مفتّش غوغول: المسرح الواقعي ما زال قريباً

طالما اعتُبر نيكولاي غوغول (1809- 1852) كاتب الحياة الواقعية في المسرح الروسي، ورائد المدرسة الواقعية فيها، تلك التي تنقل القضايا المعاصرة بلغة تقترب في بساطتها من لغة الحياة اليومية. ومصطلح “الواقعية ” يعود بمعناه المعاصر إلى ثلاثينات القرن التاسع عشر، للدلالة على فن لا يولد فقط من الخيال ولكنه ينبثق من ملاحظة الواقع بدقة.

لدى ظهورها، تطلّب تجسيد مسرحيات غوغول على المسرح البحث عن صيغ مسرحية جديدة على مستوى الإيحاء بالواقع، وساعد فن الإخراج بأفكاره التقدّمية آنذاك على إخفاء كل ما يبدو غير حقيقي على خشبة المسرح، كما أن الشخصيات كانت تتحرك على المسرح بشكل يجعلها تبدو بمعزل عن الجمهور.

ورغم أن مسرح غوغول كان يحاول نقل القضايا التي تهم الجماهير في المقام الأول، إلا أن بعض النقاد تساءلوا حول قدرة المسرح الواقعي على تحقيق هدفه وهل كان بالفعل انعكاساً حقيقياً للواقع.

كانت مسرحيات غوغول شعبية وأصيلة نتيجة قربها الشديد من واقع الجماهير، ما أثار ضده بعض النقاد المتمسكين بالأشكال القديمة للمسرح. كان في مسرحياته تناغمٌ وقربٌ من الذوق الشعبي البسيط واهتمام واضح برصد دوافع أفعال الشخصيات سواء كانت نفسية أو اقتصادية، كما أن مشكلات الموظفين الصغار والحرفيين والفنانين والبسطاء كانت هاجسه الأول.

في مسرحيته الأشهر “المفتش العام” التي مُثّلت لأول مرة على مسرح بطرسبرغ عام 1836، ولاقت نجاحاً كبيراً، تناول غوغول مشاكل الحياة الملحة، وكال فيها نقداً لاذعاً لواقع الظلم والفساد والرشوة والأوضاع الصعبة التي يعيشها فقراء ذلك الزمن؛ وربما لهذا ما زالت تعرض بنجاح على المسارح العالمية لتماهيها مع مشاكل الطبقة المفقرة التي لم تتغير كثيراً رغم مرور زمن طويل على كتابة المسرحية.

المسرحية تدور حول بلدة صغيرة في الريف الروسي يتلقى عمدتها أنباء سرية تفيد بأن هناك مفتشاً عاماً، متنكراً من سانت بطرسبرغ، بهدف القيام بحملة تفتيش إدارية في البلدة نفسها. كانت الزيارة أسوأ ما يمكن أن يحدث للحياة الاجتماعية، نظراً للفساد المستشري من أسفل السلم الوظيفي إلى أعلاه؛ لذلك يشعر العمدة وأعوانه وبقية الموظفين أن ثمة مشكلة كبيرة ستحلّ عليهم، ولا بد من التحرّك سريعاً تحسباً للأمر.

أسست مسرحية المفتش لمسرح الانتقاد الاجتماعي الذي خرج من عباءتها، تماماً كما يقال إن الرواية الروسية الحديثة قد خرجت من “معطف” غوغول، لكن الكاتب نال شهرته الكبيرة فعلاً بفضل “المفتش العام”، من بعدها صارت مسرحياته تقدّم بشكل شبه منتظم طوال السنوات العشر التالية لعرضها.

وما زالت المسرحية تعتبر من الأعمال الخالدة وتعرض على المسرح العربي بصيغ مختلفة؛ نظراً لأنها ترصد قضايا ما زالت متجذّرة في مجتمعاتنا العربية حتى اليوم مثل الوصولية والرشوة وتغليب المصلحة الشخصية على المصلحة العامة.

المسرحية بصيغتها الأصلية اقتُبست منها العديد من الأعمال الفنية، وقُدّمت لأول مرة في مصر عام 1956 في فيلم كوميدي من بطولة اسماعيل يس وتحية كاريوكا وكتب له السيناريو والحوار أبو السعود الإبياري وأخرجه حلمي رفلة. ثم قُدّمت مرة أخرى على المسرح عام 1961 وأخرجها عبد المنعم مدبولي بنفس عنوانها الأصلي “المفتش العام”.

لم تتوقف التنويعات على المسرحية الأشهر لغوغول، ففي عام 1979عرضت في التلفزيون المصري في شكل مسلسل بعنوان “غريب في المدينة” كتب له السيناريو والحوار عبد الرحمن فهمي وأخرجه إبراهيم الصحن وكان من أنجح المسلسلات وقتها لتماسه مع مشاكل المجتمع المصري في حينها.

وفي العام الماضي عادت المسرحية إلى الحياة من جديد، وعُرضت في القاهرة على خشبة “المسرح العائم” بعنوان “أنا الرئيس”.

مئة وثمانون عاماً مرّت على عرض المسرحية لأول مرة، وما زالت “المفتش العام” من أكثر الأعمال قُرباً من موضوعة الفساد والعمل العام.

سارة عابدين

https://www.alaraby.co.uk/

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *