«مكاشفات».. نقاشات تاريخية حول الاستبداد

في رابع أمسيات الدورة الثامنة من مهرجان المسرح العربي عرضت مساء أمس الأول على خشبة مسرح عبد الحسين عبد الرضا مسرحية «مكاشفات» للفرقة الوطنية للتمثيل في العراق، وهي من إعداد الفنان الراحل قاسم محمد، وإخراج غانم حميد، وإحدى المسرحيات المتنافسة على جائزة الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي لأفضل عرض مسرحي عربي.
تحاول المسرحية أن تقدم قراءة للعلاقة الشائكة بين ضرورات الأمن الذي تضطلع به السلطة، ومقتضيات الحرية التي هي حق للشعب، وتتخذ لذلك قصة افتراضية، بطلاها شخصيتان تاريخيتان هما الحجاج بن يوسف الثقفي والي العراق من قبل عبد الملك بن مروان، وعائشة بنت طلحة بن عبيدالله رضي الله عنه، كان زوجها مصعب بن الزبير، الذي قتل في مواجهة مع جيش الملك بن مروان، وتفترض المسرحية أن الحجاج جاء إلى عائشة خاطباً، وهنا يقوم سجال بينهما، وكانت امرأة عابدة زاهدة قوية الشخصية نافذة البصيرة غزيرة العلم فصيحة اللسان جرئية، وكان الحجاج خطيباً مفوهاً وشجاعاً سفاكاً، فترفضه، وتسبه وتنعته بأنه رجل منافق سفاك اتخذ الولاية للتجبر وإشاعة الخوف في الرعية، وجعل السيف درعا يخفي وراءه خوفه ورعبه، وأذل الناس فاتبعوه وانصاعوا لأمره، ويدافع الحجاج عن نفسه بأنه جاء إلى أرض انزرعت فيها الفتن وأعلن فيها كل أهل مذهب وطائفة الحرب على مخالفيهم، وكثر فيها القتل والنفاق والخروج عن الملة، واستبيحت فيها الدماء والأعراض، فكان لزاما عليه أن يوقف الفتنة ويحقن دماء المسلمين، ويحمي بيضتهم، ويشيع الأمن في مدنهم وأريافهم، وترد عليه بأنه لم يشع الأمن وإنما أشاع الخوف، وأنه خرب الإنسان بالإذعان والإذلال وكبت الحرية، ويدافع عن نفسه بأن الفتنة في عهده هدأت، وأن الناس عادوا إلى حرفهم وصانعتهم وزراعتهم، وازدهر معاشهم، واتسع عمرانهم، فترد عليه بأن تعمير الأرض وتنمية المال، لا قيمة له إذا كان الناس خائفين غير مطمئنين على أنفسهم من بطش حاكمهم.
على هذا المنوال من السجال تتحرك المسرحية، وتستعين الشخصيتان بنصوص تاريخية من خطب الحجاج، وكتابات المؤرخين، وبلغة فصيحة ناصعة الجمال شدت الجمهور ببهائها، وقد عمد المخرج إلى كسر الإيهام بإدخال مقاطع من اللهجة العراقية في كلام الشخصيتين والشخصيات المساعدة، وإدخال مواويل وطرب ورقصات شعبية عراقية، وكما كسرت تلك الإدخالات الإيهام فقد كسرت أيضاً عنصر الرتابة الذي يطغى على العرض بسبب طبيعة السجال الحواري بين البطلين حول فكرتين متناقضتين، ما غيب الحدث وجعل المسرحية متوقفة في مكان واحد لا تتحرك نحو الأمام، لكنّ تلك الإدخالات الشعبية بدت مقحمة بتعسف في سياق الموقف الجاد والنقاش الفكري العالي بين الحجاج والمرأة، ففي لحظة تكون أمام شخصيتين مثقفتين تتحاوران بلغة رفيعة، ثم تفاجأ بتحولهما إلى مهرجين يرقصان ويتكلمان بطريقة تثير الضحك، وقد أحدث شرخاً لدى المتلقي الذي ضاع بين التهريج و الطرح الدرامي الجاد، فتوقف أفق التوقع عنده، وفقد الحافز للمتابعة، من ناحية أخرى فإن العرض لم يخرج عن ثنائية الاستبداد والحرية بشيء مقنع فقد أعطي للحجاج حجة قوية في الفتك وسفك الدماء وإخضاع الشعب من أجل فرض الأمن، رغم أن عائشة ظلت ترفض ذلك المنطق لكنها لم تستطع أن تفنده، فهل كان يريد أن يقول لنا إن الاستبداد الذي أوصلنا بطشه إلى ما نحن فيه اليوم صراعات ودماء وتمزق لبعض الدول هو ضرورة لا بد منها.
من الناحية الفنية فقد اشتغل المخرج بشكل جيد على الإضاءة، وجاءت معززة لسياق الحدث، وكانت الملابس والأكسسوارات مناسبة لزمان الحدث، لكنّ المخرج فرش المخرج الخشبة كاملة بالقطن، ولم يكن لذلك دلالة، خصوصا في مشاهد المبارزة التي لا يعقل أن يكون ميدانها مفروشاً بالقطن، وقد وزع القاعة إلى نصفين، في النصف الأيمن كرسي الولاية، وفي النصف الأيسر منزل عائشة، وعند بداية المسرحية كان يفصل بينهما بالستائر لكنه في أغلب الوقت فتح الإضاءة ورفع الستائر ليجعلهما قطعتين من ديكور واحد، فأفرغ التمايز من محتواه.
كما عرضت مساء أمس الأول على هامش المهرجان مسرحيتان هما «برج الوصيف» من تونس، وهي من إخراج الشاذلي العرقاوي الذي أعدها عن قصة «قطة فوق صفيح ساخن» للكاتب الأمريكي تينيسي ويليامز، وهي تتناول الصراع بين الإنسان ورغباته، وتركز على الأداء الجسدي والصراع والصمت، والمسرحية الثانية هي «ضيف الغفلة» من تأليف حسن هموش، وإخراج مسعود بوحسين لفرقة تانسيفت من المغرب، وهي تتناول التطرف في الوطن العربي.

 

 

محمد ولد محمد سالم:

http://www.alkhaleej.ae/

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد العاشر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *