مفهوم الكتابة عند برشت.. تحطيم الأشكال الجاهزة


ناجــي حســين 
 
في الوقت الذي  كان فيه لوكاش يأسر نفسه ضمن أُطر معينة في الواقعية  كان برشت يحاول  تحطيم كافة الأشكال الجاهزة , وبناء واقعية جديدة ملائمة للتغيرات  الاجتماعية , ومتوافقة مع دور الأدب السياسي في اتمام مهام الثورة  الاشتراكية. فدعا إلى”الواقعية المقاتلة”كشكل أدبي يستجيب كليا لديالكتيك  الحياة ويعبر عن الصراع الاجتماعي في كل أبعاده الممكنة ,
 
ولم يكتف برشت في قراءة العملية الأدبية في تاريخ الأدب أو في تاريخ الفلسفة فحسب , بل كان يرصدها في مجمل النشاطات الاجتماعية , بحيث يعيد صياغتها من جديد كعملية فاعلة ومتفاعلة على السواء مع النشاطات الأخرى في الزمان والمكان , كما أنه لم يضع لهذه العملية أي حدود , ولكن فسح المجال رحبا لأن تتم عملية التفاعل بحرية. أن هذا الأمر يحتاج بالضرورة , إلى تعريف الأدب كعلاقة اجتماعية قائمة في منظومة كاملة للعلاقات الاجتماعية المتفاعلة , يقول برشت”الأدب ممارسة اجتماعية متميزة , ترتبط بمجمل الممارسات اجتماعية”. وتأكيدا على ما سبق عرف برشت الواقعية كممارسة متعددة المركبات:”الواقعية ليست قضية أدبية فحسب , أنها أكبر من ذلك بكثير , فهي قضية سياسية , فلسفية , عملية , ينبغي أن ترى كذلك وتعالج كذلك , أي كقضية تمس مجمل الحياة الاجتماعية”. وانطلاقا من قناعاته السياسية ورؤيته بأن وظيفة الأدب والفن تكمن في تحقيق الثورة الطبقة العاملة وجميع الكادحين , قدم برشت مفهوما جديدا ومتجددا للواقعية , برشت السياسي لم يكن على الأطلاق يفصل بين الفن ووظيفته , فالفن عنده محدود بوظيفته , ويتطور ويتشكل وفقا لأهداف هذه الوظيفة , المؤطرة بأطر سياسية , بمعنى أخر فان برشت يرى الالتزام السياسي والموقع الطبقي هما الأساسي لأي بناء أدبي , وانطلاقا من ديالكتيك الفن والسياسة من تصوره الماركسي يؤكد برشت على المعرفة الأدبية ويدعوا إلى أدب وفن منتجين للمعرفة , فقد بين المعرفة الأدبية والقانون العلمي حتى درجة المبالغة , أحيانا , حتى انكر عفوية الأديب , واستبعد اية علاقة لا تخضع للمحاكمة , وجعل من العمل الأدبي وسيلة لشرح علاقات الواقع الموضوعي , وأداة فعالة من أجل هدم الأوهام التي ينتجها , يقول”برشت”:”اذا أردنا أن نكتب حقيقة فاعلة عن حالة اوضاع سيئة , فينبغي كتابتها بطريقة تمكننا من التعرف على أسبابها”. ويقول أيضا:”لنلق جانبا كل الأشياء التي تمنعنا من الكشف عن السببية الاجتماعية بشكل كامل”. أن محاولة برشت التأكيد على”التعرف”وعلى”السببية الاجتماعية”قد قاده إلى أعتبار الأدب مجالا رحبا للبحث والتقصي. في كل ميادين المجتمع والمعرفة , ولهذا فانه يقول:”يحتاج الكاتب في زمن الصعوبات والهزات العظيمة , إلى معرفة الديالكتيك المادي والأقتصاد والتاريخ”. أي أن معرفة هي ضرورة للكاتب من اجل التعامل الصحيح مع زمانه والتفاعل معه , أو من أجل انتاج معرفة جديدة قادرة على تغيير هذا الزمان إلى الأمام. مهما يكن من أمر فأن مفهوم”الواقعية المقاتلة”قد دفع برشت إلى آفاق جديدة في المعرفة والعمل باتجاة أنشاء آلية جديدة في فن الكتابة والقراءة على حد سواء , آلية وظيفة تحدد بداية الكتابة ونهايتها , وتجعل من النتائج السياسية حكما مطلقا لبدايتها ونهايتها , فهدف الكتابة هو في نهاية المطاف تحقيق امر ما مشخص. والوصول إلى نتيجة مفيدة وصالحة للأستعمال:”ينبغي أستخلاص حقيقة نستطيع أستخدامها من أجل شيء ما”. اما هذا”الشيء”الذي تدور حوله الكتابة فهو الثورة الاجتماعية , بمعنى آخر أكثر دقة , انتاج الإنسان القادر على تحقيقها.وعلى ضوء رؤية برشت يجب أن نكتب ونقل الحقيقة التي تقع على عاتق الكاتب والمثقف العراقي الوطني على ما حل بالعراق من الخراب والدمار , لماذا نرى كتاب الغرب يكتبون ويفضحون أدارة المجرم بوش التي زيفت وثائق كي تستخدمها ذريعة لقرار شن الحرب على العراق. حين يقرأ أي مواطن عراقي أو عربي كتاب جورج تينيت «قلب العاصفة”الصادر في عام 2007 يتوصل فورا إلى الحقيقة المؤلمة دون مشقة , ذلك أن الخراب الذي حلّ بالعراق كان عن سابق إصرار وبطريقة منهجية استخدمت فيها آلة التضليل والكذب والنفاق الإيديولوجي لتحقيق الأهداف السياسية، لاسيما المعلومات التي صيغت بطريقة مخادعة والتي تم الاستناد إليها باعتبارها حقائق لا يرقى اليها الشك، خصوصاً بشأن امتلاك العراق أسلحة الدمار الشامل وعلاقة الحكومة العراقية بالارهاب الدولي وتنظيم القاعدة. لعل مثل هذه الأكاذيب خدعت الشعب الامريكي وجميع الشعوب العالم , كلنا يعرف حروب العالمية التي نشبت رغم ما يقال عنها وعن مبرراتها وأسبابها ومسوّغاتها سببت ويلات وآلاما ومآسي لا حصر لها، الا أن الحرب على العراق كانت وتكون هي أكثر انحطاطاً في التاريخ، وذلك بسبب حجم الزيف والخداع والكذب الذي رافقها، ويؤكد تينيت مدير وكالة المخابرات المركزية في كتابه إنه حذر تشيني نائب المجرم بوش عن عدم صحة شراء اليورانيوم لغرض الاعداد لسلاح الدمار الشامل, ثم قدم تقريرا إلى المجرم بوش يشير بعدم صحة معلومات، لكن ماكينة الدعاية ظلّت تلفق وتلفق لتضخ بالأستمرار دون توقف، تلك المعلومات المضللة باعتبارها حقائق. وقد كتب كنعان مكية وغيره من صانعي الأكاذيب ومؤيدي الحرب الذين ندموا على مشاركتهم في دمار العراق, يشير زلماي خليل زاد المنسق مع المعارضة العراقية الموالية لواشنطن ولإيران قبل الاحتلال , على درجة عالية من التنسيق والتفاهم، لاسيما بعد الاحتلال مباشرة، حيث وافقت على الاشتراك في مجلس الحكم الانتقالي السيء الصيت الذي أسسه بول بريمر، والذي كان بداية المحاصصة الطائفية- العرقية. نتج عنه استشراء ظاهرة التفكك المجتمعي والانقسام الطائفي، وانتشار الميليشيات، وتكريد مدن العراقية، وشيوع ظاهرة الفساد والرشوة على نحو لم يسبق له مثيل في التاريخ. وجدير بالذكر سوف يصدر قريبا في الولايات المتحدة كتاب جديد هو”طريق العالم”كتبه الصحفي رون سوسكينا، الذي نال في الماضي جوائز عديدة على عمله. يكشف النقاب عن فضيحة تزييف وثيقة تدعي بان رئيس الاستخبارات لدى صدام حسين كان عميلا لبريطانيا وبعد ذلك أصبح عميلا لـ (سي.أي.إيه). ويزعم الكتاب بانه بعد بضعة أشهر من احتلال الولايات المتحدة العراق في حرب الخليج الثانية طلبت بفبركة الرسالة الشهيرة (سي.أي.إيه) من طاهر جليل حبوش التكريتي أن يكتب بخطه على ورقة رسمية للحكومة الاحتلالية في بغداد, حملت تاريخ 11-9-2001 تضمنت مزاعم عن استقبال العراق لمحمد عطا، الذي وقف على رأس فريق نفذوا العملية في البرجين التوأمين في الولايات المتحدة، تدرب في العراق استعدادا لتنفيذ المهمة. كما كتب التكريتي في الوثيقة بان منظمة القاعدة ساعدت العراق على الحصول على اليورانيوم من نيجيريا. ويزعم الكتاب بان الوثيقة المزيفة نشرت بعد ذلك على الصحافيين في الولايات المتحدة، بريطانيا وفي العراق المحتل , والسبب من نشرها خلق الانطباع وكأنها وثيقة أصيلة اكتشفتها القوات الامريكية في أرشيف وزارة الخارجية العراقية. وقد صدق بعض الصحافيين هذه القصة، ونشرت الوثيقة المزيفة ضمن صحف اخرى في الصحيفة البريطانية”ديلي تلغراف”. وكانت هناك صحف نشرت الوثيقة ولكنها شددت على أن مصداقيتها موضع شك. كما يزعم الكتاب بانه في الشهرين قبل شن الولايات المتحدة حرب الخليج الثانية التقى التكريتي سرا مع مسؤوليه البريطانيين في الأردن وقال لهم أن صدام حسين لا يطور على الاطلاق سلاحا نوويا وأنه تخلى عن نيته هذه في التسعينيات. هذا ونفى البيت الابيض و(سي.أي.إيه) هذه المزاعم التي يذكرها الكتاب في هذا الشأن, وكعادتهما ينكرون جميع الحقائق, بينما أسلوب التضليل والخداع والأكاذيب هو المنهج السائد لدى غزاة المحتلين وأذنابه الاحتلالية في تدميرالدول وقتل شعوبها. من الضروري الوجوب الكتابة عن الحرب الكارثية والقذرة ضد العراق من موقع الوطني والإنساني , ومطالبة المجتمع الدولي بتقديم مجرمي الحرب كل من أدارة بوش وبلير وملالي إيران ودول الخليج وبعض من أنظمة العربية وجميع الأحزاب العراقية التي تعاونت ونسقت مع الاحتلال إلى محاكم دولية لأرتكابهم خيانة عظمى وجرائم حرب ومحو الجنس البشري بإستخدام الذخائر المصنعة من النفايات النووية مما يزيد من المخاوف أن أغلبها إستخدمت في حرب عام 1991 من ذخيرة اليورانيوم سقطت على جنوب العراق، وخاصة البصرة والمناطق المحيطة بها والقريبة من الحدود الكويتية، بينما في حرب عام 2003 قصفت القوات الأمريكية والبريطانية كافة أنحاء العراق، وإستهدفت حتى المناطق الكثيفة بالسكان، وتبين ان الذخائر المستخدمة كانت مطورة كثيراً وذات قدرة تدميرية رهيبة، وأكثر فتكاً. تقدر وزنها 320 – 800 طناً إستخدمت عام 1991.. ولا يعرف أحد، إلا الله، ما الذي ينتظر الشعب العراقي من أضرار كمية وزنها 2000 طنا من القذائف المطورة والأكثر فتكاً بالبشر، إستخدمت عام 2003 ضد العراق.. تعتبر جرائم أبادة بحق الإنسانية وفقا للقوانين الدولية. يؤكد برشت على”الواقعية المقاتلة”في تمهيد نحو ثورة شعبية , وأنني أثني على دور”الأدب المقاومة”و”المثقف المقاتل”من أجل التعامل الصحيح مع وطنه في محنته الكارثية وفي تهيئته الجماهير القادرة على تحقيقها, وهكذا فأن دور الكتابة , يتحدد قبل كل شيء باعداد القارىء وتربيته وتهيئته وتحريضه , لخوض غمار الثورة , فالثورة ترى الكتابة في مردود القراءة وفي القارىء الذي يترجم تعاليم الكتابة بممارسات أجتماعية تطلب على الدوام بالتغيير نحو الأفضل.
 
——————————————————–
المصدر : مجلة الفنون المسرحية – ملحق منارات 

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *