نهاية درامية لرحلة بحرية خطيرة فوق قارب صغير / شريف الشافعي

المصدر / العرب / نشر محمد سامي موقع الخشبة

العرض المسرحي التونسي الكندي “الشقف” يلاقي استحسان الجمهور خلال مهرجان القاهرة الدولي للمسرح المعاصر والتجريبي في دورته الـ25

لقي العرض التونسي الكندي “الشقف”، الذي شهده مهرجان القاهرة الدولي للمسرح المعاصر والتجريبي، استحسان الحضور بفنياته الجريئة وتقنياته المتطورة، وبفضحه عورات بعض الأنظمة العربية والأفريقية، التي أوصلت الشعوب المستضعفة إلى ويلات الحروب والفقر والقمع السياسي ورحلات الهجرة غير الشرعية بتفاصيلها المأساوية.

يأتي العرض التونسي الكندي “الشقف” (وكلمة الشقف تعني باللهجة التونسية الدارجة المركب البائس)، الذي شهده مهرجان القاهرة الدولي للمسرح المعاصر والتجريبي في دورته الـ25 المقامة حاليا، حيث تصير الحياة مسرحا، والمسرح حياة.

تجد بعض العروض ضالتها في محاكاة الواقع بسوداويته ومشكلاته الطاغية، وهكذا يتحسس المسرح طريقه إلى قلوب الجماهير بالمشي فوق الأشواك وتعرية البشر في صراعاتهم وتناقضاتهم وتأرجحهم بين الحياة والموت. وهو ما انتهجه العرض المسرحي التونسي الكندي “الشقف” الذي عرض أخيرا بالقاهرة.

الحقيقة والخيال

فوق قارب صغير تتقاذفه الأمواج في رحلة بحرية خطيرة، يلخص ثمانية أفراد عرب وأفارقة الأوضاع الدامية والقمعية التي تتهددهم في بلادهم، لتبدو هجرتهم غير الشرعية فرارا من اغتيال معنوي باتجاه ضفة موت آخر.

العمل كان حلما للمسرحي والمخرج التونسي عزالدين قنون بأن يقدم مسرحية تتناول قضايا اللاجئين والمهاجرين بما تحمله من حكايات ثرية مشحونة بالآلام والآمال والخلفيات الإنسانية والمجتمعية الحاشدة، وعلى الرغم من أن الموت لم يمهله برحيله في عام 2015، فإن حلمه قد تحقق ورأى النور من خلال عرض “الشقف”، من تأليف وإخراج ابنته سيرين قنون، واللبناني الكندي مجدي أبومطر.

جاء إنتاج العرض تونسيّا كنديّا، بالتعاون بين “مسرح الحمراء” و”المركز العربي الأفريقي” و”فضاء م.ت” بكندا، وجرى تقديمه على مسرح “ميامي” بوسط القاهرة ضمن فعاليات المهرجان الدولي للمسرح المعاصر والتجريبي (10-21 سبتمبر)، ويجسد رحلة الهجرة غير الشرعية باتجاه إيطاليا لمغامرين من تونس وسوريا ولبنان والبنين.

يراهن العرض في سعيه إلى استلاب قلوب جمهور الحاضرين على النزعة الإنسانية والإيحاء بمصداقية ما يجري فوق مسرح الأحداث، فالدنيا مسرح كبير وفق المقولة التأسيسية، والمتلقي شريك مباشر في ما يدور بمقدار انخراطه في الواقع الراهن أو اقترابه النفسي من أحد الأبطال.

بقدر ما بدا الحيز المكاني للعرض ضيقا (القارب الصغير)، بقدر ما اتخذه صنّاع العرض رمزا للخارطة العربية بأكملها، وبعض الدول الأفريقية التي تمر بظروف مشابهة، فهو مكان دالّ، بل إن له دور البطولة في العمل، على غرار الحارة المصرية في كلاسيكيات نجيب محفوظ الواقعية أو الزقاق الصغير الضيق “زقاق المدق”، الذي كان يعكس صورة مصر كلها بمحنتها وفسادها وانسدادها في أربعينات القرن الماضي.

تمكن عرض “الشقف” من أن ينكأ الجراح الماثلة في عصرنا الحالي بقوة وقسوة، عبر المصارحة والمكاشفة النبيلة، فاضحا سوءات الأنظمة العربية والأفريقية، التي أوصلت الشعوب المقهورة إلى حياة الشظف والبؤس والبطالة والمؤامرات والحروب والقمع السياسي والإرهاب والتطرف وكافة أشكال الاغتيال المعنوي، الأمر الذي دفع الآلاف إلى محاولة الهروب من أوطان طاردة للإنسان.

ومن خلال تحاورهم وسردياتهم وتلاصق أجسادهم فوق القارب الذي تعاند الأمواج حركته وكأنها تلفظه، تهتز شخصيات المسرحية متمايلة في هشاشتها وضعفها الإنساني، وتظهر أسباب محنتها، وتتجلى كوامنها وصراعاتها بين كراهية الحياة والرغبة في مواصلتها رغم كل شيء.

فنيات وتقنيات متطورة

يقدم عرض “الشقف” أبطاله وقد ارتبطوا معا بخيوط رفيعة، مرئية ولا مرئية، هي خيوط المأساة الواحدة، والتمرد، والرغبة في مواجهة المصير، ورفض العيش في بلاد لم يعد فيها ما يغري بالحياة، لأسباب مختلفة.

يوغل العرض في استيعاب حكاية كل فرد على حدة، من خلال مونولوجات مطولة، وأحاديث ثنائية وجماعية، تسودها الألفة أحيانا، وتشوبها الحدة في أحيان أخرى، كما في لحظات الاقتراب من الموت.

عرض “الشقف” تمكن من أن ينكأ الجراح الماثلة في عصرنا الحالي بقوة وقسوة، عبر المصارحة والمكاشفة النبيلة

من أجل إثراء فكرة المسرحية التي قد تبدو بسيطة ومسبوقة في أعمال سينمائية وفيديوية، وتغذية الدراما المفككة بفعل الفردانية وانتفاء العلاقات المتجذرة بين أبطال العرض، تأتي حساسية المواقف الإنسانية والأحداث الصغيرة المؤثرة على المركب لتسد هذه الثقوب، فهي مسرحية التفاصيل الجزئية لا الحكاية الواحدة المحبوكة.

هؤلاء النازحون باتجاه السواحل الإيطالية، ليسوا أفرادا بعينهم لكي يجمعهم نص محدد، إنما أريد لهم أن يمثلوا آلافا يشبهونهم في كل من تونس وسوريا ولبنان والبنين، وهي الدول التي ينتمي إليها أبطال العرض، مع الإشارة إلى أن هناك الكثيرين مثلهم أيضا في دول أخرى عربية وأفريقية.

في داخل صندوق أسود واحد، تتباين دوافع الهجرة لدى ركاب “الشقف”، فمن بين التونسيين: شاب مهموم بالعمل السياسي يتعرض للسجن مرارا وللملاحقات الأمنية، وشاب من المثليين الجنسيين يعاني الاضطهاد ويأمل في حياة حرة بلا تدخلات وأسئلة، وسيدة فقيرة تعمل بائعة وتواجه بؤس الأسواق الراكدة والرشاوى.

ومن سوريا، حيث الموت أسرع دائما، حضرت امرأة على أمل الفرار من جحيم الحرب والالتقاء بابنها الذي سبقها هاربا لكنه مات غريقا في البحر، دون أن تكون على علم بذلك، ومن الجنوب اللبناني المحافظ انتحلت فتاة لبنانية هوية سورية بالتزوير كي تتمكن من الهرب من التقاليد والقيود العائلية والمجتمعية لتنعم بالحرية في أوروبا. ومن البنين حضر شاب مغبون وأم بصحبتها رضيعة بحثا عن عالم بلا اقتتال واضطهاد.

مكنت الفنيات المرهفة والتقنيات المتطورة أفراد فريق العمل من تكثيف جهودهم ليخرج العرض برسائل ناجحة كالطلقات النارية نحو صدر المتلقي مباشرة، فالفضاء المسرحي محدود ومتحرك (قارب صغير يهتز ومن فوقه الشخوص في حالة حركة)، وتأخذ السينوغرافيا العيون إلى الحالة ببراعة، حيث الديكور المقنع بأن “الشقف” منطلق، والحبال وطوق النجاة ورذاذ المياه المتطاير وملابس الممثلين المبللة، وكأن المتلقي يأخذ مكانه بدوره في الرحلة البحرية.

وجاءت الرؤية الموسيقية متسقة مع الطقس النفسي، حيث التوتر والمغامرة، كما تعددت اللغات واللهجات المستخدمة، بين التونسية والشامية والفرنسية فضلا عن الترجمة الإنكليزية، فالقضية مشتركة في النهاية.

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *