مقاربة بين سيد البنائين والآنسة جوليا

صباح هرمز 
 
إذا كانت تجمع بين هاتين المسرحيتين بعض الصفات، فهي أثنتان . جنوح الشخصيات فيها لحب العظمة.. والحلم.ولنبدأ من الصفة الثانية التي هي الحلم. إذ بدون استثناء تحلم كل الشخصيات في كلتا المسرحيتين، ابتداءً من سولنس وهيلدا وآلين والطبيب والمهندس وراجنر وكايا ، في سيد البنائين لأبسن، الى الآنسة جوليا وجان الخادم وكريستين الطباخة، في الآنسة جوليا لسترندبيرغ. وإذا كانت كريستين تحلم الزواج بخطيبها جان، فإن جوليا تحلم بالرقص معه، وجان الطائش ببلوغ المرتبة الاجتماعية التي تتبوأها جوليا. وسولنس ببناء الأبراج في أعلى البنايات، وهيلدا في تحقيق حلم سولنس، وراجنر في إيجاد عمل مستقل، يقوم هو بإنجازه، وهكذا بالنسبة للشخصيات الثانوية الأخرى.
وحلم جوليا وجان، يناقض الطبقة التي ينتميان إليها، ذلك أن جوليا الأستقراطية لا تستمتع بأيّ سلام، ولن تحس بأية راحة إلا بعد أن تستقر على الأرض، بعكس جان الخادم الذي يريد أن يصل الى أعلى، الى القمة تماماً، حيث يمكنه أن ينظر متطلعاً الى الريف تحت نور الشمس. ما معناه أن جوليا، ترغب أن تنسلخ من طبقتها وترتمي في أحضان الطبقة الفقيرة، وجان أن ينسلخ هو الآخر من طبقته، ويرتمي بعكسها في أحضان الطبقة الأرستقراطية، وهذا الحوار الدائر بينهما حول الحلم أدلّ نموذج على ذلك.
الآنسة جوليا: ها أنا أثرثر معك عن الأحلام! تعال – لنصل الى الحديقة.
جان: يجب أن ننام على تسع زهرات من أزهار منتصف الصيف الليلة يا آنسة جوليا وحينذاك ستتحقق أحلامنا. 
وسولنس البناء قبل أن يمتلك مكتباً لرسامي الخرائط، لم يكن ثرياً، عندما كان يعمل في نفس هذا المكتب، تحت إمرة المهندس المعماري (بروفك)، والد راجنر الرسام الذي يأبى سولنس أن يبني (راجنر) البيت الريفي للأسرة التي راقت لها الرسومات التي أعدّها لهذا الغرض. 
إن منحى سولنس الطبقي، يختلف هنا كلياً عن منحى جان وجوليا، ذلك أنه في الوقت الذي كان يحلم فيه أن يتخلى عن طبقته، وينتمي الى الطبقة البورجوازية، وتحقق له ما أراد، يقف كالمرصاد أمام راجنر، حائلاً دون تحقيق هدفه الحلمي، بشطريه المهني – التقني – والاقتصادي. خوفاً من أن تهيمن الأفكار الحديثة في الفن المعماري على الأفكار القديمة، وهو بذلك سوف يفقد الموقع والمكانة اللذين كان يتمتع بهما، لأصحاب الفكر القادم. ويتضح هذا المعنى أكثر في هذه الجملة التي يطلقها سولنس لهيلدا التي تمثل الجيل الجديد: (لا، لا، لا، الجيل الجديد، أنه يعني القصاص، أنه يأتي كأنه يمشي تحت راية جديدة، مبشراً بتحول الحظوظ).
ولكن سرعان ما أنفرط عقد هذا الوئام بين جان وجوليا ليتحول الى صراع الدم الأرستقراطي، ضد دم العبيد. مثله مثل الصراع القائم بين سولنس وبروفك حول منح الأول، حرية العمل لراجنر أن يشتغل بصورة مستقلة، ولم يدع أن يتحقق حلم الأثنين معاً، حتى عندما كان الأب يلفظ أنفاسه الأخيرة.
ومثلما تتجاوز هذه الأحلام حدها عند جوليا وجان الى ممارسة العملية الجنسية، بتقديم جوليا ذراعها الى جان، ويسيران باتجاه الحديقة، في إشارة الى حدوث هذه العملية، وتعزيزها بدعوة جوليا لترى ما في عينيّ جان، كذلك يحدث نفس الشيء بالنسبة لسولنس وهيلدا.
هيلدا: هل جئت وطوقتني بذراعيك؟
سولنس: نعم جئت.
هيلدا: ثم أدرت رأسي للخلف؟
سولنس: للخلف جداً. 
هيلدا: وقبلتني؟    
سولنس: نعم. . لقد فعلت.
هيلدا: مرات كثيرة؟
سولنس: كما تشائين.
وكما أن سولنس لم ينتبه الى هيلدا في أول لقاء بها، لأنها كانت صغيرة وفي الثانية عشرة من عمرها، كذلك لم تنتبه جوليا الى جان، عندما كان يأتي مع والده الى مزرعة والدها التي كان يعمل فيها، لأنه كانت صغيرة كهيلدا أيضاً. وكلاهما جان وهيلدا يذكران شيئاً عن جوليا وسولنس، ولكنهما لا يبوحان به.
سولنس :هل تحلمين كثيراً؟
هيلدا: نعم ! ! أكاد أحلم على الدوام. 
 سولنس : وبماذا تحلمين أكثر الليالي؟
هيلدا: لن أنبئك هذا المساء.. وربما نبأتك عن ذلك في وقت آخر.
جوليا : أوه قل لي – أريدك أن تقول لي.
جان: لا، لعلي لا أستطيع. في وقت آخر ربما.
مرض جان بسبب عدم استطاعته نيل الفتاة التي أرادها مرة، تتقارب حكاية هيلدا التي راحت تلوح بعلمها المرفرف لسولنس، وهو في أعلى البرج، حتى أوشكت أن تسبب اختلالاً في توازنه. وجوليا لأنها لا تعرف الفتاة  التي مرض جان من أجلها، وعندما تسأله عنها، يرد : أنت. وتباغت هيلدا سولنس بنفس أجابة جان، بأنها كانت هي تلك الفتاة الشيطانة التي كادت تفقد توازنه.كما تتقارب شخصية سولنس مع شخصية الأب في مسرحية بنفس العنوان لسترندبيرغ،  من حيث ذكائهما، ودفع زيجاتهما لهما نحو المرض، أو سعيهما ليشعرا بذلك، ولكن زوجة الكابتن (الأب) بطريقة خبيثة، وزوجة سولنس بحسن نية. وبقصد إشعاره بأنها ليست غبية وعلى علم بكافة علاقاته. أما زوجة الكابتن فبدافع سوقه الى الجنون، لفرض سطوتها مثل هيدا جابلر لأبسن على أفراد أسرتها والمحيطين بها. وكلتا الشخصيتين يتمتعان بذكاء خارق في المهنة التي يمارسانها، سولنس في بناء الأبراج للبنايات العالية، والكابتن كرجل من رجال العلم الموهوبين.
ولعلَّ الذكاء الذي يتمتع به سولنس، مقابل الشيطنة التي يتحلى بها جان، يقودانا الى السمة المشتركة الثانية التي تجمع بين مسرحيتي سيد البنائين والآنسة جوليا، ألا وهي سمة العظمة. (والقرن التاسع عشر كان زمن العظمة الفردية، كما يقول صلاح عبدالصبور، والرجل العظيم هو الذي يمتاز على الآخرين . .)(9).
وقد أكتسب الأثنان هذه العظمة من خلال قدرة سطوتهما على الآخرين، سطوة سولنس على المكتب الهندسي لبروفك الذي كان فيما مضى، يعمل مساعداً له، ثم سطوته على مشاعر (كايا) خطيبة راجنر أبن بروفك، ومن بعدها على هيلدا. لتدفعه كل هذه النجاحات، لأن يضاعف تفوقه، في المجال الذي يعمل فيه، وهو بناء الأبراج في البيوت ألأكثر ارتفاعاً من السابق. 
أما جان عبر سطوته على جوليا، هذه السطوة التي لم يتخيلها حتى في ألذ وأمتع لحظات أحلامه، لا لأنه خادمها ويطيعها كالكلب فقط، وأنها تنتمي الى الطبقة الأرسقراطية، وهو الى العبيد، وإنما أيضاً، وكما يصفها سترندبيرغ: (بأنها  نصف إمرأة، وكارهة للرجال، إنها فتاة عصبية، تشعر بكبرياء وإن كانت على استعداد لكبت هذا الشعور في سعيها المحموم وراء إشباع ولعها بالأثارة الحسية)(10). وهاهي تقر نفسها بذلك في أجابتها على سؤال جان: ألم تحبي أباك يا آنسة جوليا؟ 
جوليا: نعم كثيراً جداً. لكن كان عليّ أن أكرهه أيضاً، لا بد أنني كنت أكرهه دون أن أدرك هذا. أنت تعلم أنه علمني أن أكره جنسي – أن أكون نصف أمرأة ونصف رجل.
فسطوة جان على مثل هذه النمرة، ليس بالأمر الهيّن، وأي كائن كان سوف يشعر بالتفوق، وتميزه عن الآخرين، سيما إذا عرفنا بأنها هي التي تقوده الى مغازلتها وممارسة الجنس معها.(وأحد الخدم هو الذي أوحى لسترندبيرغ بشخصية جان، لأنه أظهر له بوضوح بأنه لا يفكرفيه كشخص أفضل منه شخصياً)(11)، موظفاً إياها على لسان جان وهو يخاطب جوليا على هذا النحو: نعم، بالنسبة إلي. فأصلي أفضل من أصلك..
 
———————————————
المصدر : مجلة الفنون المسرحية – المدى 

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *