مهرجان المسرح العربي 2

مرت أيام مهرجان المسرح العربي بسرعة البرق بكل ما فيها من عروض رائعة مبهرة أسعدتنا رغم الوقت القصير المضغوط في زمن مقيد بفترة عرض محددة، مما صعب من متابعتها كلها، لأنها بالفعل تستحق المشاهدة، فهي اختيارات من الأفضل والأكثر تميزاً من عروض كل دولة مشاركة في هذا المهرجان الذي عُرضت فيه 15 مسرحية، كان لتونس وحدها خمس منها، هي: “ليس إلا”، و”عنف”، و”التابعة”، و”كا او”، و”برج الوصيف”، في حين كان لمصر عرض واحد هو “سيد الوقت”، ولسورية “مدينة في ثلاثة فصول”، وللعراق “مكاشفات”، وللإمارات “لا تقصص رؤياك”، وكان للمغرب مسرحيتان هما “ضيف الغفلة” و”التلفة”، وللجزائر عرضان هما “وزيد انزيدك”، و”عطيل”، وعرضان للكويت هما “العرس”، و”صدى الصمت” الذي فاز بجائزة أحسن عرض، وللأسف لم أتمكن من مشاهدته لظروف خاصة.
المسرحيات التي شاهدتها والتي لم أشاهدها اجتمعت مضامين أغلبها حول العنف الناتج من الأوضاع العربية الراهنة، وما خلفته حروب وإرهاب الربيع العربي ومدى انعكاساته عليها، فالفن هو مرآة الشعوب ومصائرها المنعكسة فيها، لذا جاءت العروض محملة بعنف انعكس على أغلبها، خاصة في العروض التونسية التي جسدت وعكست بجدارة الآثار التي خلفتها ثورة الياسمين على الإنسان فيها، ففي مسرحية “ليس إلا”، تصل الغربة إلى أقصاها حين يخترق نصلها حد العلاقة الأقوى ما بين ارتباط زوجين، وتتخلخل علاقتهما بالمعاناة الناتجة من ثورات لم تأتهما بما حلما به، بل قادتهما إلى ضياع وتمزق أكبر يحول الزوجة إلى إرهابية تحاول تفجير نفسها مع زوجها، وكان مشهد التحول هذا في منتهى الجمال وخفة الظل.
العمل الثاني كان قمة في الجنون الأدائي، وقد أعجبني جدا في كل تفاصيله، وهو من إخراج العبقري فاضل الجعايبي، وتأليف جليلة بكار، ولم أشاهد مسرحية في حياتي تحمل كل هذا العنف الذي سُمي العرض باسمه، هنا بالفعل عنف رهيب بداية من السينوغرافيا التي اشتغلت على اللون الرمادي مع إضاءة سينمائية داكنة وموسيقى تدرك مكامن الصمت لتخترقها في التوقيت المناسب، وتمثيل حارق مارق بتعبير جسدي يمتلك قدرات وتقنيات رهيبة وقدم لنا صوراً عكست عنف الوحشية الكامنة تحت قناع الحضارة الإنسانية المزيفة فينا، وكشفها في هذه الحالات الإجرامية من خلال امرأة تقتل زوجها، ورجل مثلي يقتل عشيقه، وأم ترمي طفلها في التنور، وتلاميذ مدرسة يرمون مدرستهم من فوق السطح بعد تقطيعها بتلذذ، وبقوة تمثيل تُنسي المشاهد أنه تمثيل، خاصة في المشهد الذي يتداخل فيه هذيان قتل العاشق لعشيقه بتقطيعه للبصل والطماطم، في حين أنه كان يقطع في جسد عشيقه وماء الطماطم كان دمه.
مسرحية التابعة للمخرج المبدع توفيق الجبالي في مشهديته السينمائية المحملة بفلسفته الوجودية الكاشفة لتناقضات الحرب ومخلفات ثورة الياسمين التي زلزلت وخلخلت الأمن الإنساني ودمرت الاستقرار والطمأنينة فيه، عكست هذياناً جماعياً وفوضى ضاربة شاملة لا تُدرك أحوالها وانفصاماتها وجنوحها وجنونها، وهديراً يتصاعد بعنف نحو هاويته، وهي لعنته التي تعنيها كلمة التابعة، التي تنتهي بمشهدية مذهلة.
أما العرض التونسي “برج الوصيف” فتميز بأداء تمثيلي رائع، وهو منقول عن مسرحية تينسي ويليامز المسماة “قطة على صفيح ساخن”.
وكان العرض المصري “سيد الوقت” مليئاً بالشفافية الروحانية، لأنه اعتمد على نص محمل بالشاعرية العالية التي كتبها الشاعر المبدع فريد أبو سعدة عن حكاية الفيلسوف المفكر شهاب الدين السهروردي، الذي أعدم بتهمة الإلحاد فقط، لأنه طالب بمراجعة الفتاوى وتنقيتها وتمحيصها، وهي ما تطابقت مع حكاية الكاتب في المسرحية الذي راح يبحث عن آراء وتفكير السهروردي، ويتماثل وضع هذا المؤلف مع زمننا هذا الذي اختلطت فيه المفاهيم، وكثرت به الفتاوى، واختلط الحابل بالنابل. المسرحية تفاعل معها الجمهور بقوة، إذ إنها ضربت على أوتار أوجاعه وكشفت عورة زمننا هذا.
من الأعمال الجميلة أيضا مسرحية “لا تقصص رؤياك” التي عكست الواقع الخليجي العربي، وما يتعرض له من إرهاب داعشي وتمزق فكري بين ما يُنشر من فتن عقائدية وطائفية ومصالح سياسية عُولجت بشكل درامي جميل خاصة ما جاء في ختام العرض.
مبارك حصول العرض المسرحي الكويتي على جائزة المهرجان، بعدما أشاد به الجميع.

 

 فوزية شويش السالم

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *