منصة العرض الجزائري “القراب والصالحون”: القفز نحو خلاصنا القادم فقط إن أردنا تحسين يقين

 

 

العودة، العودة، تحيلنا دوما إلى الزمن كمعيار ما، أو طلب رضا مرجعية ما، دينية أو أبوية بطريركية، وكثيرا ما يقول الناس عن حدث حاضر: لو كان فلان موجودا لما حدث هذا الذي يحدث، علما أن أكثر منه قد كان.

استحضار الزمن الماضي (الجميل والكامل!) هو ديدن الإنسان الحاضر المأزوم طلبا للخلاص، أو التطهّر، ولعل هناك من العلماء من يفسّر لنا هذه الحالة. أما في عالم الفن، فلم يبتعد الكتاب والفنانون عن الفكرة التي تم استلهامها لمقاربة الواقع أو الإسقاط عليه أو تخليص ناسه بل محاكمته. وهي فانتازيا حيوية في السينما والمسرح والأدب.

كعادة المسرح، تسير الحياة والناس كما هم، كل يمثّل دور الكمال، مطلقا الأحكام على الآخرين، وفق معيار هناك شك بأنه يستلهمه حقيقة، وما أن يأتي الجديد الباعث على الخلاف، حتى يبدأ ذوبان المعايير، وانكشاف الحقائق الداخلية لهم/ن.

هي صعوبة العيش، تدفع القرّاب على سبيل الحلم أن يتمنى استدعاء أرواح ثلاثة من أولياء الله الصالحين المعروفين في الجزائر، وهم سيدي عبد الرحمان الثعالبي وسيدي بومدين الغوث وسيدي عبد القادر الجيلالي،

فحين يطلون بلباسهم الأبيض وطولهم الفارع ملبين الدعوة-الدعاء، تغلق الأبواب في وجوههم، ولا يجدون من يستقبلهم في تلك البلدة يستقبلهم غير صليحة الراقصة، على غير ما يتوقع الآخرون منها، والتي تدعوهم للدخول وتكرمهم.

القرّاب، أو الساقي، أو السّقا بائع الماء، مبتغى عطاشى المدينة أو السوق، يأكل خبزه من عرق تجواله حاملا قربته لبيع ما فيها، وهو يعلم حال الناس خصوصا من لا يجد ما يشتري شربة ماء، ربما كبائع الخبز.

هنا تبدأ التحولات في الشخصيات، حيث ما إن يغتني الناس حتى تبدأ فصول أخرى من النفسيات.

مفارقة مدهشة، كلهم يعتاشون من هبة الأولياء، باستثناء القرّاب الذي يعيش من تعب يديه وكتفيه!

أبدع العرض الجزائري في التعبير، مثيرا مرة أخرة مسألة الخلاص على المستويات الفردية والجماعية والوطنية والقومية بل والعالمية، بحيث يمضي المشاهد وهو يتحدث عن جملة “خلاصات” الذاتية والموضوعية، وبذلك ينجح المخرج نبيل بن سكة وطاقمه من ممثلين/ات راقصين/ات، في وضعنا داخل هذه الحالة السحرية-الطقسية، الإيهامية، والتي قادتنا كما أزعم لتأمل الحاضر للبحث عن دور للإنسان-المواطن العربي في الارتقاء بمجتمعه وبنفسه وتخليصهما بنفسه والآخرين دون انتظار أحد.

قد يبدو استحضار الأرواح الفنتازي عبثيا، لكنه في الواقع غير ذلك، لسبب بسيط وهو أن نتيجة العرض هي دفع الناس-الجمهور-الشعب نحو حالة جادة وجدية إلى منهاها وصولا للخلاص الحقيقي الذي يتم من خلال الإنسان.

جمعت مسرحية “القراب والصالحين” لمسرح العلمة الجهوي، بين النص المقتبس لولد عبد الرحمان كاكي “القراب والصالحين” والنص الأصلي “النفس الطيبة” لبرتولد بريخت، الذي تم استلهامه من القصة الصينية “الإنسان الطيب” لستشوان، تم العمل عليها بشكل عميق، أكان ذلك في التمثيل أو الرقص أو السينوجرافيا، واستخدام الشاشة والصور، والأهم هو استخدام الإضاءة، من حيث التركيز على أجزاء من المشاهد، أو الإظلام التام كانتهاء للمشهد. لم تكن المشاهد فقط لوحات بصرية تمثيلية فقط بل نحتت في داخلنا نحو العمق.

هو إذن، استدعاء آخر للمخرج المبدع في نصه الجديد المقتبس عن كاكي وبريخت لثلاثة من أولياء الله الصالحين المعروفين، في بعث جديد، للالتقاء بالناس الآن، حيث يكشف حوار الأولياء معهم دواخلهم، كما كشف في الوقت نفسه ردود أفعالهم بعد تغير الأحوال.

بعد الاطمئنان على الرزق، وبدلا من الاتقاء بهرم ماسلو، نحو الوعي والثقافة والتنوير، تراهم منشغلين بما يشدهم لما هو سلبي في الماضي والحاضر، حيث يقبل هؤلاء على الشعوذة والطقوس الفارغة، حيث يزهقون المال على توافه الأمور، في إيحاء نقدي لكل من يستثمر المال في طرق يرجع فيه الشعب الى الوراء.

يشكل استدعاء الأولياء دعوة للاستنهاض، إنها اذن حالة فكرية وأخلاقية بل وسياسية واقتصادية، تدعو إلى الخلاص من عتمة الغرف إلى نور الفضاء والعلم لتنمية العقول وجوانب الحياة الأخرى، فهموم الحياة تستدعي الاهتمام بها كثيرا وبالمستقبل أكثر.

خففت الكوميديا والرقص من جدية الطرح، كذلك كان للرقص دور حيوي عبر عن جو المسرحية العامة ومنحها جماليات جاذبة.

“كثير من الناس يعيشون طويلا في الماضي، والماضي منصة للقفز لا أريكة للاسترخاء” عبارة منسوبة لتوفيق الحكيم، تدفعنا للتوجه للمستقبل من أجل الخلاص المقصود في العنوان؛ فإذا لم يستحسن العيش طويلا في الماضي، فإنه يحسن تأمله قليلا.

السفر في الزمن الماضي أو المستقبل، أو استدعاء من حضر في الماضي إلى الحاضر لن يخلصنا إلا إذا كانت علاقتنا بالزمن الماضي علاقة تأمل وتعلم وأخذ عظة، فهل خلص من خلص في الماضي بهذه الخزعبلات!

أزعم أن عرض “القراب والصالحون” كان منصة مسرحية للقفز نحو المستقبل الذي نخلص فيه أنفسنا بأنفسنا.

هو منصة للقفز نحو خلاصنا القادم إن أردنا.

لعله جواب الفن وسؤاله ايضا!

 

 

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *