هارولد بنتر: ألفُ حياة لمبدع ملأ القرن الـ20 فناً واحتجاجاً – ابراهيم العريس

هارولد بنتر (1930م – 2008م)

هارولد بنتر: ألفُ حياة لمبدع ملأ القرن الـ20 فناً واحتجاجاً – ابراهيم العريس

عندما أعلنت لجنة جائزة نوبل الأدبية في ذلك اليوم من عام 2005 نبأ اختيار الكاتب المسرحي الإنجليزي هارولد بنتر للجائزة، كان غريباً ألا تمر سوى مرور الكرام لكون الرجل كاتب سيناريوهات سينمائية بديعة بقدر ما كان كاتباً مسرحياً. وكانت اللجنة تمارس هذا “النسيان” للمرة الثالثة على الأقل في تاريخها الحديث، فهي كانت قد فعلت ذلك حين أعلنت فوز غابريال غارسيا ماركيز ومن بعده نجيب محفوظ بالجائزة ذاتها. كان في ذلك التجاهل ما من شأنه أن يغضب أهل السينما، خصوصاً في حالة هارولد بنتر.

شعبية سينمائية كبيرة

فالحقيقة أن شعبية بنتر في العالم كله وفي أوساط محبي السينما كبيرة ولا يمكن التغاضي عنها. فهو كتب عدداً من السيناريوهات الكبرى يكاد يضاهي عدد مسرحياته الأساسية. ولئن كان من العسير هنا وضع لائحة بكل ما كتبه من نصوص، سيكون من المنطقي في هذا السياق التوقف عند تلك الثلاثية السينمائية، التي اجتمع فيها ذات حقبة اثنان من عمالقة السينما المصنوعة في بريطانيا: الأميركي المقيم هناك منذ سنوات جوزف لوزاي وهارولد بنتر. وإذا كان كثر من المؤرخين يشيرون عادة الى أن أفلام تلك الثلاثية تعتبر قمة ما حققه لوزاي في وطنه بالتبني، فإن هؤلاء لا يفوتهم أن ينبّهوا إلى مساهمة بنتر الأساسية في ذلك، حتى إن لم يكن أي من النصوص من إبداعه أصلاً. والأفلام الثلاثة هي بالطبع “الخادم” (1963) و”حادث” (1967) وأخيراً “الوسيط” (1971). والحقيقة أن كاتب هذه السطور في إمكانه أن يكون شاهداً على أهمية الدور الذي لعبه بنتر في الأفلام الثلاثة، من خلال حضوره كمنتسب إلى الجامعة الحرة في معهد الفيلم البريطاني عام 1971، ضمن إطار متابعته محاضرات “جون بلايرز” في مجالي النقد والسيناريو. ففي ذلك الحين، كان ثمة ترتيب يقضي بتخصيص ليلة سبت كل أول شهر لعرض مجموعة أفلام متجانسة، في حضور عدد من مبدعيها ومناقشتها معهم. ولقد كرّس ذات سبت يومها لعرض الأفلام الثلاثة معاً بحضور لوزاي وبنتر وجزئياً ديرك بوغارد، بطل أول الأفلام الثلاثة الذي حضر عرض فيلمه واستأذن بالانصراف.

ليلة سحرية نادرة

كانت تلك الليلة التي امتدت من الثامنة مساء حتى ما بعد الفجر، فرصة هائلة لمشاهدة الأفلام مع المبدعين الكبيرين، خصوصاً للاستماع إلى بنتر وهو يشرح علاقة الأفلام بدراسة المنظومة الطبقية البريطانية، التي كان من الواضح أنها لا تشغل بال لوزاي تماماً، مع أنها عماد الأفلام الثلاثة التي أوصلته إلى قمة مجده. وبالطبع سنكتفي هنا من هذه الحكاية الشخصية بهذا المقدار لأنها تستحق نصاً طويلاً خاصاً بها، ونعود إلى بنتر ومساهماته السينمائية.

مهما يكن، فإن رحيل بنتر بعد صراع طويل مع المرض، كان مناسبة لاستعادة إسهاماته السينمائية، خصوصاً عبر أفلام “الثلاثية”، بقدر ما كان مناسبة للحديث عنه بوصفه واحداً من كبار كتّاب المسرح عند أواسط القرن الـ20 وكوريث للكبار الذين أعادوا إحياء المسرح، سواء كان عبثياً أو واقعياً أو غاضباً منذ بدايات سنوات الخمسين. ولكن إذا كان حديث المسرح والسياسة التي كان بنتر يخوض نضالاتها إلى جانب القضايا العادلة بما فيها القضية الفلسطينية، فإن حديث السينما بقي بحاجة إلى المزيد وبحاجة إلى القول كم أن بنتر تمكّن من أن يرتفع بمستوى كتابة السيناريو ورسم الشخصيات، مستعيراً من المسرح قوة الحوارات وقوة لحظات الصمت في الوقت ذاته. ولعل هذا الكلام ينطبق أكثر ما ينطبق على “الخادم”، الذي تدين السينما من خلاله لبنتر بإدخال مواضيع بالغة الجدية في عالم الصورة المتحركة (صراع الخادم والسيّد إذ تنقلب الأدوار بينهما في سياق سينمائي لا سابق له)، كما ينطبق على “حادث” الذي يرسم تشابك العلاقات الاجتماعية بالعلاقات الشخصية (من موقع الافتقار إلى البراءة وتحكّم الوضع الاجتماعي بالمصائر)، وأخيراً كما على “الوسيط” الذي يقدّم صورة مدهشة للعلاقات الاجتماعية من منظور فتى فقير يقيّض له أن يعيش ردحاً من طفولته في عالم الأرستقراطيين فلا يعامل بأكثر من كونه وسيطاً… سيبقى طوال حياته وسيطاً.

رحيل في عز العطاء

حين رحل هارولد بنتر كان يقترب حثيثاً من الثمانين من عمره. وهو حين نال جائزة نوبل للآداب سنة 2005، كان، مع هذا، في عز عطائه، وكان قد بات راسخاً أنه صاحب مكانة تضعه “في مقدمة الكتّاب الأكثر تأثيراً بين أبناء جيله”. ولئن كان هارولد بنتر قد عرف، ككاتب مسرحي في المقام الأول، فإنه كان إلى ذلك معروفاً بنشاطاته السياسية التي وضعته دائماً في صف المجابهة خلال كل الصراعات والقضايا التي عرفها العالم في النصف الثاني من القرن العشرين، من قضايا صراعات الأجيال إلى مجابهة الحروب الأميركية في فيتنام وغيرها، مروراً بالدفاع عن حق الشعوب التي كانت بلدانها مستعمرة من قبل أمم أوروبية، في أن تنال اليوم حقوقها من هذه الأمم، وقضايا العمال المهاجرين بالتالي.

وفي هذا السياق، لم يكن غريباً على الإطلاق أن يقف بنتر، ومنذ عقود طويلة، إلى جانب القضية الفلسطينية. بيد أن اللافت هنا هو أن هارولد بنتر، فصل فنياً، إلى حدّ كبير، بين فكره ونضاله السياسيين، وبين إبداعه، كاتباً ولكن ممثلاً أيضاً كما سنرى. وهو في هذا، كما في شؤون أخرى كذلك، يكاد يكون “توأم” زميله الأميركي آرثر ميلر، الذي كان دائماً على صداقة وثيقة معه، إذ نلاحظ من تتبّع عمل الكاتبين الكبيرين أن أياً منهما لم يزحم عمله الإبداعي بآنية مواقفه السياسية… تاركين للإبداع قضايا الإنسانية وقلق البشر، بشكل عام.

التزام أكثر وفكاهة أقل

وإضافة إلى ما ذكرنا، كان هارولد بنتر ممثلاً. بل هو بدأ حياته ممثلاً، قبل أن يطلق خلال النصف الثاني من خمسينيات القرن العشرين، تجربة حظه في الكتابة. أيامها كان مسرح اللامعقول (لا سيما أعمال صامويل بيكيت) يشغل الواجهة… ومن هنا كان من الطبيعي لبنتر، حين بدأ الكتابة أن يسلك، وإن بتنويعات لافتة، الدرب الذي كان بيكيت خطّه، ولكن مع التزام اجتماعي أكثر، وفكاهة أقل. وهكذا ولدت مسرحيات تعتبر اليوم من كلاسيكيات القرن العشرين، مثل “حفل عيد الميلاد” (1957) و”العودة إلى الديار” (1964) و”خيانة”، وفي معظم الأحيان كان بنتر يتولّى إخراج مسرحياته بنفسه، بل التمثيل فيها أحياناً، هو الذي كان واحداً من آخر نشاطاته الفنية عام 2006، لعب الدور الأول لتقديم تذكاري لمسرحية صامويل بيكيت “آخر شرائط كراب”، في “رويال كورت تياتر”.

خلال ذلك التقديم، كان من الواضح أن هارولد بنتر يعيش أيامه الأخيرة، وأن سنوات المجد والنشاط قد صارت وراءه… ومن هنا، بدا على خشبة المسرح أشبه بشخصية من شخصيات بيكيت نفسه. بدا وهو يستعيد ذكريات كراب وكأنه يستعيد ذكرياته الخاصة. غير أن بنتر ما كان عليه في تلك اللحظات أن يشعر بأي خواء أو يأس من النوع الذي تشعر به عادة شخصيات صامويل بيكيت، المتروكة لحالها تواجه الفراغ ومرور الزمن والصمت. فحياة بنتر كانت دائماً مليئة صاخبة، إذ إن ابن المهاجرين اليهود البرتغاليين هذا، عرف، وحده وبشكل تغلب عليه العصامية، كيف يجعل لنفسه تاريخاً تملؤه مسرحيات عدة، وسيناريوهات أفلام (من أبرزها “الثلاثية” التي افتتحنا بها هذا الكلام ولكن أيضاً “المخبر” و”اغتيال تروتسكي”…) وزيجتان وسبعة أولاد، وجوائز لا تنتهي بدءًا من نوبل، أهمها، إلى “جائزة لورانس أوليفييه” (1996) و”وسام جوقة الشرف الفرنسي” (2007) وغيرهما…

مع مثل هذه الحياة، ومع مثل هذه الشخصية، هل كانوا جادين حقاً، أولئك “النقاد” الذين ملؤوا الصحف اليمينية البريطانية، خلال الأيام الأخيرة لعام 2008 والأيام الأولى لعام 2009، نغمات نشازاً تحطّ من قدر الكاتب، متسائلين باستغراب عما إذا كان حقاً يستحق جائزة نوبل؟

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش