هاملت شكسبير تحليل لشخصيته وتردده

قاسم حسين صالح 

تتعدد النظريات السيكولوجية في تفسير ” الشخصية ” ، وكثرة عددها قد لا تشكل مفارقة ، ولكن المفارقة هي انك حين تقرأ نظرية منها تقتنع بها ، فانك ما أن تنتقل الى نظرية أخرى مناقضة لها حتى تقتنع بالأخرى المناقضة لها…

أفيكون الإنسان هو ملتقى كل التناقضات ؟!

لقد فعل ذلك شكسبير في هاملت .و شكسبير ـ هذا العقل الحاذق المبدع ـ سبق علماء النفس في طرحه لمفهوم أن ” الشخصية ” لا يمكن تفسيرها بنظرية سيكولوجية واحدة . ولهذا يمكن القول إن أحد أسباب خلود شكسبير هو مسرحيته ” هاملت ” . وان أحد أسباب خلود مسرحيته هذه هو قدرة شخصية هاملت على استيعاب عدد قد لاينتني من التفسيرات المتشابهة ضمن سياق فكري واحد ، والمتباينة في سياقات فكرية مختلفة . فمسرحية ” هاملت ” ــ كما يصفها الشاعر والناقد وأستاذ الأدب البولندي ، جون كوت ــ أشبه بأسفنجة من شأنها إن تتشرب كل مشاكل عصرنا .

في حالتنا الابداعية هذه ـ ” هاملت ” ـ سنتقدم مسحا” مكثفا” لأهم الاجتهادات التي حاولت تفسير شخصية هاملت وتردده على وجه الدقة ، ثم ننتهي بطرح وجهة نظرنا في شخصية هاملت وتردده بالذات . وهي وجهة نظر جديدة قد يجد فيها القارئ أنها تشكل إضافة للتفسيرات القائمة . 

أولا. هاملت شكسبير في اجتهادات المفسرين 

برغم تعدد وتنوع هذه التفسيرات فانه يمكن وضعها على محاور رئيسة بتصنيفات مختلفة . على أن التداخل بينها يبقى قائما” في أي تصنيف محتمل . وسيجري فرز أهم التفسيرات لشخصية هاملت وتردده الى ثلاثة أصناف هي : تفسيرات سياسية ، وتفسيرات فنية وأخلاقية ، ثم تفسيرات سيكولوجية . 

على أن هذا سيتم بعد إن نتعرف بشكل منفصل ومكثف على وجهات نظر متميزة لستة من النقاد والباحثين هم : كولردجColeridge ، هازلت Hazlitt ، برادلي Bradley، كليمن Clemen ، ماك Mack ، واورنستين Ornstein .

أ‌. كولردج:

يتساءل كولردج بدءا” فيقول : ماذا كان يقصد شكسبير حين رسم شخصية هاملت ؟ ويضيف : إن شكسبير لم يكتب ابدا” بدون تخطيط دقيق مسبق ، فماذا كان تخطيطه حين اخرج هذه المأساة ؟

ويجيب : باعتقادي، هو انه كان يتمعن في القصة قبل كتابتها كما يتمعن الرسام موضوعه وادواته قبل أن يرسم . ولقد قصد شكسبير في هاملت تصوير وجهة نظر الإنسان بالعالم الخارجي، في أن كل حوادثه وموضوعاته هي ، نسبيا”، مظلمة وغامضة ولا رغبة له فيها بحد ذاتها . وان الاهتمام بها يبدأ فقط حين تنعكس تلك الحوادث والموضوعات الخارجية بنفس الطريقة التي ينظر بها الرجل ذو الخيال المفعم بالنشاط، الذي يغمض عينه ليرى أشياء سابقة تركت انطباعاتها فيه. 

لقد وضع شكسبير هاملت في ظروف مثيرة للغاية نادرا” ما يتعرض لها البشر . فهو الوريث المفترض للعرش . ووالده كان قد توفي في ظروف غامضة، ووالدته ابعدته عن العرش بعد أن تزوجت من عمه . وكان شبح والده يظهر ليؤكد له بأنه قتل من قبل أخيه الذي اصبح الآن ملكا” وزوجا” لمن كانت في السابق زوجته. 

وكان تأثير ذلك على الابن هاملت ليس فقط حثه على اخذ الثأر بل ، وأيضا” ، تساؤلات لا نهاية لها … عزم وتصميم وإلحاح وقلق العقل من اجل الفعل، ورغبة ملحّة مضادة من اجل الهرب من ذلك الفعل. ونوم وتوبيخات متواصلة لنفسه على كسله وإهماله. فيحدث ان تتبخر كل طاقته على التصميم بفعل هذه التوبيخات. وهاملت ليس جبانا”، فقد اعتبر واحدا” من شجعان زمانه، ولم يكن تردده بفعل الرغبة في التدبير وبعد النظر، ولم يكن توانيه من اجل فهم وإدراك اعمق ، ولكنه كان فقط يكره ويمقت ذلك الفعل.

انه لا حيرة ولا تردد حول هاملت بقدر ما يتعلق بشعوره هو وإحساسه تجاه واجبه انه يعرف جيدا” ماذا يجب عليه أن يفعل. وكان كثيرا” ما يعمل فكره لأن يفعل ذلك . ولقد انشطر على نفسه فكان شطره الثاني ثورة غاضبة وهذيانا” وانفعالا” ضد نفسه على إهماله تنفيذ واجبه المهيب الذي أوكل إليه.

لقد أراد شكسبير أن يترك فينا انطباعا” حول حقيقة : إن الفعل هو النهاية الحاسمة للوجود. وان القدرات الفائقة للعقل وحدّة الذهن وألمعية الفكر لا قيمة لها. وأنها ــ لسوء الحظ ــ اذا سحبتنا وجعلتنا نتخلى عن كرهنا لفعل معين ، فإنها تقودنا لأن نفكر ونفكر في ذلك الفعل حتى يكون الوقت قد مرّ وفاتت اللحظة التي كان بالإمكان أن نفعل فيها شيئا” مؤثرا”.

وفي تنفيذ هذه الحقيقة الأخلاقية، فان شكسبير اظهر كامل براعته. فكل شيء ذو هدف ورائع بطبيعته كان في شخصية هاملت. باستثناء خاصية واحدة، هي انه كان رجلا يعيش التأمل والتفكير دعي لأن يفعل وبكل دافع إنساني والهي ، لكن شاغله العظيم في حياته كان يلهيه في اتخاذ قرار دون فعل. 

ب. هازلت:

هاملت هو مجرد اسم ، وكل أقواله وخطبه وحتى صياغاته الساذجة هي من عقل الشاعر شكسبير، فهل يعني هذا إنها غير واقعية ؟. إنها واقعية كواقع أفكارنا الخاصة.. إننا نحن هاملت، وهذه المسرحية لها صدق النبؤة إضافة الى كونها تاريخا”.

ومهما كان هاملت منهمكا” في التفكير وسوداويا” طوال حظه العاثر، أو حظوظ الآخرين، وانه كان عليه أن يشق طريقه في عتمة قاتمة ، ووجد في نفسه انه كثير عليه أن يكون هو الشمس. وآيا كان هو الشمعة الذهبية في نهار معتم يتصاعد فيه الضباب حتى ليخنق أنفاسه، ووجد في العالم خواء ولا شيء يستحق الذكر. ومهما كان قد خبر ” أوجاع الحب الذي استخف به ” ، فانه هو الذي أحس بأن عقله يغوص في داخله، وان الحزن يعتصر قلبه كالمرض، وانه لم يكن مقتدرا” على التحرر من القلق في وقت يرى فيه الفساد يحوم حوله كالشبح، وحيث قوته للفعل كانت تأكلها أفكاره. انه هو الذي كان يبدو الكون أمامه مطلقا” لا نهاية له ، ورأى في نفسه انه لا يساوي شيئا”. وهو الذي أحالته قساوة آلامه الى إنسان غير مبال بما يحدث، فمضى يمثل بسخرية، لأنه وجد في التمثيل الساخر افضل مصدر له في فضح فساد الحياة. هذا هو هاملت الحقيقي .

إن مسرحية هاملت واحدة من مسرحيات شكسبير التي نفكر فيها كثيرا”، لأنها تزخر بانعكاسات حادة للحياة الإنسانية. ولأن هموم هاملت قابلة الانتقال لأن تكون هموما” عامة على الصعيد الإنساني . فكل شيء يحدث لهاملت نطبّقه على أنفسنا، لأنه يطبّقها على نفسه كوسائل عقلانية عامة. انه أخلاقي عظيم . وما يجعله جديرا” بالحضور انه يسمو بأحاسيسه وخبراته دون تحذلق أو مساومة. وإذا كان ” لير” قد تميز بآلامه الكبيرة، فان هاملت يتميز بعبقريته وأصالته وشخصية متطورة غير قابلة للدراسة.

وشخصية هاملت تقف معتدة بنفسها لا تميزها قوة الإرادة ولا حتى الألم . لكنها تتميز بتصفية وتنقية الأفكار والوجدان . انه بطل على افضل ما يمكن إن يكون الإنسان . ولكنه كان شابا” وأميرا” مبتدئا”، مملوءا” بحماسة عالية وحساسية سريعة. وهو يبدو غير قادر على فعل سريع، ومع ذلك اقدم على أفعال متطرفة بصورة ارتجالية حيث لم يكن لديه الوقت لأن يعكس ذلك في فكره، كما في مشهد قتله لبولونيوس.

وفي أوقات أخرى ، وحين يكون متجها”، يبقى متحيرا”، غير قادر على اتخاذ قرار. شكوك، يتوانى حتى تفوته لحظة الفعل، فينتكس نحو الكسل والتراخي والتفكير بعمق مّرة أخرى .

انه أمير الفلاسفة التأمليين . ولأنه لم يفعل شيئا” فانه كان يفكر في عجزه. وكان تفكيره في هذا العجز والتواني يوفر له فرصة أخرى للتكاسل. ولم يكن مقته للجريمة سبب تباطؤه، ولكن ولعه في أن ينغمس بخياله في تجسيد فداحة وشناعة الجريمة وتنقية خططه للأخذ بالثأر اكثر من وضع هذه الخطط موضع التنفيذ الفعلي . إن علته الأساسية هي أن يفّكر لا أن يفعل. وكان يجد في اتفه الحجج ذريعة لأن يفكر فيها، فتلهيه عن هدفه الرئيس .

جـ . برادلي:

إن احدا” لا يمكنه أن يحكم على مزاج هاملت بأنه ” الميلانخوليا ــ السواد ” بالمعنى السائد للكلمة. فلا يبدو ما يشير الى ذلك . ولكن يمكن أن يحكم من خلال مزاج هاملت بأنه يميل الى عدم الاستقرار العصبي، من خلال تقلّبه السريع، وربما تطرّفه في تغيرات الإحساس والمزاج. وقد أطلق الاليزابثيون على هذا النوع من المزاج ” الميلانخوليا” ويبدو إن هاملت كان نموذجا لها.

إننا لا نكون مخطئين حين نعزو لهاملت، في أيامه الأولى الحساسية الحادة. ويمكن أن نطلق عليها ” أخلاق” اذا كانت هذه الكلمة تدلل على المعنى . وفي حساسيته الأخلاقية هذه يكمن الخطر دون شك . فكل هزّة عنيفة يتلقاها تثير حساسيته الأخلاقية بأقصى حدتها. وهزّة كهذه يمكن أن تنتهي بنتائج مأساوية. ولهذا فان هاملت تستحق فعلا” عنوان ” مأساة الأخلاق المثالية ، أو ” مأساة الفكر “.

ومع هذا المزاج وهذه الحساسية، نجد في هاملت، في أيامه الأولى وفي أيامه الأخيرة، العبقري المفكر. وهذه هي الصفة الرئيسة التي جعلته مختلفا” عن كل المحيطين به، الطيبين والرديئين على السواء، وهي التي تميزه أيضا” عن معظم أبطال شكسبير الآخرين . 

إن تظاهر هملت بالجنون يمكن أن يكون، جزئيا” ، بسبب خوفه من الواقع ، وبسبب غريزة الحفاظ على الذات، وإدراكه المسبق بأن تظاهره هذا سيمكّنه من أن يتكلم لينّفس عن هول العبء الثقيل الذي يضغط على قلبه وعلى عقله،فضلا على خوفه من كونه غير قادر على كبت أقواله.

وإذا كان المتخصص بالأمراض العقلية يسمى هذه الحالة ” ميلانخوليا” ويقرر دقائقها، فليس لدي أي اعتراض . وسأكون ممتنا” له حول تأكيده من أن حقيقة ” ميلانخوليا ـ سوداوية ” هاملت هي ليست مجرد كبت عام للنفس . ولا يوجد لدي أدنى شك من أن الكثير من قرّاء المسرحية سوف يفهمونها بشكل افضل اذا اطلعوا مسبقا” على ” الميلانخوليا” في كتب الأمراض العقلية . وإذا كنا نميل الى استخدام كلمة ” مرض ” فان حالة هاملت هي في حقيقتها حالة مرضية ، لا طاقة إرادية قادرة على إنهائها .

غير انه ليس من العدل أن نطلق على هاملت ” دراسة في الميلانخوليا” برغم أنها تتضمن هذه الدراسة.

إن ” ميلانخوليا” هاملت شيء مختلف عن الجنون . برغم أنها يمكن أن تنتهي الى الجنون . إن الرغبة الشديدة في الموت تصبح دافعا” لا يقاوم لتدمير الذات. واضطراب المشاعر والإرادة يمكن إن يتوسع ليشمل العقل . والوهم يمكن أن يتصاعد ، والإنسان يمكن أن يصبح، كما يقال ، غير قادر وغير مسؤول . ولكن ” ميلانخوليا” هاملت تختلف عن هذه المواصفات، وتختلف كلية عن الجنون الذي يتظاهر به. وهو قطعا” حين يكون وحيدا” أو بصحبة هوراشيو، يظهر علامات هذا الجنون .

إن الرجل الذي يعاني كما يعاني هاملت- وآلاف يعانون في أعمالهم بدرجة اقل أو اكثر ـ يعدّون غير مسؤولين، لا من قبل الآخرين ولا من قبل أنفسهم . ويبقى ذلك الشعور الحاد تجاه المسؤولية.

إن حالة هاملت هي ليست من الحالات التي لا يمكن للعقل السليم أن يتصورها. إنها حالة عادية. وليست أكثر صعوبة من الإدراك للآلام والمآسي العظيمة لعطيل وانطونيو، وما كبث.

د. كليمن:

إن مخيلة هاملت تكشف عن خلفية ثقافية واسعة لبطل يمتلك مدى واسعا” ومتنوعا” من الخبرات. والاستعارات المجازية المأخوذة من العلوم الطبيعية توظف بلغة هاملت الخاصة وتؤكد قدرته على الملاحظة وحذاقته في النقد. ومن جهة أخرى يشكل هاملت ” أسطورة إغريقية “. فهو ليس متألقا” مع المسرح والتمثيل حسب ، بل ومع الفنون الجميلة أيضا”، مع الصقور والصيد، مع استراتيجية العمل العسكري، مع طريقة البلاط في الحياة.

كل هذه المجالات تكشف شخصية هاملت ” كرجل بلاط” وجندي وباحث على حد تعبير أو فيليا. وتستحثه مخيلته في أن يحّول خيالاته هذه الى اعتبارات حياتية بتطبيقات مناسبة للمواقف والأشخاص والأمزجة.

إن أوامر هاملت لها مستويات متعددة من التعبير. وهو ينفرد بقدرته على التساوق ووزن الأمور طبقا” لمخيلته وتبعا” للموقف والشخص الذي يخاطبه. وقابليته على التكيف وبراعته خاصية أخرى في استخدام هاملت لمخيلته اللغوية.

إن هذا المدى الواسع للمخيلة يمكن أن يخدمه ليكون عونا” له على أمزجته المتصارعة ووجوده الممزّق بين تناقضات ومزاج لا يستقر . هذه الخاصية التي أكد علها بشكل خاص، وعزيت، جزئيا” الى ” الملانخوليا” تكشف عن نفسها في التغير المفاجئ للّغة، وبوضع عبارة بجانب أخرى تتباينان في البيان والأسلوب.

إن مخيلة هاملت، التي تسمي الأشياء بمسمياتها، تستلزم حرية خاصة كان لا بد أن يحصل علها عن طريق تظاهره بالجنون. فهاملت يحتاج الى الخيال ” لمزاجه الغريب” وهو سيفضح نفسه لو أنه أستخدم لغة مباشرة واضحة. ولهذا كان عليه أن يتكلم بغموض ليخفي المعنى الحقيقي تحت ستار المراوغات والتلاعبات اللفظية والخيالات والحكايات الرمزية. والذي يحدث إن الشخوص الآخرين يعمّقون اعتقادهم بأنه مجنون، غير أن جمهور المشاهدين يستطيع النفاذ الى حقيقة الموقف. فمن خلال ذلك القناع من ” المزاج الغريب” يقول هاملت الكثير من الأشياء اللاذعة . وهكذا نجد أن مخيلة هاملت تلعب دورا” جديدا” في دراما شكسبير لا يشبهها في وظيفتها سوى مخيلة الملك ” لير”.

هـ . مــاك:

إن الصفة الأساسية التي تميز مسرحية هاملت هي الغموض. ونحن كثيرا” ما نسمع بأن كل عمل فني لا بد أن يكتنفه الغموض، ولكن الغموض في هاملت شيء آخر. فنحن نشعر بوجوده في عدد لا يحصى من التعبيرات المتعلقة بتردد هاملت: بجنونه، بشبحه، بمعاملته لبولونيوس، أو أو فيليا ، أو أمه. وبالمجالات التي ما زالت قائمة حول ما اذا كانت المسرحية هي ” الفشل والإخفاق” ــ على حد تعبير اليوت ــ أو إنها أعظم فرحة نصر فني . وفيما ــ إن كانت هي فرحة النصر ــ تنتمي الى أعظم نظام تراجيدي؟. وان كانت هي تراجيديا، فهل يعتبر بطلها رجل الإحساس الأخلاقي الرفيع التهذيب ــ وجهة نظر برادلي ــ أم انه أناني ومغرور ــ وجهة نظر ماد أريجا -؟.

إن هاملت شخص ليس مجنونا” لحاله فقط. بل أنه السبب الذي يجعلنا ندرك بأن الجنون يكمن فينا أيضا”.؟

وهاملت يبدو قريبا” من منطق اللامنطق في الحياة أكثر من باقي تراجيديات شكسبير. ولا نعلم فيما كانت أسباب ذلك تكمن في أن شكسبير نقّح وأعاد قراءة المسرحية مرات حتى جاءت دوافعها أنيقة معتدّة بنفسها ، أو أن مشاكل هاملت قريبة من قلب شكسبير . على أننا ــ بوصفنا نقادا ــ تهمنا النتائج وتأثيرها أكثر من الأسباب.

إن عالم هاملت هو عالم الاستفهامات. فالمسرحية مليئة بالأسئلة، بالتنبيهات للخطر، بالآلام، وبالتأملات. وعالم هاملت هو عالم الألغاز. فلغة البطل الخاصة هي لغة ملغزة. وهو حين يتلاعب بالألفاظ يصل الى أعماقها. وطريقة كلامه في حالة جنونه، حتى لو كانت متهورة وفيها لف ودوران، فهي حبلى . حتى جنونه نفسه هو لغز، كم منه واقع ؟ كم منه تظاهر؟ ماذا يعني: عقل أم جنون؟!. إن عقل هاملت يلعب دون توقف بعالمه، من لغز الى لغز آخر . وغموض عالم هاملت هو جزء مهم تريد المسرحية أن تطلعنا عليه بدءا” من كلمتها الأولى في مشهدها الأول الذي يلفّه الغموض في منتصف تلك الليلة الباردة.

إن عظمة المعنى الأخلاقي في هاملت تصلنا بثلاث طرائق :

الأولى : تأكيد المسرحية على الضعف الإنساني ، وعدم استقرار أهداف الإنسان، وخضوع الإنسان الى الحظ والقدر. وكل هذا يمكن أن نطلق عليه جوانب الإخفاق في الإنسان.

الثانية: تتعلق بمسألة العجز الإنساني، من حيث توكيدها على التلوث والفساد : القرحة والخراج الخفي والتمشدق بالسعادة والسلام .

إن مشكلة هاملت هي ليست مشكلة الإرادة والعقل ” العقل الفلسفي أو الطبيعة المزاجية التي لا تقدر على الفعل السريع ” . كما أنها ليست مشكلة فردية قطعا” ز إنها ، بالأحرى، شرط أو ظرف يكون فيه الفرد نفسه غير مسؤول بشكل واضح أكثر من كونه رجلا” مريضا” يلام على فساد وتلوث يتفشى ليفترسه فيبيد نفسه والآخرين، الأبرياء والمذنبين، على حد ما ترى “Spurgeon” .

إن مشكلة هاملت ــ ببساطة ــ هي مشكلة المنتقم المطالب بالثأر، تحتم عليه تنفيذ أمر الشبح بقتل الملك. غير أن المشكلة تصاغ بلغة عالم خاص . فأمر الشبح يصبح بالنسبة لهاملت فعلا” لا مناص منه، وفي عالم يريد كهذا الفعل أن يحدث ، وان يتوصل الى تفاهم مع نقيضين .

إن العجز الإنساني يزود المشكلة بجانبها الثالث فهاملت لم يكن عليه أن يقبل فقط لغز وضع الإنسان بين الملائكة والبهائم. وليس عليه أن يفعل فقط في عالم معقد ورديء ، بل كان عليه، أيضا”، أن يفعل ضمن حدود قدرة الإنسان ” بمعتقدات رثّة فاسدة ” على حد تعبير اليوت.

و. اورنستين

إن مشكلة هاملت هي ليست مشكلة حيرة المفّكر. إنها تنشأ بسبب أن المسرحية تخلق شعورا” مدهشا” ومفاجئا” لحياة لا نجد فيها منطلقا” ولو بسيطا” لأفعالها المتشابكة . ولأننا غير قادرين على فهم أو تقبل تعقيدات البطل الشكسبيري المتعدد الجوانب، فأننا نبحث عن هاملت الأكثر انطلاقا وثباتا” وصفاء”، غير الذي تقدمه المسرحية.

إننا نحاول أن نصل الى الأفكار الأخلاقية الشكسبيرية عن طريق قراءتنا للسمات السيكولوجية والفلسفية الأخلاق الاليزابيثية. ولا شك أن براعة شكسبير في تصوير هذا الجانب تجعلنا نفهم لماذا يبدو البطل لنا هو الأعظم نبلا” والعقل الخالص.

إن ما يكون غير قريب من ضمير هاملت، لا يكون أيضا” قريبا” من ضمائرنا. انه صدق الإحساس الأخلاقي النقي الذي يجعلنا، من خلال المسرحية ، نتوحّد فيه فنكره ما يكره ونعجب بما يعجب به. وكما يقول النقاد، فنحن لا نتهم هاملت بأكثر مما يتهم هو نفسه: التواني في أخذ الثأر .

إن انطباعاتنا الأخلاقية عن شخصية هاملت تشتق أساسا” من أقواله أكثر مما تشتق من أفعاله. تشتق من معرفته البديهية بالجمال، بالعمق، وبنقاء طبيعته الأخلاقية .ومن خلال إقحامه بمهمة همجية هي الانتقام والتحرر من الوهم . وإذا كانت شخصيات وهمية خلقها دراما بارعة التكوين ، فان ما نحبه في هاملت هو الوهم داخل الوهم .

لقد خلق لنا شكسبير تعاطفا” مع هاملت تحول لأن يصبح قريبا” من فعل جعلنا نتقبل فظاظة هاملت تجاه أو فيليا وردود فعله تجاه موت بولونيوس، ورفضه السا ذج لقتل كلوديوس حين كان يصلي .

إن الحياة في هاملت غامضة وغير قابلة للتنبؤ، فلا أحد يستطيع أن يتنبأ بنتائج أفعاله. ولهذا فان هاملت، وليس النقاد الرومانتيكيون، الذي خلق مشكلة المتباطئ في أخذ الثأر . فمنذ ظهور هاملت أول مرّة كان منشغلا” في خفي مع المشكوك بأمره: كلوديوس. ولا نشعر طوال المسرحية أن هاملت قد تخلى عن الفعل .

ومشكلة الفعل في هاملت هي أنها تطرح سؤالا” مباشرا” عن تلك القضية الفلسفية التي تجبر الإنسان لأن يتأمل قيمة الوجود . ولأن موت أبيه قد جعل الحياة بنظره لا معنى لها، فانه كان طوال المسرحية يواجه تلك المشكلة الفلسفية القديمة :” أن يتعلم كيف يموت” ، كيف يعيش مع الحقيقة ومع فكرة الموت.

إن مشكلة هاملت هي ليست مسألة أن يتقبل موت أبيه، ولكن أن يتقبل عالما” أصبح الموت فيه بلا معنى وفقد رسالته من أجل الحياة. ولهذا كانت مسألة الانتقام ، بالنسبة له أمرا” ملزما” لكي يعطي من خلاله معنى وقيمة لوجود فارغ . وسواء أكان هاملت محقا” أم لا فانه كان يكيل الاتهام لنفسه مرة بعد أخرى لفشله في تنفيذ هذا الالتزام .

انتهت وجهة نظر اورنستين وبها تنتهي وجهات نظر ستة من النقاد المتخصصين بمسرح شكسبير ، قدمناها بشكل مكثف للغاية . وننتقل الآن لطرح مكثّف آخر لوجهات نظر أخرى ، مع إشارات لبعض من قدمنا لهم على وفق الصيغة التي أشرنا إليها في بدء حديثنا بفرز وجهات النظر هذه الى ثلاثة أصناف.

1ــ تفسيرات سياسية :

في عام 1595 أصدرت الملكة اليصابات مرسوما” يقضي بمنع عرض أية مسرحية :

” تمس من قريب أو بعيد أي أمر يتصل بالدين، أو يتعرض بنظام الحكم السائد في الدولة. لأن هذه الموضوعات ــ كما ورد المرسوم ــ لا يجوز أن يعالجها العلم والحكمة ولا يجوز عرض مثل هذه الموضوعات على كل جمهور. بل أن لا يتجاوز عرضها نطاق من يجمعون بين الحكمة والوقار” .

وبموجب هذا المرسوم قامت السلطات في عام 1597 بإغلاق جميع المسارح ،لأن واحدا” منها عرض مسرحية بعنوان ” جزيرة الكلاب” تتناول الاستبداد والرشوة.

وبموجب المرسوم نفسه منعت في عام 1601 مسرحية شكسبير ” ريكاردوس الثاني” لأنها تتناول موضوع خلع هذا الملك من العرش . ويشير النقاد الى أن شكسبير كان يهتم بالسياسة التي تتجلى بصورة واضحة في مسرحياته. وان شكسبير استطاع معالجة الموضوعات السياسية، برغم القرار أعلاه، بعد أن شعر بتسامح من الملكة التي فهمت المسرحيات التاريخية لشكسبير على أنها تهدف الى تشبيه الدولة بالسفينة المبحرة في بحر هائج تحف به الأخطار ، وبرغم ذلك تصل السفينة الى حيث الهدوء والاستقرار في عصر الملكة.

ويرى عدد من النقاد إن شكسبير استغل هذا الوضع واستطاع أن ينجح في الجمع بين إرضاء الملكة وبين أفكار ظهرت ثمارها بعد سنين في الثورة الفرنسية .

وإذا كان الأمر واضحا” في عدد من مسرحيات شكسبير، فان الأفكار والمضامين السياسية في شخصية هاملت قد لا يبدو للجميع واضحة وضوحها في شخصيات هنري الرابع وهنري السادس وادوارد الثاني وريكاردوس الثاني .

ومع ذلك فان شكسبير ، من وجهة نظر تفسيرات سياسية ، استطاع بمهارة أن يتولى في شخصية هاملت قضية سياسية مهمة هي الطبيعة الجدلية للتحولات السياسية التي تلحق بها التحولات الأخرى المرتبطة بطبيعة ذلك العصر، وكل عصر مماثل. ذلك أن المجتمع الإنكليزي في عصر شكسبير كان يعاني ، كما يشير أر نولد تويني ، من تصدّع على مستوى الدولة، حيث التناقض في النظام الإقطاعي، والتصّدع في الروح بمواصفاتها البرجوازية الناشئة. وأن شكسبير القادم من الريف حيث أبهة البلاط، ، حدد القوى التي يجب على البرجوازية أن تحركها اذا ما رغبت في قلب الملكية. وبما أن شكسبير مرتبط بالبلاط وبعادات القصر بحكم مهنته، فقد وجد نفسه مقسوما” بين الأثنين على حد تعبير جورج طومسون: بين الإقطاع وبين البرجوازية الناشئة. ويحسم الأمر هنا بأن شكسبير كان مرآة البرجوازية في عصره ، وان التردد هو السمة الرئيسة للشخصية البرجوازية. وأن هاملت حين سعى للقضاء على عمه ، فانه كان يريد القضاء على النظام الإقطاعي لكونه عجز عن تلبية حاجات عصر النهضة.

ويرى المخرج المسرحي العراقي ، سامي عبد الحميد ، أن تردد هاملت يرجع الى انغماسه في البحث عن مكامن الفساد في مجتمعه، ومحاولته إيجاد الطرق المناسبة للكشف عن مواضع الخيانة الأخرى التي وقف عليها أعداؤه. ويرى في هاملت أنه مصدر الرؤية وبؤرتها ، وهو تجاوز للواقع في حين يمثل الآخرون الواقع الذي لا يمتلكون القدرة على تجاوزه.

2. تفسيرات فنية وأخلاقية :

يقول فكتور هوجو إن شكسبير يمثل قمة شعراء الفن المسرحي . وان عبقريته تتجلى في عناصر الغرابة والتناقض في كسره لعمود أرسطو. وحين شاهد اسكندر توماس الأب عرضا” لإحدى مسرحيات شكسبير هتف قائلا” : ” أن الشاعر الاليزابيثي هذا أعظم خالق بعد الله “.

ويرى بعض النقاد أن تراجيديات شكسبير التزمت بوحدة الموضوع ، إذ يشكل الموضوع البؤرة التي تتجمع فيها خطوط المأساة متوازية ثم مشتبكة أحيانا” ومتعارضة أحيانا” أخرى . فلكل مأساة فكرة أو موضوع يعالج على عدد من المستويات وفي عدد من الحبكات تقوم بينها حبكة أساسية تدعمها، وقد تعارضها أو تسخر منها حبكات ثانوية.

وعلى رأي هؤلاء النقاد فان الموضوع في هاملت هو الموت. والعلاقة بين ألاب الميت أو الذي يموت أثناء المأساة، تنتظم الحبكات الثلاث في المسرحية : خط هاملت وأبيه الشبح ، وخط لايرتس وأبيه بولونيوس ، وخط فورتنبراس الأمير الشجاع المطالب بعرش أبيه الميت. والخطان الثاني والثالث ثانويان يخدمان الخط الأول.

وفي هذا السياق يعزى تردد هاملت الى أسباب فنية. فجورج سانتيانا يرى السبب يكمن في ضرورة إطالة المسرحية، حيث إن المأساة لا بد إن يمهد لها لتصل الى قمتها، في مشهد القتل الذي يحدث عادة في نهاية المسرحية.

لكن وجهة النظر هذه تنقضها وجهة نظر لـ ” هانمر ” الذي يرى عدم وجود أي مبرر يمنع هاملت من قتل عمه. ولا ضرورة أن يكون عدد القتلى في المسرحية ثمانية في حين كان موضوع المسرحية يهدف الى قتل شخص واحد.

ويبدو هاملت من وجهة نظر ” مركيد ” الروح التي تفتش عن الحقيقة والوصول الى الحقيقة ليس سهلا” . ويمثل كلوديوس نموذج الشر، وتمثل اوفيليا الدين والكنيسة، ويمثل بولونيوس مذهبها المطلق، أما فورتنبراس فيمثل الحرية، واما الشبح فهو صوت المسيحية. 

وهذا التفسير يلتقي مع تفسير ذي مضمون ديني لـ ” فيجيز ” الذي يعدّ هاملت هو الشاب المؤمن بالمثل والقيم المسيحية . وان قتل العم ، في حكم التعاليم المسيحية ، يعدّ تعديا” على صاحب السلطان الشرعي في المملكة ، من أجل طمع شخصي دنيوي .

وثمة التقاء بين هذا التفسير وتفسير اجتماعي واخلاقي آخر يرى إن مهمة هاملت لم تكن مجرد قتل عمه، بل إقناع الشعب بجريمة قتل لا يملك لأثباتها ما يكفي لتبرير الثأر، سوى دليل غير مادي هو شبح أبيه. وأنه لو قام بقتل عمه لأتهم الشعب بجريمة قتل ، ولتحول العم ” كلوديوس ” الى بطل ضحية وهاملت الى مجرم غادر لفّق تهمة ليتخذها ذريعة للوصول الى العرش .

غير إن التفسير الأخير هذا، من جهة أخرى مضادة ، ليس له ما يدلل على إن هاملت كان قد وضع الشعب في حساباته ضمن هذا التصور. وبافتراض ذلك فان هاملت كان قادرا” بتعاون صديقه هوراشيو على تدبير أمر ، أو بدون أي تدبير حين سنحت له الفرصة في مشهد الصلاة .

ويرى أحد الصحفيين النقاد أنه في الموقف الذي واجه هاملت رأى أن العدالة كقيمة عظيمة لا يمكن أن تتحقق بالثأر لأبيه والانتقام من القتلة . وفي الوقت نفسه بدت عملية القتل هذه من خلال ثقافته ورقته وشفافية وجدانه وحساسيته فعلا” بشعا” لا يمكن الإقدام عليه .

وقد ناقش ” برادلي” التفسيرات المختلفة التي تفسر إحجام هاملت عن الثأر لأبيه بضميره الخلقي ، وخلص منها الى أن الضمير وحده لا يكفي لتفسير هذا الإحجام . وأن في المسرحية نصوصا” تدلل على أن هاملت كان يحس أن التفكير على هذا النحو الأخلاقي ليس إلا لونا” من التفكير غير المجدي ، وان مسألة الضمير هذه ليست إلا عذرا” من أعذاره الكثيرة التي يبرر بها توانيه.

3. تفسيرات سيكولوجية: 

يعتقد ” برادلي” أن هاملت مصاب بمرض السوداوية، وهي محور المأساة والمسؤولة عن الحقيقة الأساسية في تقاعس هاملت. لأن السبب المباشر لهذا هو شعوره بالاشمئزاز من الحياة ومن كل ما فيها دون استثناء لشخصه. ويكون الاشمئزاز متباينا”” في شدته. إذ يصل أحيانا” مستوى التبلد. ومثل هذه الحالة من الشعور تنفر من أي عمل حازم .

ويذهب “بيرتون” الى أبعد من ذلك ، إذ يرى إن المزاج السوداوي كان عقدة سائدة في عصر شكسبير أعطى هاملت ،عن قصد ، مزاجا” سوداويا” غامضا”.

وعلى غرار هذا التفسير يطرح آخر رأيا” مشابها” فيعزو تردد هاملت الى داء العصر الجديد والشعور بالتمزق ينتاب الشاب كروح الهزيمة التي سادت ما بعد الحرب العالمية 1918 وأحساس الشباب بالبعث.

ويرى ” فولسن نايت” إن روح هاملت مريضة، وأن العالم بنظره سجن كبير مليء بالقذارة. وهو ـ هاملت ـ رجل مسلوب الإرادة واهن العزيمة يعاني من السوداوية.

وهناك نمط من التفسيرات تنطلق ممن القدرة العقلية عند هاملت . من بينها تفسير “دريدان ” الذي أقامه على مقولته ” العقول الكبيرة شديدة القرب من الجنون “. ففي رأيه إن عقل هاملت الراجح عجز عن أن يدفعه الى العمل برغم تلك الحوافز القوية. لأنه لم يكن بعيدا” تماما” عن الجنون .

وباستثناء التشخيص الأخير ” الجنون ” ـ الذي يلتقي مع تشخيص ” تيرش” و “سجمسمند ” و ” استنجر ” الذين يرون إن هاملت مصاب بمرض عقلي في نوع من الجنون ـ فان تفسير ” دريدان ” يلتقي مع تفسير ” شليجل ـ وكولردج ” اللذين يريان إن سبب تواني البطل هاملت هو التردد، وسبب هذا التردد هو أدمان الذهن على عادة التفكير والتكهن . وأن هاملت ينافق إزاء نفسه. وما شكوكه وتوجساته إلا الاعتذار يقصد منها تغطية حاجته الى التصميم . وانه لا يؤمن أيمانا” ثابتا” بنفسه، ولا بأي شيء آخر . انه يضع نفسه في متاهات الفكر.

ويطرح “بوس” نفس التفسير إذ يعزو تواني هاملت في الثأر لأبيه الى نشاطه العقلي والعاطفي الزائد .”وهذه إضافة من بوس” الذي يؤدي الى ضمور الإرادة .

ويرى كل من ” جوت وكولردج ” إن هاملت يمثل انموذجا” للعقل اللامع والذكاء المتوقد ، ولكن هيمن عليهما الضعف البشري والإرادة المشلولة. وأن هاملت يمثل انموذج العقل الأكاديمي الذي يغوص ويحلّق ولا يكاد يفعل شيئا”.

وهذا الرأي يتفق مع تفسير بريشت لمسرحية هاملت التي اعتبرها تراجيديا التناقض بين العقل والعمل ، حيث يستخدم هاملت بصورة غير مجدية المفهوم الجديد للعقل الذي تعلمه في جامعة وتنبرغ .

ويطرح كل من ” فرويد وارنست جونز ” تفسيرا” قائما” على عقدة أوديب. فأرنست جونز يعتقد إن هاملت كان ، خلال حياة أبيه، مرتبطا” بأمه كطفل يحبها حبا” آثما” لا يقّره المجتمع، فكان يغار من أبيه ويشعر بالأثم شعورا” عميقا”. وكانت النتيجة تغطية مصطنعة تبدو في إعجابه الشديد بصفات أبيه. ولما قتل أبوه أحس لا شعوريا” بفرح واغتباط إذ تخلص هاملت من منافسه العتيد. ولأن هاملت كان عاجزا” عن التخلص من أبيه ، فهو عاجز أيضا” عن التخلص من عمه لنفس الأسباب.

ونختتم هذه التفسيرات بالرأي التالي لفرويد:

” ما هي أسباب هذا التردد؟ . ذلك ما لا ينبس النص بحرف عنه، وبذلت في تفسيره محاولات لا تحصى فما أتت بطائل . فهاملت في نظر ” فيلهم ما يشتر ” اصلها “جوته” ولا تزال لها الغلبة حتى اليوم بمثل هذا الطراز من الرجال الذين شلت عندهم القدرة على العمل المباشر بفعل نمو العقل نموا” مفرطا”. وفي نظرة أخرى ، إن الشاعر أراد أن يصور لنا مريضا” مذبذبا” شارف النوراستانيا. بيد إن المسرحية ترينا أن هاملت بعيد كل البعد عن أن يصور في صورة إنسان فقد كل قدرة على العمل. فنحن نراه يعمل مرتين، الأولى في ثورة مباغتة حين يطعن المستّرق من وراء الستار. والثانية فعن قصد مبيت، بل في مكر جم ، وذلك حين يرسل برجلي لبلاط الى الموت الذي كان مدبرا” له هو . مبديا” في ذلك كل التحلل الخلقي الذي يمكن أن يتصف به أمير من أمراء عصر النهضة. فما الذي يوقفه على هذا النحو في إنفاذ التي كلفه بها شبح أبيه؟.

الجواب ــ والحديث لفرويد ــ نجده مرة أخرى في الطبيعة الخاصة لتلك المهمة . إن هاملت يستطيع أن يأتي كل شيء إلا أن يثأر من الرجل الذي أزاح أباه ، واحتل مكانه عند أمه. الرجل الذي يريه ـ اذن ـ رغباته الطفلية وقد تحققت .

وأنا ــ فرويد ــ إذ أقول ذلك أترجم في عبارة شعورية ما كان مقررا” بقاؤه لا شعوريا” في نفس البطل . فإذا أراد البعض أن يدعو هاملت هستيريا” ، لم أجد إلا أن أسلّم بأن تلك النتيجة تخرج من تفسيري . ويتسق وذلك أحسن الاتساق ما يعرب عنه هاملت مع اوفيليا من نفور من الحياة الجنسية. وهذا النفور الذي كان مقدّرا” أن يزيد على الدوام تمكنّا من نفس الشاعر من مستأنف سنواته حتى بلغ التعبير عنه أقصاه في ” تيمون الاثيني “. فما يطالعنا في هاملت بالطبع هو الحياة النفسية لشكسبير. وأني ـ فرويد ـ لألحظ في كتاب ” جورج براندس 1896″ قوله : ” إن شكسبير كتب هذه المسرحية فور موت أبيه 1601 ، أي حين كانت وطأة الحزن في أشدها، وحين بعثت في نفسه من جديد ـ كما يحق لنا افتراضه ـ مشاعره الطفلية نحو والد ه. ومن الأمور المعروفة كذلك أن أبن شكسبير الذي مات في سن مبكرة كان يحمل أسم ” هامنت ” وهو يطابق هاملت ” .

ثانيا. وجهة نظر جديدة 

تطرح شخصية هاملت نموذجا” متفردا” في الشخصية الإنسانية، تتجلى فيه القدرة الإبداعية المتميزة للشاعر الخالد شكسبير. وحين يكون الحديث عن الشخصية ، فأن علماء النفس يطرحون تعريفات متعددة لها، ونظريات ووجهات نظر متباينة. لكن المتفق عليه هو أن الشخصية تعني : أساليب أو طرائق الفعل Acting والتفكير Thinking والإحساس Feeling التي يوصف بها الفرد وتميّزه عن الآخرين . أي أن الشخصية هي :الأفكار والمشاعر والتصرفات التي تميز طريقة الفرد في تعامله مع الناس والأحداث .غير أن بعض المنظّرين يؤكدون على الطفولة المبكرة، ويعدّونها هي العامل الحاسم والوحيد في تقرير سلوك الإنسان، كفرويد الذي فسّر سلوك هاملت وفقا” لعقدة أوديب التي تنشأ حوالي السنة الخامسة من عمر الطفل، وبالتالي تكون الشخصية غير قابلة للتغير ، بعكس وجهة نظر مضادة تؤكد على أن العناصر اللاحقة المؤثرة في الأفراد في سن متأخرة قد يكون لها نفس تأثير عوامل الطفولة.بمعنى ، أن أحداثا تقع للفرد بعمر الشباب مثلا قد يكون لها تأثير في الفرد أقوى من تأثير أحداث وقعت له في طفولته (عكس ما يقوله فرويد ).

إن ما يقوم به هاملت هو سلوك. وما لا جدال فيه أن وراء كل سلوك ” دافع “. لكن الجدل والاختلاف يكمنان في تفسير الدافع . والمتفق عليه هو أن الدافعية Motivation حالة داخلية تنشّط أفكارنا ومشاعرنا وأفعالنا ، وتعمل على توجيهها نحو أهداف معينة . والدافعية تحديدا ، هي التي توضح لنا : لماذا يتصرف الناس ، ويفكرون ، ويشعرون بالطريقة التي يعتمدونها . هذا يعني أن الدوافع Motives حالات في داخل الفرد تعمل على استثارة سلوكه وتحدد اتجاه هذا السلوك وإدامته من عدمها . واستطرادا نضيف : إن الدوافع في الأصل أفكار”عملية معرفية ” تتفاعل مع مشاعر”انفعالات وعواطف” تظهر في سلوك” أفعال ” توجهه نحو هدف معين .

ويختلف علماء النفس حول ” قوة الدافع” . فبعضهم يرى أن قوة الدافع تكون ثابتة بثبات المواقف، وبعضهم يرى أن قوة الدافع تقوى نتيجة الخبرة والممارسة ومواجهة المواقف المتنوعة.

ويختلف علماء النفس حول ” هدف ” الدافع هل هو : الحصول على المتعة والشعور بالزهو … اختزال المنبهات القوية … توسيع مجال التأثير في الآخرين … تصعيد الإثارة … خفض التوتر … المحافظة على الذات … تحقيق الذات .. احترام الذات ..أم هذه الأشياء وأشياء أخرى ؟ وهو موضوع شائك لا نريد الخوض فيه بقدر ما نريد التنبيه إليه، ونحن نتقدم باتجاه طرح تفسير جديد لتردد هاملت.

تقوم وجهة نظرنا ، في تقديم تفسير لتردد هاملت ، على ما نسميه ” خصوصيات المواقف”. وخصوصيات المواقف هذه مشروطة بافتراض أن شخصية هاملت تتميز بالصفات الآتية :

* أنه مثقف بمواصفات المثقف البرجوازي بخصوصيات عصر شكسبير . وانه متميز يشكل استثناء” إيجابيا” بكونه منحازا” بشكل ثابت الى الحقيقة. 

* وأنه ذكي ، ويستخدم المكر أحيانا بذكاء .

* وأنه شجاع .

* وأنه ليس مجنونا”. ولكنه يمر بلحظات من التأزم النفسي الحاد، يبدو فيها للآخرين وكأنه مصاب بمس من الجنون أو الهوس . 

* وأنه نبيل ، ولديه ومضات من الحس الديني .

* وأنه وضع فجأة أمام امتحان في الحياة العملية، وإزاء مهمة غير عادية لم يمهد لها بمهمات أهون في حياته التي تلقى فيها ثقافة غزيرة تطلبت منه تكريس طاقته باتجاه الجانب الفكري في حياته الجامعية العامة، وقادته الى اشغال فكره في الإنسان والحياة والموت . 

* وأنه أكتشف فجأة إن الواقع الحي، المعاش يضم مجتمعا” يعاني من التبّرم . وهذا الاكتشاف ” الصدمة ــ الهزّة ” يتناقض مع النقاء الذي كان يتصوره .

* وأن الأم تلعب الدور الرئيس في وضعه السيكولوجي . وأنها تنفرد بتميز خاص بكل اعتبارات الأم وإمتداداتها .

وكمحصلة لهذه الصفات الأساسية المستقطبة بصيغة تفاعلية في شخصية هاملت، نعود الى خصوصيات المواقف. ونعني بها أن الإنسان حين يكون في موقف يقتضي فعلا معينا”، فانه يتصرف بموجب خصوصية ذلك الموقف.

وهاملت وضع أو وجد نفسه في عدد من المواقف. وضمن هذه المواقف جميعها هناك عوامل ثابتة وهناك عوامل متغيرة . والذي يحسم الأمور ” الفعل ” هو العوامل المتغيرة اذا كانت باللحظة النفسية المقررة تشكل تعزيزا” للعوامل الثابتة.

إن العوامل الثابتة هنا ضمن المواقف جميعا” هو هاملت كشخص موجود في سلسلة من مواقف. ثم مجمل تعليمه وتنشئته وسلوكه المكتسب، بكل المواصفات الرئيسة المذكورة آنفا”.

وهذا يعني إن طرحنا لخصوصية المواقف مشروط بثلاثة أمور أساسية هي :

* طبيعة الوجود الاجتماعي القائم .

* محصلة علاقة الفرد بالآخرين .

* ثم تاريخ حياته بدءا” من لحظة ميلاده حتى اللحظة التي تشكل زمن الفعل أو عدم الفعل في موقف محدد بخصوصيته.

أما العوامل المتغيرة فهي : نوع وكم ودرجة شدة المثيرات التي تكتنف ذلك الموقف. وهي متغيرة من موقف الى موقف آخر.

وحين يكون الإنسان في لحظة تقرير عمل معين، فانه يكون تحت تأثير قوتين: قوة دافعة باتجاه التنفيذ، وقوة ساحبة باتجاه المراوحة ” التردد ” أو السحب المضاد . فحين تكون المثيرات في موقف معين من حيث النوع والكم والدرجة لصالح القوة الدافعة، عندها يفترض حصول التنفيذ ” الفعل ” في هذا الموقف. وبالنسبة لهاملت حدث ذلك مرتين، الأولى حين وجه هاملت طعنته القاتلة الى ” بولونيوس ” المختبئ وراء الستارة، ظنا” منه أنه الملك : ” كنت أحسبك سيدك “. وذلك لأن خصوصيات هذا الموقف كانت لصالح القوة الدافعة. أي إن العوامل المتغيرة هنا والمتمثلة بالمثيرات شكلت تعزيزا” للقوة الدافعة عند هاملت. فوجود الحركة خلف ستار في مكان هو خاص بالملك والملكة، وله دلالة سيكولوجية عميقة، ودلالات هذه الحركة المتعارضة مع قيم هاملت. ووجود الملكة الأم … الذي يشكل الانتقام من زوجها الملك في خصوصية هذا الموقف اعدل وأقسى عقاب يستحقه كلاهما الملك العم والملكة الأم بكل إمتداداتها.

وحصل التنفيذ مرة ثانية في المشهد الأخير حين انكشفت خديعة الملك، فتناول هاملت السيف المسموم وطعن به كلوديوس الملك فقتله. ولسنا هنا بحاجة لتحديد خصوصيات هذا الموقف. فكل العوامل المتغيرة في هذا الموقف، أي كل مثيراته التي جسدت بشاعة رداءة الإنسان المتمثلة بعمّه الملك ، شكلت تعزيزا” للعوامل الثابتة في شخصية هاملت، وحصل التنفيذ.

وحين تكون المثيرات، في موقف آخر، موزعة بين القوة الدافعة والقوة الساحبة بشكل قريب من التكافؤ، أو تكون لصالح قوة السحب المضاد، عندها يفترض حصول تلكؤ أو تردد في التنفيذ . ويحصل هذا عند الأشخاص من نمط هاملت حين يتعرضون الى مواقف غامضة. فعند كل إنسان توجد قوتان أساسيتان هما قوة التفكير وقوة التنفيذ. وحين تكون قوة التفكير هي المسيطرة فإنها ، في المواقف التي لا تكون فيها العوامل المتغيرة لصالح تعزيز العوامل الثابتة ، تأخذ اتجاها” آخر هو حساب الاحتمالات. وحين تتعدد الاحتمالات فإنها تقود بالتبعية الى حسابات نتائج كل احتمال، وينشأ بسببها نوع من تداخل النتائج والأسباب، تتعداها الى حسابات مستقبلية. فتكثر الاحتمالات وهاملت ــ بالمواصفات التي أشرنا إليها ــ لا يقبل باحتمالين في موقف القضية فيه هي الحقيقة. لأن وجود احتمالين يعني أحدهما ضياع الحقيقة واندحار الباحث عنها. وهذا ما حصل في كل المواقف التي اتسمت بالتردد، وأهمها الموقف الذي كان فيه كلوديوس يصلي لوحده. فخصوصيات هذا الموقف “عوامله المتغيرة ” لم تكن في صالح القوة الدافعة، بل كانت موزعة بين القوتين الدافعة والساحبة فحصل التردد : 

” بإمكاني أن افعلها، كذا ، وهو يصلي . وسأفعلها الآن ويذهب

هكذا الى السماء ، أفاكون قد انتقمت؟ كلا فلأمحّص الأمر . نذل

يقتل أبي غيلة ، ولذا فأنا أبنه الوحيد أرسل هذا النذل الــــى

السماء، لكان ذلك خدمة ومكأفاة لا انتقاما ” .

وهكذا في كل المواقف التي حصل فيها التردد. فخصوصيات هذه المواقف تشير الى أن العوامل المتغيرة فيها موزعة بين القوة الدافعة والقوة الساحبة، ولوجود أكثر من احتمال، فيما لو حصل التنفيذ في هذه المواقف ، وهو أمر يتنافى وشخصية هاملت المطروحة بالمواصفات التي أوردناها. لأنه يريد الفعل في الموقف أن ينتهي الى نتيجة واحدة لا تقبل تعدد الاحتمالات … هي انتصار الحقيقة وخلودها.

المصادر

1. فرويد، سيجموند . تفسير الأحلام ، ترجمة مصطفى صفوان . دار المعارف بمصر 1969.

2. Bradley, A. C.Shakespearen Tragedy. London: Macmillan& Co. Ltd, 1904.

3. Clemen, Wolfgang M. The Development of Shakesperes Imagery. Cambridge, Mass, Harvard University press, 1951.

4. Coleridge, S. T. Shakespearen Criticism. London: j. M. Dent & Sons, Ltd, 1961.

5. Elliott, George Roy. A Study of” Hamlet” as a Tragedy of Revengefulness and justice Durham, N. C: Duke University press; London: Cambridge University press, 1951.

6. Hazlitt, William. The Characters of Shakespear s play. 2nded _ London: Taylor & Hessey, 1959.

7. Jones, Ernest. Hamlet and Oedipus. New York: Doubleday & Company, Inc. 1954.

8. Mack, Maynard. The Word of “Hamlet”. Yale University press, 1952

9. Ornstein Robert. The Moral Vision of Jacobean Tragedy. The University of Wisconsin press, 1960.

————————————————

المصدر : مجلة الفنون المسرحية

شاهد أيضاً

المسرح متعدد الثقافات، أم مسرح المهجر … مادة بحثية حـسن خـيون

المسرح متعدد الثقافات، أم مسرح المهجر … مادة بحثية  حـسن خـيون  المقدمة  في قراءة للتاريخ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *