منتهى محمد رحيم رحلت على جناح الإبداع.. علامة مضيئة في سماء مسرح الطفل – العراق

في السابع عشر من ايلول عام 1952 ابصرت النور في محلة البارودية ببغداد، ويقال انها سميت بالبارودية اثر تفجر كدس للعتاد فيها او لأن اغلب سكنتها ممن كانوا يعملون في مخازن العتاد والبارود في ايام الاحتلال العثماني.

وفي صباها وشباب تتأثر بأفكار شقيقتها الاكبر اليساري (طارق) الذي انتمى الى الحزب الشيوعي العراقي عام 1957.

شجعها الفنان الراحل نور الدين فارس وهو كان ممن يتردد على بيتهم ولكونه ابن خالة والدتها ومن حملة الافكار اليسارية والتقدمية على التوجه الى اكاديمية الفنون الجميلة وقسم المسرح بعد انهاء الدراسة الاعدادية وبالفعل اختارت المسرح في مطلع السبعينات من القرن الماضي.

عالم جديد وجميل.. ولابد من مواكبة كل ماله علاقة بسحر المسرح خلال سنوات دراستها تطالع الكثير من المسرحيات العالمية والمؤلفات التي لها علاقة بتاريخ المسرح والفنون .. الاجواء الطلابية شحذت بنفسها وما يميزها ايضاً اعتدادها وثقتها العالية بنفسها وبراءتها وطيبتها..

اتيحت لها الفرصة للمشاركة في مسرحية  (ثورة الزنج) للكاتب المسرحي والشاعر معين بسيسو والتي اخرجها الفنان الرائد المبدع سامي عبد الحميد ولصالح اكاديمية الفنون الجميلة.

واذ يحضر الفنان المبدع حمودي الحارثي لمشاهدة هذا العرض المسرحي، تدخل قبله بدون استئذان لما هي عليه من حسن وجمال… وليفكر جدياً في الاقتران بها.

والاجمل من ذلك ان يكون الاستاذ سامي عبد الحميد من ضمن من توجهوا مع الحارثي الى اهلها لاعمال مراسيم الخطوبة وبالتالي الزواج وتحديداً في الحادي والعشرين من كانوا الثاني عام 1983.

بعد تخرجها من اكاديمية الفنون الجميلة عام 1976 عملت في الفرقة القومية- وكمساعدة للمخرج.

ومع مرور الايام والاعوام تكتسب التجربة والخبرة وبما يؤهلها لخوض الاخراج تنذر نفسها لمسرح الاطفال ايمانا منها بان مثل هذا المسرح من الاهمية والضرورة ما يشكل قاعدة انطلاق نموذجية لبناء مجتمعات متحضرة.

كل ذلك وبأساليب جذابة وممتعة الاطفال يدركونها جيداً ويتفنون في تجلياتها.

اولى اعمالها في هذا الميدان، مسرحية (بدور البدور وحروف النور) للكاتب المصري رؤوف مسعد والتي قدمت في الثالث من نيسان عام 1979 من على مسرح الثورة الجوال ولمدة خمسة ايام وبحضور 1233 طفلاً وطفلة ومشاهدة.

ومرة اخرى قدمت المسرحية في مصيف صلاح الدين ولخمسة ايام اخر وقد شاهدها 1225 من الاطفال والمشاهدين وقد تمت المشاركة بها في مهرجان دولي للمسرح اقيم في ايبيا عام 1979 وكان حصادها من الاقبال والاستحسان الكثير.

التجربة الاخراجية التالية لها، مسرحية ( البنجرة الصغيرة) وهي من ترجمة واعداد الدكتور فائق الحكيم ولصالح الفرقة القومية للتمثيل وتحديداً في عام 1980 ومن على مسرح الرشيد المعروف بتقنياته الحديثة والمتطورة.

عام 1981 تخرج مسرحية (رحلة الصغيرة وسفرة المصير) التي اعدها الفنان الراحل قاسم محمد عن قصة قصيرة بعنوان (الامير السعيد) للكتاب الشهير سومر ست موم.

عام 1987 تولت اخراج مسرحية (مملكة النحل) لللأطفال وهي من تأليف الكاتب جبار صبري العطية بعدها خاضت تجربة اخراجية مسرحية جديدة تخص الكبار يوم تختار مسرحية (الاشواك) للكاتب المسرحي الراحل محيي الدين زنكنة وليأخذ طريقها الى مسرح الرشيد ولاحق المشاركة به في مهرجان المسرح العربي في بغداد حائزاً العديد من الجوائز وفي اختصاصات متنوعة.

وقد كتب عنها الناقد المسرحي ياسين النصير مقالاً بعنوان (مسرحية الاشواك وجمالية العرض والاداء) نقتبس بعضاً مما جاء فيه:

 (احدى مسرحيات الموسم المهمة على صعيد التأليف والاخراج والتمثيل والديكور والانارة ومما ساعد على نجاح العرض ان الاخرج الذي اعتمد على مبدأ الحركة بين الكشف والابهام ثم الانتقال بعد كشف الابهام الى ابهام اخر اعتمد محورية سياق الحكاية الداخلية وليس كما يريده الاخراج) تجدر الاشارة الى ان من لعبوا الادوار التمثيلية المهمة في هذه المسرحية هم: الفنان محمود ابو العباس، الفنانة القديرة ليلى محمد، الفنان رضا ذياب، الفنان سامي السراج، الفنان الراحل عبد الجبار كاظم.

وعن صمودها في ميدان المسرح، يكتب الناقد المسرحي حسب الله يحيى وفي كتابة المعنون (المسرح العراقي قضايا ومواقف، وقد صدر سلسلة الموسوعة الصغيرة عام 2002 قائلاً:

(وبقيت في الميدان فنانة دؤوبة هي منتهى محمد، جربت اخراج مسرحية (الاشواك) للكبار وخرجت من التجربة بنجاح دللت على قدرات نابهة، حيث راحت تواصل اهتمامها بمسرح الاطفال واخر عمل لها كان مسرحية (مملكة النحل) حيث حققت من خلاله نجاحا مطرداً) ص 110

في الفرقة القومية للتمثيل واجهتها الكثير من المتاعب والصعوبات فبعد ان التقت مع الناقد الراحل علي مزاحم عباس وثم الاتفاق على اعداد نص مسرحي اسمه (عيد سعيد) عن مسرحية للكاتب والشاعر ناظم حكمت يتم الاعداد باسماء الممثلين للعمل في هذه المسرحية تفاجأ ان عملاً أخراً وبعنوان – الملحمة الشعبية قد استحوذ على كل الممثلين في الفرقة وما عليها سوى الانتظار.تنتظر وحتى اسلال الستار على (الملحمة الشعبية) تقدم قائمة جديدة باسماء الممثلين وتفأجأ ان نصف كادر المسرحية سيسافر الى خارج العراق لتقديم مسرحية (المتنبي).

يطلبون منها تبديل طاقم العمل.. وتفعل ..

عندها يتضح لها ان بعض الممثلين على ارتباط باعمال اخرى..

لم يبق امامها الا ان تنتظر وحتى الموسم المسرحي الجديد بعد شهور عدة.

وهكذا الوقت يمضي.. وهي تراوح في مكانها.. بل الانكى من ذلك ان يقدم العمل نفسه في المحافظات ومن خلال مخرج أخر عنادها واصرارها يدفعها لتقديم نص مسرحي أخر بعنوان (اغنية على الممر) وهي من اعداد الاستاذ الراحل محمد مبارك يعد مضي فترة ليست بالقصيرة تفاجأت برفض النص وعدم ادراجه ضمن جدول الاعمال المسرحية التي تقدم في اطار الموسم المسرحي.

منغصات كثيرة.. وكوابح تحول دون تحقيق الحلم  البعيد القريب.ذات يوم تلتقي بالمؤلف الشاب عصام محمد وبعد الاطلاع على احد نصوصه المسرحية وهي كوميديا شعبية تستحسن ذلك  وتفكر في اخراج النص.. ولكن كالعادة.. ثمة اسلاك شائكة تحول دون الوصول الى ماترغب.. وليس هناك اقسى مما ان تبقى بلا عمل.. ومن لا يعمل يصدأ.تشعر بالحزن والاسى والامتعاض حينما يتناهى الى مسامعها ان دائرة السينما والمسرح بدلاً من ابقائها على التمويل المركزي تتحول الى التمويل الذاتي. وفي ذلك ضربة قاصمة لمسرح الطفل الذي يفترض تخصيص ميزانية طموحه  له لتنفيذ ما من شأنه النهوض بهذا المسرح ودوره التربوي والتعليمي والترفيهي. نالت شهادة الماجستير وفي اطروحة لها عن مسرح الاطفال.عام 1996 سافر زوجها الى اوربا، فترك فراغاً ملحوظاً ومرة اخرى يعود الى الوطن يغادر من جديد وليقيم في مغتربه (هولندا).عام 2002 تسافر الى سوريا.. وتمضي هناك اشهر عدة قبل ان تتجه الى مكان اقامتها الجديد (هولندا) تعاني من التكيف مع الاجواء الجديدة.كيف لها ان تمارس اختصاصها وهي التي لا تتقن اللغة الهولندية مروراً باختلاف مزاج الجمهور، فما نعاني منه في العراق من اثار جروب بشعة وحصار وجوع وقمع واضطهاد وخوف وتعصب تزمت وتخلف لا تجد له اثراً في الشارع الهولندي.. وبالتالي هل يمكن الانسلاخ عن واقعنا المؤلم والمرير والبحث عن موضوعات لا تمت بصلة بواقعنا وانما تكاد تكون غريبة.. ولسيت من صلب اولوياتنا وتطلعاتنا.

معاناتها وعذاباتها في الغربة.. تمهد الاصابة بمرض عضال لا ينفك ان ينهشها بعد كل علاج وشفاء رغم الرعاية الصحية العالية التي حظيت بها والتي تبعث على الامتنان من قبل ذويها وزوجها في الثاني من تموز عام 2015 نفجع برحيلها بعد صراع طويل مع المرض وفي مستشفى لايدن الهولندية ويأتي النبأ صاعقاً لمعارفها ومحبيها وذويها وزملائها.

توارى الثرى في مقبرة لاهاي وهكذا ترحل بعيداً عن الوطن الذي ظلت ترغب وتفكر تحلم بالعودة اليه رغم انتكاساتها الصحية بل وقبل ايام معدودات من توقف قلبها.. واملها في تقديم اعمال  مسرحية في العاصمة بغداد فاي طموح كان يتوقد في بغداد داخلها.. واي عشق يسكنها للمسرح ولجمهوره رغم ما اصابها؟

ترى هل كانت تريد ان تهزم المرض بالعطاء والابداع وسحرهما؟! ليس ذلك ببعيد

كانت بحق مثالاً للمرأة العراقية المخلصة والحريصة والمبدعة التي نفخر بها.

كنت بحق معطاءة وقوية تتحدى الصعاب وتنبض بحب الناس وسحر الحياة.

هو بعض الوفاء لما قدمت واعطيت.وعسى الا تمر الذكرى السنوية الاولى لرحيلك مرور الكرام دون استذكار او استحضار لما ابدعت وانجزت.وكم هو جميل لو اكتحلت عيون القراء بكتاب يضم بين دفتيه سيرة حياتها وابرز المحطات الفنية التي مررت بها، ومن يدري ربما ليكون مادة لفيلم سينمائي او تلفازي متميز عنك.هذا اذا ما تركنا جانباً، ان يتم اطلاق اسمك على احدى المهرجانات المسرحية للاطفال في عراقنا الحبيب ومتى ما كانت الفرصة ملائمة او مؤاتية لذلك.

————————————–

المصدر : مجلة الفنون المسرحية – صباح المندلاوي – الزمان 

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *