«هنري الرابع» لبيرانديللو: الخيط الرفيع بين العقل والجنون

 

ابراهيم العريس – مجلة الفنون المسرحية 
 
 
للوهلة الأولى، وانطلاقاً من عنوانها، تبدو مسرحية «هنري الرابع» للكاتب الإيطالي لويجي بيرانديللو، وكأنها اقتباس لواحدة من مسرحيات شكسبير التاريخية. لكن الأمر ليس كذلك على الإطلاق. مسرحية بيرانديللو هذه هي، مثل القسم الأكبر من مسرحياته، عمل معاصر لا علاقة أساسية له، لا بشكسبير ولا بحياة ذلك الملك التاريخي الشهير الذي يمكن ان يكون مسرح شكسبير من أهم المؤرخين لحياته وجرائمه. مسرحية بيرانديللو هي، في نهاية الأمر، مسرحية عن ازدواج الشخصية، وعن التماهي بين الممثل ودوره، كما حال بعض أهم مسرحيات بيرانديللو وفي مقدمها «ست شخصيات تبحث عن مؤلف». و «هنري الرابع» – أو بالإيطالية «إنريكو الرابع» -، تتوسط، زمنياً، مسار بيرانديللو الكتابي، إذ إنها كتبت، ونشرت وقدمت للمرة الأولى في العام 1922، أي بعد 24 سنة من بدايات مؤلفها، وقبل 22 سنة من كتابته آخر مسرحية له «عمالقة الجبل» في العام 1934. ومن هنا لا تعتبر المسرحية التي نتحدث عنها هنا، فقط واسطة العقد في مسار هذا الكاتب، بل خصوصاً ذروة هذا العمل إذ إنها حملت في آن معاً، خلاصة تجربته السابقة، وإرهاصات مسرحياته التي سيكتبها خلال السنوات العشر التالية. ومن هنا أهميتها الفائقة، وما يجعلها أكثر مسرحيات الكاتب الإيطالي الكبير، تقديماً على خشبات المسرح حتى أيامنا هذه.
 
> كما أشرنا، مسرحية «هنري الرابع» مسرحية معاصرة. الشخصية المحورية فيها، شخصية نبيل كهل في مقتبل العمر، يعيش في فيلا حديثة في منطقة إيطالية راقية في زمننا الراهن هذا. وهذا السيد النبيل يعيش الآن، جنونه الخاص المتمركز من حول عشرين سنة من حياته قضاها وهو يمثل على الخشبة دور الملك هنري الرابع – الامبراطور الألماني-. والذي حدث هو انه خلال مسيرة كارنفالية كان خلالها يرتدي ثيابه المسرحية التي كان يرتديها للقيام بهذا الدور، يقع صاحبنا من على حصانه ويُغشى عليه وحين يفيق يخيّل إليه، لجنون أصابه، أنه في حقيقة الأمر ذلك الامبراطور. وهكذا يعيش في الفيلا تحت قناع تلك الشخصية فارضاً على أهل الفيلا بمن فيهم الخدم ان يتزيوا دائماً بثياب عصر الإمبراطور، الذي لا يتخلى هو عن ملابسه بالطبع. وإضافة الى هذا يتوجب على حياة الفيلا بأسرها ان تتطابق مع الحياة الامبراطورية القديمة التي عرفها هو، من خلال ديكورات وأزياء المسرحية التي مثّلها طوال كل تلك السنوات التي لم يكن فقد فيها عقله بعد. اما اليوم، مع بداية المسرحية فها هم أربعة اشخاص يأتون لإنقاذه مما هو فيه: ماتيلدا سبينا، المرأة التي كانت حبيبته ذات يوم وعادت وتخلت عنه، لكنها أتت حفظاً للود القديم. ومع المرأة هناك عشيقها الجديد بلكريدي، وابنتها فريدا، وخطيب هذه الأخيرة، الذي هو في الأساس ابن اخت «الامبراطور». وهؤلاء اذ يأتون الآن في محاولة لإنقاذ «إنريكو الرابع» يحضرون معهم طبيباً، يرى ان أفضل طريقة للمعالجة ستكون في إحداث صدمة لدى المريض تكشف له حقيقة أمره، من خلال عرض مشاهد أمامه تنتمي الى الماضي وإلى الحاضر معاً، وتتعلق بماتيلدا وابنتها فريدا. بيد ان «إنريكو» ما إن يجابه بعلاج الصدمة هذا، حتى يثور غضبه إذ يتبين لنا بسرعة ان الدور الحاضر الذي يلعبه في حياته، كان يخدمه طوال السنوات الأخيرة إذ يوفر له حماية من مجابهة الواقع الذي كان عبره يعزيه، من دون ان يعطيه أي أبعاد رضا واكتفاء حقيقية. وهنا إذ يكشف أنريكو نفسه امام نفسه، نجده يكشف في الوقت عينه الأمر ووعيه له، امام أربعة من مرافقيه، يفضحونه امام ماتيلدا. لكن ماتيلدا لا تريد ابداً ان تصدق ان «إنريكو» يمكن ان يكون واعياً ما ألم به، وأنه إنما يواصل تمثيل دور يدرك هو، قبل الآخرين، انه دور تمثيلي نقله من خشبة المسرح الى مسرح الحياة لا أكثر. وهنا يتدخل إنريكو نفسه ليقول انه، قبل ثماني سنوات، حين «استعاد» عقله، بعد فترة الجنون الأولى، اكتشف بسرعة ان الأمر سيان وأنه يمكن ان يكون مرتاحاً وسعيداً في الحالين معاً: حال الجنون وحال امتلاك العقل. إذاً؟ إذاً قرر ان يبقي على قناع الجنون، لأن هذا القناع الأخير أخف وطأة من القناع الآخر. والأدهى من هذا ان الرجل سرعان ما يكشف أمام المتجمعين المذهولين من حوله، ان حصانه يوم الكرنفال لم يسقط صدفة، بل ان من أوقعه عمداً كان بلكريدي نفسه، الذي إنما أراد ان يتخلص منه. اما هو فإنه استمرأ اللعبة تاركاً المجال لكل واحد ان يعيش ويتصرف على هواه. هنا، إذ يدرك بلكريدي لعبة إنريكو هذه ويفهم ان غريمه في غرام ماتيلدا سليم العقل، ينهار تماماً ويُحمل هالكاً فاقداً عقله الى الخارج، بعد ان يكون إنريكو في ثورة غضبه قد قتله. وهنا امام هذا الحدث الجديد، وإذ «يكتشف» إنريكو انه الآن بات مرتكباً جريمة سيعاقبه عليها القانون، يرسم خاتمة للدائرة: يدّعي مرة أخرى الجنون، ويعود سيرته الامبراطور إنريكو الرابع، حتى يفلت من العقاب. في معنى ان عليه من الآن وصاعداً ألا يتوقف عن الجنون وعن لعب الدور – القناع، حتى النهاية.
 
> من الواضح، بالنسبة الى هذه المسرحية، التي اعتبرت دائماً من أعمق وأجمل ما كتب بيرانديللو، ان من الخطأ النظر إليها على اعتبارها عملاً ذا أطروحة أو رسالة أخلاقية أو فكرية. فبالنسبة الى بيرانديللو الذي كان دأبه الدائم ان يرسم، أو حتى يزيل، الخط الفاصل بين الحقيقة والوهم، لا يتوجب على الفنان المبدع ابداً ان يترك المكان للفيلسوف، او لفيلسوف الأخلاق في شكل خاص. لكل دوره. ومن هنا كان حسب بيرانديللو، في هذا العمل، كما في أعماله الأخرى، ان يشعر بأنه وصل الى غايته من خلال خلق تلك العلاقة الجاذبة – النابذة بين الوهم والحقيقة، بين الواقع والقناع. من المؤكد هنا ان رسمه المتقن، والمبرر في كل لحظة لملامح شخصية نبيله الإيطالي اللاعب دور «إنريكو» على الخشبة أولاً ثم في الحياة. وفي الحياة كاختيار طوعي أولاً ثم كضرورة وجودية، هذا الرسم يستجيب الى تلك الرغبة الفنية والإنسانية التي طالما عبّر عنها في كل أعماله. لكنه هنا يوصلها الى ذورتها من خلال تأرجح بطله بين تناقضيه وحاليه. فالواقع ان «إنريكو» إذا كان يناضل هنا في كل لحظة من لحظات هذه المسرحية، فإنه يناضل ضد أشباحه الخاصة. وهذا النضال يرميه في عزلته الواقية له في المرتين: حين كان يلعب، ثم حين صار اللعب ضرورة. ومن هنا ندرك عبثية كل المحاولات التي يقوم بها المحيطون به، من اجل «إنقاذه» فيما هو يجابههم بـ «كشف سره». ومن هنا ايضاً، ما يبدو لنا في نهاية الأمر انه اذا كان ثمة ما يفعله إنريكو طوال هذه المسرحية فإن هذا ليس سوى سرده مونولوغاً طويلاً، ينتمي الى تيار وعي مبتكر، لا تعود الشخصيات الأخرى سوى جمهور يصغي إليه عاجزاً عن أي فعل. وهذا المونولوغ هو في الحقيقة جوهر هذه المسرحية، وضامن بعدها الإنساني العميق المنتمي حقاً الى الحداثة.
 
> انطلاقاً من هنا يمكن القول، بالطبع، ان لويجي بيرانديللو (1867 – 1936)، إنما كتب هذا العمل في ارتباط تام مع هواجسه من حول تأملاته في الشرط الإنساني خلال الزمن الصاخب والمتأرجح الذي عاش فيه. ونعرف ان هذا الكاتب الذي كان تأرجحه السياسي، أحياناً، على ضخامة والتباس تأرجح زمنه، أبدع في المسرح وفي القصة القصيرة وكان واحداً من كبار كتّاب ايطاليا خلال الثلث الأول من القرن العشرين، حتى وإن كانت مكانته لطخت خلال بعض الوقت بسبب تواطؤ غير واضح قام بينه وبين فاشيي موسوليني. غير ان هذا لم ينقص – بالطبع – من قيمته ومكانته كمبدع، ترك للحياة الثقافية العالمية، بعض أبرز المسرحيات التي شكلت وتشكل بعض أفضل ما في الريبرتوار العالمي، من «ستّ شخصيات تبحث عن مؤلف»، الى «الجرة» ومن «الإجازة» الى «قواعد اللعبة» مروراً بـ «لذة ان يكون المرء نزيهاً» و «الأحمق» و «الابن الآخر» و «كما تريدني» وغيرها.

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *