه مشغول على الدوام ، فكل أمر يقوم أو يصدر من الجميل بومحمد يحمل في الداخل نقائضه الجميلة .
ولا أنسى اللحظة التي زعم فيها ذات ليلة صحبة جميلة معه ومع الفنان محمود أبو العباس ، أنه يعرف المكان الذي سنقصده ، لنجد أنفسنا في مكان آخر لا علاقة له بالمكان الذي سنقصده ، لننفجر ضحكا وليغني حينها الفنان بومحمد أغنية سودانية ، ليؤكد لنا أن الطريق الذي سنقصده هو طريقنا نحن أولا قبل أي طريق .
هو كائن مذ عرفته مفروط بالحركة الزائدة كما لدى الأطفال ، ولكنه إذ يفرط في هذه الحركة يعود إليك جميلا وادعا في نفس الدائرة التي غادرها ، وليوهمك بكسل أعضاء جسدك التي مستقرها حيث تكون لا حيث أن تغادرك في اللحظة لتكون معك في نفس الدائرة .
لم ألتقي يوما أحدا من شباب وأساتذة المسرح في الإمارات الحبيبة ، إلا وكان يحيى الحاج حاضرا بقوة في حياتهم المسرحية ، وأجمل ما في الأمر انهم كلهم حين يتحدثون عنه بود ، لا تفارق شفاههم الابتسامة ، وكما لو أن كاريزما الكوميديا الإنسانية في المسرح الإماراتي .
ومن أصعب المواقف واللحظات التي لمحتها في كل كيان الفنان الصديق يحيى الحاج ، هي عندما رأيته حزينا مثقلا تبدو هموم الدنيا كله على وجهه وجسده في مطار دبي إبان توجهنا إلى الجزائر كما أعتقد للمشاركة في مهرجان الهيئة العربية للمسرح ، وعندما سألته عن أحواله منتظرا منه ذلك الرد الخفيف المرح الذي اعتدته منه وهو يعانقني ( فينك يا يوسف ؟ ) ، فإذا به يقول لي بحزن ومرارة : ماتت زوجتي يا يوسف ، وأخذ يكرر هذه العبارة والدمع كما يبدو يغرق بكريمه قلبه ووجدانه .
ما أصعب هذه اللحظة ، وما أشد وقع فقدنا لك أيها الفنان الإنسان الذي سيظل كل جميل فيك يسكننا وكما لو أننا اللحظة نحيا بك ..
لروحك السلام والطمأنينة والرحمة أيها الفارس الذي لم يترجل بعد ولن يترجل من أفئدتنا ووجداننا وذاكرتنا ..

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *