مصادر قاسم محمد المسرحية … المؤثـــرات والتــأثــير

مصادر قاسم محمد المسرحية

المؤثـــرات والتــأثــير
قد يبدو من الصعب جدا الإحاطة بمساحة جغرافية الإبداع المسرحي المتنوعة التي تحرك عليها الفنان المسرحي العراقي قاسم محمد، وذلك بسب غزارة إنتاجه إخراجا وإعدادا وتأليفا، وفي أحيان أخرى تمثيلا.. وتدريسا لاختصاصات مختلفة في فن المسرح في معهد الفنون الجميلة واكاديميتها (كلية الفنون.. لاحقا) ببغداد (إخراج ، تمثيل ، رياضة مسرحية الخ..) فهو ينفرد من بين جميع زملائه المسرحيين العراقيين بهذه الغزارة المتنوعة في الإنتاج المسرحي, لذا نود أن ننوه.. بأنه كان من الصعب جدا أن نلم أو أن نتابع جميع المسرحيات أو العروض المسرحية التي أعدها أو أخرجها أو(كتب..!) النص لها كما يشير الى ذلك دليل العرض (الفولدر) في معظم الأحيان، وهذه النقطة الأخيرة (كتب..) موضع تساؤل منّا كما سنوضح ذلك خلال هذه الدراسة، أو مقارنة في ما يسميه الفنان نفسه أحيانا (سيناريو..) العرض المسرحي..! وسيقتصر بحثنا على فترة تاريخية محددة من نشاط هذا الفنان ويبدأ منذ عودته بعد إكمال دراسته الأكاديمية بموسكو عام 1971 ولغاية عام 1984 لأسباب فنية وأخرى واقعية…..
وكذلك لا نعني بمصادر قاسم محمد المسرحية كما جاء في عنوان البحث.. بمعنى النصوص أو المصادر التاريخية والأدبية التي شكلّت مرجعية ثقافية أو نصية لأعماله ونتاجاته المسرحية, بل نعني المؤثرات.. أو المحددات التي أشتغل تحت تأثيرها فكريا أو أسلوبيا… المؤثرات السياسية والفكرية والفنية التي تركت مؤشراتها أو آثارها واضحة على أعمال هذا الفنان.. وسواء كانت هذه المؤثرات مباشرة أو غير مباشرة والتي طبعت جميع أعماله المسرحية بطابعها، المؤثرات سواء بشكلها التقني الظاهر في الشكل الفني أو الأيديولوجي أو ألظرفي السياسي أحيانا، وأيضا طبيعة ذلك التأثر والأشكال الفنية الإبداعية المختلفة التي تجلى بها في تلك الأعمال والعروض المسرحية الكثيرة، مع الإشارة إلى تلك المصادر أو المرجعيات سواء بشكلها الأدبي أو الوثائقي أو الظرف السياسي الذي سمح بها.
عندما عاد ذلك المسرحي العراقي الشاب من موسكو عام 1971 بعد (التغيير الثوري..) الذي حصل في البلاد في السنوات القليلة التي سبقت عودته (1968) وكما شاعت تلك التسمية في الأدبيات السياسية حينها… كان الفنان العائد أيضا محملا بطموحات فنية مسرحية كبيرة جدا… لمسناها في تلك الغزارة والتنوع المثير في تلك التجارب المبكرة له بعد عودته مباشرة, وربما ساعده على ذلك ما أتاحه المناخ الثقافي والسياسي المحلي السائد آنذاك، والمنفتح على اليسار العالمي وأفكاره ومناهجه المتنوعة في مستهل عقد السبعينات. في بداية أعماله المسرحية بعد عودته مباشرة نستطيع أن نقول: أن المضمون السياسي الإنساني والاجتماعي (الثوري التقدمي…) هو الذي شغل تفكير ذلك الفنان الشاب العائد توا من موسكو، العاصمة البراقة لليسار العالمي آنذاك، قبل ثورية الشكل. وبشكل أدق لم نستطع أن نحدد في تلك الأعمال وفي هذه الفترة المبكرة من حياته المسرحية ونشاطه المتوقد هما واضحا للبحث عن شكل فني جديد للعرض المسرحي كالذي لمسناه لديه وشاهدناه بشكل واضح في فترة لاحقة من تجاربه, صحيح إننا شاهدنا أعمالا مسرحية جديدة شكلا ومضمونا, لكن هذا المضمون (الثوري التقدمي) هو الذي تقدم إلى واجهة العرض وأصبح لافتة علنية له.
ربما حداثة تلك النصوص التي أشتغل عليها، وكونها مترجمة أصلا عن مرجعيات يسارية أو مسرح (راديكالي) حديث في وقتها، فإنها عكست هذا الاتجاه في المسرح بسب سخونة الأحداث السياسية.. أحداث من مثل مناصرة القضية الفلسطينية والتضامن العالمي معها…. ظهور وانتشار نموذج شخصية الثائر الارجنتيني تشي جيفارا وترجمة مذكراته المثيرة للاهتمام وتوزيعها داخل العراق في ذلك الوقت، الى جانب الاهتمام بالتجربة الكوبية وتسليط الضوء عليها في ذلك الوقت.. القصف الأمريكي على فيتنام, ثورات التحرر الوطني في أفريقيا وآسيا, مناهضة التمييز العنصري في أمريكا وأفريقيا, وجذب تلك الأحداث لحملات تضامن الطلبة والشباب في العالم وعقد المهرجانات الدولية من اجلها، وقبلها ثورة الطلبة في فرنسا وآثارها العالمية الفكرية والسياسية فيما بعد. إذ نلمس ذلك المؤثر العالمي أو الأممي واضحا في المسرح العراقي عموما بشكل ملموس ومباشر ليس عند قاسم محمد وحده، فقد شهدت تلك الفترة عروضا مسرحية هامة جدا تنضوي تحت تلك اللافتة أيضا نفسها من مثل مسرحية (أين تقف..؟) التي أعدها وأخرجها المخرج السينمائي والمسرحي الراحل جعفر علي، كما قدم المخرج نفسه أيضا في الموسم التالي مسرحية (فيت روك) لبيتر بروك, وأخرج أيضا الفنان حميد الحساني في الوقت نفسه مسـرحيـة (أنشودة أنغولا أو غول لويتزيانا…) لبيتر فايس.
في هذا الجو الفني والأدبي المشحون بالقلق والهم السياسيين الواضحين وبـ (القضية العالمية…!!) غائمة الملامح، وبنزعة أممية عاطفية بالدرجة الأولى، مقابل اهتمام بدرجة أقل منه بالقضايا العربية باستثناء القضية الفلسطينية.. إضافة الى الاهتمام بالدرجة الأدنى بالموضوع السياسي المحلي..! بدأ قاسم محمد نشاطه المسرحي، إذ قدم بعد أن ترجمها بنفسه مسرحية (حكاية الرجل الذي صار كلبا) لأزفالدو دراكون، كما ترجم ومثل في مسرحية للكاتب نفسه أيضا (قصة صديقنا بانجيتو) والتي أخرجها في ذلك الموسم الفنان روميو يوسف, وقدم أيضا اخراجا في الموسم نفسه مسرحية (الإملاء) للكاتب الإيراني التقدمي كوهر مراد وهو أسم مستعار للدكتور غلام حسين ساعدي. كما أنه أشتغل في نفس الموسم أيضا على مسرحيته العراقية الشعبية ذائعة الصيت (النخلة والجيران) التي اسهم في إعدادها مع كاتبها العراقي المغترب غائب طعمه فرمان التي سنقف عندها لاحقا
. قدّم قاسم محمد إخراجا في الموسم التالي مسرحية (أنا ضمير المتكلم) التي أعدها عن قصائد لشعراء (المقاومة الفلسطينية) آنذاك، وقصائد أخرى لبيتر فايس وبيتر بروك وبرتولد برشت وآخرين، وهذه المسرحية تتمتع بأهمية خاصة لدى الباحث..! إذ إنها عكست لأول مرة شكل التأثر السياسي والفني السريع بما هو آني وسائد والذي وسم بميسمه أغلب أعمال قاسم محمد للفترة اللاحقة من حياته المسرحية هذا أولا , وثانيا تأتي أهمية تلك المسرحية في كونها عرضت بمهرجان دمشق المسرحي الرابع، حيث شاهد قاسم محمد لأول مرة في حياته أعمالا مسرحية مستوحاة من التراث العربي الإسلامي، إذ قدم المخرج المغربي الطيب الصديقي هناك تجربة جديدة ومثيرة للجدل حينذاك، معدة عن أدب المقامات، وتحديدا مقامات بديع الزمان الهمذاني وتحمل الاسم نفسه، كما شاهد أيضا مسرحية (جحا في الصفوف الأمامية) للمخرج جلال خوري, وقد لعبت هذه المشاهدة لتلك الأعمال، وستلعب لاحقا دورا كبيرا مهما ومؤثرا فيما بعد، بل ستكون نقطة تحول في حياة فناننا الشاب.. إذ لفتت تلك التجارب نظره إلى حقل جديد لم يلتفت اليه سابقا إلا وهو التراث العربي والموروث الشعبي، وسواء كان العربي أو المحلي المكتوب منه أو ألشفاهي, بعد أن كان يشتغل في الحقل السياسي والاجتماعي المباشر، إذ طبعت تلك المشاهدة أكثر أعماله اللاحقة بطابعها، وبالتحديد الأعمال التي تناول فيها الموروث العربي الإسلامي والمحلي الشعبي، وسوف نتعرض لذلك بالتفصيل فيما بعد وفيما يخص أعماله اللاحقة.
وفي الموسم المسرحي للعام1971 قدم قاسم محمد رواية غائب طعمه فرمان (النخلة والجيران) بعد أن اسهم في أعدادها للمسرح مع المؤلف في إثناء مزاملته له خلال فترة دراسته للمسرح في موسكو. وقد جاءت هذه المسرحية تتويجا لنشاط المسرح العراقي الواقعي (السياسي) وتاريخه عموما في عقدي الخمسينات والستينات الذي ابتدأ مع مسرحيات من مثل (آنه أمك يا شاكر) تقريبا و (فلوس الدوه) وأعمال مسرحية أخرى أقل أهمية، فقد كانت مسرحية (النخلة والجيران) قمة ذلك الاتجاه من دون منازع، إذ لم يرتق أي عمل مسرحي عراقي آخر تلك القمة بعدها أبدا، لكن ذلك المنحى بدأ ينحدر بعد المسرحية الأخيرة تدريجيا سواء فكريا أو فنيا، من غير أن يحاول أحدا الارتقاء به أبدا، فقد استلبت الكوميديا التجارية فيما بعد التي تلبست بلبوس المسرح الواقعي في السنوات الأخيرة والتي أتسمت وأسرفت بالابتذال أغلب الأحيان.
لنعد الى مسرحية (النخلة والجيران) فقد منحت الرواية الواقعية نفسها للمسرح بسهولة.. بحكم منهجها وطريقة كتابتها, إذ كان فيها المؤلف والمعد ـ المخرج خاضعين فيها تماما لمذهب (الواقعية) الفنية في المسرح، والتي شكلت مرجعيتهما الفكرية والسياسية بحكم وجودهما معا في موسكو آنذاك. ربما تتفرد مسرحية (النخلة والجيران) بعدم خضوعها لأي مؤثر خارجي أو ظرفي آني، سواء كان سياسيا أو أيديولوجيا ظاهرا أو مباشرا كما هي الحال في أعمال المخرج الأخرى السابقة، اللهم إلا طراوة تجربته الدراسية التي أشرنا لها آنفا, ولكن هذا لا يعني وقوعها خارج الشرط الموضوعي أو التاريخي لتلك الفترة سواء من تاريخ المسرح العراقي، إذ سبقتها على نفس النهج الأعمال المسرحية التي ذكرناها ، أو من تاريخ العراق السياسي بشكل عام. ورغم ذلك فقد حضيّ هذا الشكل ـ أي المسرح الواقعي ـ باهتمام الجمهور سواء النخبة منه أو العامة، وكذلك نقاد المسرح في العراق, فالمنحى السياسي الفكري في المسرحية وخطابها الراديكالي غير المباشر، ووضوح شخصياتها وجذورها الواقعية، منحها صفة نمطية مماثلة لنمطية الشخصيات المسرحية في المسرح التقليدي, إضافة إلى ألفة المكان في الرواية (أزقة بغداد وبيوتها الشعبية) وتجسيدها كسينوغرافيا على المسرح مما أضفى عليها شيئا من الإبهار، وهذا ما جعلها علامة بارزة ومميزة في تاريخ المسرح العراقي.
وتحت تأثير النجاح الكبير لتلك المسرحية، أشتغل المخرج قاسم محمد بعد ذلك على مسرحية (نفوس) التي أعدها أو بالأصح (عرقها) عن مسرحية (البرجوازيون) أو (البرجوازي الصغير) كما جاء في بعض الترجمات لمكسيم غوركي، بعدما أشيع ذلك المصطلح (التعريق..) أي استعمال اللهجة العراقية المحلية في عملية الأعداد في الوسط المسرحي في تلك الفترة، لكن (نفوس) لم ترق لمستوى ذلك النجاح الفني والجماهيري الكبيرين الذي حظيت بهما مسرحية (النخلة والجيران) وذلك لأن عملية الاعداد أو التعريق في مسرحية (نفوس) جاءت بنقلها الى اللهجة المحلية فقط بعيدة عن الروح الشعبية العراقية، إذ أن بناء الشخصيات وتركيبها مسرحيا جعلها طافية على سطح الواقع، فلم تنحدر أو تتجذر في عمقه، فقد كانت شخصياتها فقط تنطق بلهجة عراقية. قبل عرض مسرحية (نفوس) أي في عام 1971 وتحت نفس التأثير السابق أي نجاح (النخلة والجيران) أخرج قاسم محمد مسرحية (الشريعة) التي كتبها الفنان يوسف العاني، ورغم المساحة الكبيرة التي شغلتها هذه المسرحية من اهتمام جمهور المسرح آنذاك، ونقاده أيضا في الصحافة المحلية والعربية، لكنها لم ترق إلى النجاح الذي حققته (النخلة والجيران) أيضا إذ لا يكفي الانبهار بالواقعي المحلي، وملامحه الشعبية الفولكلورية كما تلبست به تلك المسرحية، ومن ثم نقله على خشبة المسرح لكي تبث فيه الحياة من جديد فنيا، فهو يحتاج لعملية إعادة تحليل وتركيب بشروط العملية الفنية، وليست بشكل نقلي مفتعل، فقد نقلت المسرحية وقائع حياة فئات شعبية عراقية واسعة في لوحات مسرحية افتقرت في أبسط الاحوال إلى الوحدة الموضوعية والترابط المسرحي. فقد حاول المؤلف والمخرج أن يجمعا في مسرحية (الشريعة) بين مجموعة حكايات شعبية مختلفة هي حكاية فاضل البلام، وحكاية شريعة أبن طوبان بتفاصيلهما الواقعية ونقلها الى خشبة المسرح.
والشيء نفسه يمكن أن يقال عن تقديمه فيما بعد لمسرحية (شيرين وفرهاد) التي أعدها باللهجة البغدادية ـ أي عرقها ـ عن مسرحية الشاعر التركي ناظم حكمت بلاسم نفسه, فقد كانت المسرحية الأخيرة وبشكل واضح أيضا تحت تأثير النجاح الكبير لمسرحية (ألبيك والسايق) التي أعدها وعرقها الشاعر والناقد صادق الصائغ عن مسرحية برتولد برشت (بونتلا وتابعه ماتيه) والتي أخرجها بنجاح كبير الراحل إبراهيم جلال، وشارك فيها قاسم محمد وباستحقاق لقب ممثل كبير، عندما أدى شخصية التابع ماتيه أي السائق أو التابع.
نلاحظ في الأعمال السابقة باستثناء (النخلة والجيران) سمة التأثر السريع بما هو آني الذي تجلى وبشكل واضح في تلك الأعمال والعروض المسرحية, كما نلاحظ فيها الخضوع للمؤثر السياسي السائد أيضا بشكل مباشر أو غير مباشر، وقد تجلى بشكل واضح في تلك الأعمال التي سبق ذكرها أو التي جاءت بعدها، لا بل أنه رسم جغرافية المسرح أحيانا كما في بعض أعماله تحت تأثير النفوذ الأيديولوجي الذي خضع إليه في ذلك الوقت، حتى انه وزع شخصياته على يسار ويمين المسرح حسب مواقفهم وأفكارهم السياسية كما لاحظنا ذلك في مسرحية (الإملاء) وكما أشار الى تلك النقطة بالذات معظم النقاد الذين تناولوا أعماله المسرحية آنذاك، مثلا ياسين النصير في كتابه (وجها لوجه) ص 123 والناقد علي مزاحم عباس في مقاله “ضوء على مسرحية الإملاء” في مجلة (المسرح والسينما) العراقية في عددها المزدوج 7 ـ 8 عام 1972 في الموسم المسرحي نفسه لذلك العام.. الذي قدّم فيه قاسم محمد مسرحية (الشريعة) قدم أيضا مسرحيتين هامتين في تاريخ حياته المسرحية، وقعهما باسمه تأليفا وإخراجا..! هذا رغم وضوح مرجعيتهما أو مصادرهما الأدبية المناقضة لذلك…!! هما كل من مسرحية (ولاية وبعير) التي يتضح أصلها من اسمها وبما لا يقبل اللبس بإحالتها إلى مسرحية (الفيل يا ملك الزمان) الشهيرة للكاتب السوري سعد الله ونوس، ومسرحية (طير السعد) التي تعود وبشكل لا يقبل الجدل أيضا بالنسبة إلى المتخصصين والدارسين في هذا الحقل إلى مسرحية (الطائر الأزرق) للكاتب التشيكي موريس مترلنك…!!
تعتبر مسرحية (بغداد الأزل بين الجد والهزل ) عام 1974 نقلة تجريبية مهمة ومميزة بين سلسلة تجارب قاسم محمد معدا أو مخرجا أو حتى مؤلفا، وكذلك في كونها الخطوة الأولى التي خطاها على صعيد التجريب في (التراث المكتوب والبحث بين صفحاته عن شكل مشهدي, أو طقس احتفالي يحتوي جذورا درامية ) كما جاء في (دليل العرض المسرحي ـ الفولدر) لذا فقد ظن جميع من يتابع أعمال هذا المخرج بأنه عثر على ضالته (النهائية) في كتب الجاحظ وأدب المقامات وفي رسائل أبي حيان التوحيدي وفي شعر الكدية في العصر العباسي الأول، وفي (السوق البغدادي القديم) وفي التناقضات الاجتماعية (الطبقية) التي عصفت ببنية المجتمع العربي الإسلامي في القرنين الثالث والرابع الهجريين, وما انطوت عليه تلك التناقضات من صراعات اجتماعية، وما أفرزته تلك الصراعات من شخصيات معروفة سواء كانت إيجابية أو سلبية عاشت في بطون كتب التراث. كل هذا منظورا اليه من وجهة نظر أيديولوجيا اليسار آنذاك.. فقد ظهرت في تلك الفترة الكثير من الدراسات والبحوث التاريخية والفلسفية المهمة في هذا المجال، ومن خلال وجهة النظر الجديدة تلك التي أثارت الاهتمام والتساؤل والنقاش بطرح وجهات نظر مختلفة مع ما هو سائد ومألوف حينذاك، التي طرحت لأول مرة فيها موضوعات ومقدسات لا تقبل الجدل على بساط البحث والتنقيب والتساؤل، في كل من التراث والفكر الإسلاميين، ولأول مرة أيضا توضع الكثير من الثوابت والمحظورات التاريخية موضع ونقد وبحث, بل أصبحت تلك الاتجاهات أحدى السمات الرئيسية السائدة في ثقافة تلك الفترة من حياتنا، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر كتاب الدكتور العراقي فيصل السامر الذي صدر مبكرا جدا من تلك الفترة (ثورة الزنج) ثم أطروحة الكاتب اللبناني د. حسين مروه (نظرات مادية في الفلسفة الإسلامية) وترجمة كتاب بندلي جوزي الشهير (تاريخ الحركات الفكرية في الإسلام) وكذلك كتاب المفكر السوري الطيب تيزيني (مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط) وكتاب الباحث اللبناني صادق جلال العظم (نقد الفكر الديني) إضافة إلى عدد آخر من البحوث والدراسات الجريئة التي نشرت في الدوريات العربية آنذاك، والتي يصعب حصرها ولإحاطة بها ولكنها تصب في الاتجاه نفسه. كل هذا شكلّ المناخ الثقافي والمرجع الفكري والتاريخي لطريقة التعامل مع التراث العربي المكتوب.
وتحت هذا المؤثر أو المحدد الثقافي الهام، إضافة إلى ما شاهده قاسم محمد من أعمال مسرحية في مهرجان دمشق التي أشرنا أليها في بداية البحث، بدأ مخرجنا عمله في (بغداد الأزل..) تأليفا وإخراجا، وأستمر بالعمل تحت المؤثر نفسه إلى حد ما.. وربما بدرجة مختلفة في أعماله المسرحية اللاحقة. إلا أن زاوية الرؤية الفكرية، أو طبيعة الموقف السياسي السائد والمعالجة الفنية للموقف فيما بعد، تختلف قليلا أو كثيرا، يمينا أو يسارا، باختلاف الظرف السياسي المتغير والسائد آنذاك، وبالتالي تأثير منحى ووضوح الايدولوجيا المعلنة التي تمسك بزمام السلطة السائدة في تلك الفترة.
في لقاء صحفي مع المخرج المغربي الطيب الصديقي في مجلة (المسرح والسينما) العراقية العدد 10 لسنة 1974 يتحدث فيه عن عمله المعروف (مقامات بديع الزمان..) بطل المقامات عيسى بن هشام، إذ يروي المخرج في أحد تلك المقامات على لسان الراوي عيسى بن هشام، بأنه مرّ بأحد الأسواق، وهناك جمع من الشحاذين، فيقترح عليهم بأنه سيعطي (دينارا ذهبيا أصفر.. للشحاذ الذي يتفوق في السباب والشتم بشكل أفضل وأخبث من غيره..) إلى نهاية المقامة.. أو المشهد المسرحي الذي يصفه الطيب ألصديقي في المسرحية التي لم نشاهدها نحن, بل شاهدنا (بغداد الأزل..) وكان ذلك نص المشهد المسرحي بتفاصيله وحواراته..! غير أن شخصية التاجر البغدادي في مسرحية قاسم محمد حلت محل عيسى بن هشام عند الطيب ألصديقي، وقد تكرر المشهد نفسه ـ المقامة في مسرحية (طال حزني وسروري في مقامات الحريري) بعد مرور عشر سنوات على عرض (بغداد الأزل..) وقد عرضت المسرحية الأخيرة فيما عرضته مقامات أخرى من الهمداني والحريري، إضافة إلى مشاهد معدة عن كتب الجاحظ المعروفة (البخلاء) و (البيان والتبيين) و (الحيوان) وأيضا كتاب توفيق الحكيم (أشعب أمير الطفيليين) إضافة إلى كتاب أبي الفرج الأصفهاني الشهير (الأغاني) وأيضا أبيات شعر منسوبة لـ (علي بن محمد) صاحب الزنج، ووضعت على لسان (عيّار من عيّاري) بغداد في ذلك الزمن، وسرد بعض من أخبار العيّارين الأخرى على لسان الراوي، كما أشار ذلك الراوي إلى كتب تراثية كثيرة بوصفها مراجع. وقد كان قاسم محمد (أمينا) جدا لوثائقه ومصادره في تلك المسرحية، إذ كانت الشخصيات الأخرى أيضا تشير دائما إلى أسم المصدر والمؤلف وحتى رقم الصفحة في نهاية كل مشهد تقدمه, وبهذا كان في العرض شيء أقرب للريبورتاج الصحفي في مجموعة من كتب التراث، منه إلى عرض يمتلك مقومات العرض المسرحي…!
في التجربة الثانية التي أشتغل فيها قاسم محمد على التراث المكتوب هي مسرحيته (حكايات وأحداث من مجالس التراث) عام1976 وأعاد تقديمها مرة أخرى عام 1983 , وقد كان أسلوب المعالجة وسينوغرافيا العرض فيها يختلفان كثيرا عما رأيناه في العمل الأول. في هذه التجربة أخذ المخرج حدثا تاريخيا محددا وأنطلق منه في معالجة درامية محددة المعالم وواضحة، إذ نراه فيها أقرب إلى سعد الله ونوس في مسرحيته ذائعة الصيت (مغامرة رأس المملوك جابر) والتي سيشتغل عليها قاسم محمد مخرجا فيما بعد، أقرب منه إلى الطيب الصديقي، ذلك الحدث هو إضراب النساجين ببغداد في نهاية القرن الرابع الهجري…!!
واضحا بأنه كان تحت تأثير المنحى الأيديولوجي (اليساري..) الذي تحرك تحت مؤثراته في أعماله السابقة، وكان مباشرا في اختياره ذلك الحدث، ومقابلته ضمنيا بأحداث معاصرة حينذاك (الإضرابات العمالية في العالم..!), ورغم اختلاف هذا العرض المسرحي عن العرض المسرحي السابق (بغداد الأزل..) لكنه كان يصر على أن يضعنا في الطقس المسرحي نفسه وأجوائه، وبمفردات متماثلة الى حد الدهشة…!! فها هي شخصية الصعلوك المتمرد تكاد تكون صدى لشخصية العيار.. فهو يردد الأفكار نفسها بل حتى الحوارات تكاد تكون متماثلة في المسرحيتين إضافة إلى تفاصيل العرض (مجموعة الصعاليك هنا تقابل مجموعة الشحاذين أو مجموعة الطفيليين هناك). في هذا العرض ابتعد المعد ـ المخرج عن المضمون الإخباري للوثيقة التاريخية بطابعها الاستعراضي كما شاهدناه في (بغداد الإزل..) الذي يشير فيه إلى اسم المصدر التاريخي ورقم الصفحة على لسان الممثل كما أسلفنا، ليقترب من الدرامي الفاعل بعض الشيء.. بعد أن يضفي عليه ملامح الحس الشعبي الممتزج بالمعاناة الإنسانية و(الطبقية…!!) ولكنه يتدخل أحيانا في إعادة بناء (الأفكار السياسية) الخاصة للشخصيات بل ومواقفهم الفكرية المفترضة…!! وبالتالي حل العقدة الدرامية بعيدا عن مضمون الرواية التاريخية وافتراضاتها الأيديولوجية المحتملة على وجه التقريب. وقد ترتب على هذه الخطوة (البنيوية..) الجديدة مضمون فكري (جديد) وبالتالي موقف أيديولوجي جديد أيضا، أي زاوية رؤيا جديدة اتخذت شكلا دراميا جديدا أيضا, كل هذا نتيجة لإعادة الصياغة تلك, تجلى ذلك في وضع حلول اجتماعية (إصلاحية) بعيدا عن الطابع (الثوري) السابق في معالجة الأزمة أو العقدة التي بنيّ عليها العرض المسرحي (أي اضراب العمال..) وهذا بعيدا عن المشكل التاريخي والفكري أيضا الذي حرّك اطراف الصراع كما طرحت في العرض المسرحي، أي التناقض الرئيسي بينهم، كل هذا انسجاما مع الوضع السياسي والأيديولوجي (القومي والوطني) الجديد، الذي بدأ يضيق الخناق على اليسار السياسي العراقي بشكل عام في تلك السنوات.
أما مسرحية (كان يا ما كان) والتي قدمت في مستهل موسم عام 1977 فقد اختلفت في نواح كثيرة عن العروض السابقة في طريقة تناول التراث ومعالجته على المسرح, فالمخرج هنا قد أنتقل الى الموروث الشعبي المحلي المدون حديثا، وهذه الانتقالة تبدو وكأنها استجابة لدعاوى النظام السياسي القائم حينذاك والتي أطلقت في تلك الفترة بـ (هدف أحياء التراث الشعبي) وكما جاء في كلمة المعد ـ المخرج في دليل العرض (تعتبر هذه المسرحية خطوة نحو تأصيل عرض مسرحي شعبي..) فهو هنا قد أبتعد قليلا عن التراث العربي المكتوب، باتجاه الموروث ألشفاهي والحكايات الشعبية البغدادية التي بدأت تدون آنذاك في المجلة الحكومية الرسمية (التراث الشعبي) الصادرة عن وزارة الثقافة والاعلام.. أي أنه غيّر زاوية الرؤيا الفكرية إلى درجة ملحوظة نسبيا..! وفي بنية درامية تكاد تكون تقليدية هذه المرة على وفق ما يفترضه منطق الحكاية الشعبية أصلا, فهو قد استعار منها إطارا سرديا كان قد سبقه إليه الآخرون ألا وهو المقهى الشعبي..! وشخصية القصخون..! وهو هنا يكاد يكون تأثرا مباشرا (تناصا) إذا لم نقل نقلا حرفيا من سعد الله ونوس في المسرحية المعروفة التي أشرنا أليها.
وعلى الرغم من أن هذه الشخصية (القصخون) مثلها الفنان خليل شوقي تذكر في جوانب كثيرة منها بشخصية الراوي في (بغداد الأزل..) التي مثلها الفنان سامي عبد الحميد.. مع الاختلاف في موقع الشخصيتين في كلتا المسرحيتين في منصة العرض المسرحي, فقد كان الراوي في المسرحية الأولى يحتل وسط أعلى المسرح، ويخاطب الجمهور مباشرة ويعلق على الأحداث، ويشرح لهم عمل الشخصيات وطبيعتها التي تظهر لأول مرة على المسرح ويعلق عليها، ويحاور الشخصيات. وهو هنا راوي بالشكل الذي استخدمه فيه برشت في مسرحه الملحمي وبذلك يختلف عن القصخون أو الحكواتي الذي يجلس مع رواد المقهى في الزاوية اليمنى السفلى من منصة العرض الذي سيحكي لرواد المقهى حكاية ستتجسد (خياليا) على المسرح. تضمنت المسرحية مشهدا رئيسيا في البداية كان مطابقا تماما للمشهد الثاني من الفصل الأول من مسرحية شكسبير الشهيرة (الملك لير) وهذا من دون الإشارة إلى المصدر كما عودنا قاسم محمد في عروضه السابقة, وهذا التطابق أقرب إلى ذهن المتفرج من أن يكون شكسبير قد أفاد من الموروث العربي ألشفاهي كما يؤكد المعد ـ المخرج في أحد اللقاءات الصحفية معه.
في مسرحية (كان يا ما كان) نلمس تراجعا فكريا بالمعنى (الأيديولوجي والسياسي) مقارنة مع ما لمسناه منه في اعماله السابقة.. وكذلك بالمعنى الفني أيضا.. وتأسيسا على هذا النهج الفكري والفني الذي أشرنا إليه في عمله السابق (حكايات وأحداث..) والذي ظهر بشكل غائم في ذلك العرض ـ أي التراجع ـ ظهر الآن وبشكل واضح، بل وتعمق أصلا وتمثل في أن الصراع الاجتماعي (الطبقي) بين أطراف الصراع (الدرامي) مثلا، هو لا أكثر من سوء فهم يجب أن ينتهي بحلول تراضي جميع الأطراف. هذا وقد زخر العرض بالكثير من المحاججات الفكرية والطروحات (النظرية) الثقيلة التي وضعت على لسان أبطال العرض, فقد جاءت تلك الحوارات وكأنها تماما من خارج سياق العرض وبعيدة عن شروط الحوار المسرحي. بجانب هذا فقد ظهرت براعة المعد ـ المخرج في الربط بين حكايتين شعبيتين مستقلتين عن بعضهما، هما حكاية (تنبل أبو رطبة) وحكاية (بنددر) المنشورتين في مجلة (التراث الشعبي) كما يشير إلى ذلك دليل العرض. وفعلا فقد جاء العرض وكأنه بني على حكاية واحدة. كما لابد أن نشير إلى دلالة عنوان العرض وعلاقته بمضمونه, وهنا تؤكد جميع تجارب قاسم محمد بأنها تفصح عن نفسها في كثافة ودلالة الاسم أو العنوان الذي يختاره للعرض, فمثلا في هذه المسرحية (كان يا ما كان) استعار العنوان من استهلال الحكاية الشعبية الشفاهية كما سمعناها من جداتنا.. والشيء نفسه ينطبق على أغلب عروضه المسرحية .
في كل تجربة من تجارب قاسم محمد المسرحية من تلك التجارب السابقة والتي أشرنا لها، يوهمنا أو في الأقل يغرينا بأنه أكتشف نهجا مسرحيا جديدا وسيستمر عليه, وبالفعل سرعان ما نلاحظ استقلالية كل تجربة مسرحية له، من ناحية الشكل والمضمون عن التجارب التي سبقتها أو ما سيأتي بعدها من تجارب لاحقة, هذه الاستقلالية التي تصل حد القطيعة الجذرية أحيانا مع ما قبلها، من ناحية بنية العرض المسرحي ككل، وما يترتب على ذلك من إشارات ودلالات تصل الى حد إلغاء المرجعيات السابقة والاختلاف معها..! ولا نقصد على صعيد الأيديولوجيا فقط، بل مناهج البحث الأكاديمي أحيانا، وهذا رغم وجود بقايا من التجارب السابقة تطل برأسها وبشكل واضح بين مشهد وآخر أو مسرحية وأخرى، أما الاستمرارية فهذا ما لم نلاحظه وهو لم يتحقق أصلا.
في صيف 1977 ظهر قاسم محمد في الوسط المسرحي، في وسط الصورة تماما من نشاطات ذلك الموسم، وكأنه يعلن يومها بأنه سوف ينهي علاقته مع التراث أو الموروث بكل أشكاله…!! ليقدم عرضه المسرحي الجديد الموسوم (أضواء على حياة يومية) ليعود أدراجه بنا إلى المسرح الواقعي، الذي سبق وان أشتغل عليه. المسرحية معدة عن قصة قصيرة للكاتبة هاديا حيدر. ومن خلال استهلال العرض وإلغائه لستارة المسرح عن منصة التمثيل نهائيا، نستشف بأننا أمام عرض مسرحي تقليدي (واقعية الديكور مثلا) التي أراد لنا المخرج أن نراها قبل بدء العرض، ومن خلال ذلك وما تلاه نقرأ حياة أسرة عراقية خلال السبعينات وما أفرزته تلك الفترة من هموم ومشاكل حديثة و (تحولات جذرية..) قد هزّت البنية الاجتماعية التقليدية للعائلة العراقية من الطبقة الوسطى دون أن تستوعب هذه العائلة تلك التحولات…!! وبالتالي سوف تشتغل التناقضات في تلك البنية الاجتماعية في ضوء (الهزات والتحولات الحاصلة في حياتنا الاجتماعية) (من كلمة المخرج في دليل العرض) لكن عملية معالجة ذلك الموضوع (التناقضات الاجتماعية..) جاءت في البحث عن شكل جديد للعرض المسرحي أيضا، ولكن في ضوء تثوير تلك المشاكل أو التناقضات أو الموضوع الاجتماعي نفسه موضوع العرض…! فوقع الاختيار على وحدة الموضوع الأرسطية لتفجيرها والبحث من خلالها عن إطار جديد للعرض المسرحي. وبذلك توزع العرض على أساليب مسرحية معروفة ومتنوعة، فقد تشكل من عدة مناهج مسرحية سائدة لكنها متباينة, فمرة يسود الأسلوب البرشتي الملحمي في عدد من المشاهد, وفي أخرى نرى ملامح من مسرح العبث واللامعقول, وفي ثالثة نكون أمام مسرح تسجيلي واضحة جدا عندما يتبنى أحد الممثلين شخصية الراوي.
أما مسرحية (مغامرة رأس المملوك جابر) التي أخرجها لطلبة معهد الفنون الجميلة ببغداد في عام 1978 فقد كانت تمثل حقا خطوة متقدمة جدا على طريق تأصيل عرض مسرحي حقيقي معاصر، وذلك بكسره لأبعاد العلبة الإيطالية التقليدية، والتي ظلت العروض المسرحية السابقة أسيرة لها, وهي فعلا تجربة فذة في ابتكاره ـ أي المخرج ـ لرؤية مشهدية مستمدة أصلا من المضمون المسرحي نفسه، وبعيدة عن الافتعال وقصدية التجريب المسبقة كما شاهدنا بعض أعماله أو يمكن أن تكون كلافتة صريحة في ذلك العرض. صحيح إن ذلك الشكل ألمشهدي الذي رأيناه خلال رحلة (مغامرة رأس المملوك جابر) لم يكن بعيدا عن تجارب إخراجية سابقة لآخرين من ناحية تشكيل سينوغرافيا العرض، إلا إنها وكما قلنا كانت مستوحاة من النص المسرحي ذاته، أي من فكرة المقهى الشعبي والحكواتي.. الذي كان يقص حكاياته على رواد المقهى, لكن قاسم محمد تخلص من المقهى والحكواتي أصلا ليصنع منا نحن المشاهدين روادا لمقهاه، ولتدور الأحداث في منتصف القاعة ونحيط بها نحن ـ أي الجمهور ـ من الأعلى والأسفل. فقد كانت هذه التجربة من التجارب اللامعة والهامة في تاريخ هذا الفنان، ويعود أحد أسباب نجاح هذا العمل الذي لم يعرض بشكل تجاري في أحد مسارح بغداد الرئيسية، فقط في قاعة المعهد وللنخبة.. لابد أن نشير إلى بناء النص المسرحي المحكم على يد كاتب محترف مثل سعد الله ونوس، وطريقة معالجته للحدث التاريخي، وبناء الشخصيات التي امتلكت مسبقا شروطها الدرامية أو نمطيتها، وكما كان الإعداد هذه المرة ـ أي اعداد النص المسرحي للعرض ـ أعدادا مختلفا عن تجارب المخرج السابقة، خاليا من الترهل والتفاصيل غير المهمة، والإضافات التي أثقلت تلك العروض أو التجارب السابقة وكانت عبئا عليها.
في عام 1984 عاد بنا قاسم محمد ـ معدا ومخرجا ـ بعودة باهتة للتراث العربي المدون..! أو للتذكير بمسرحية (بغداد الأزل..) تحديدا.. أو بالمرجعيات التراثية التي تنقل بين صفحاتها سابقا.. من خلال تجربته الجديدة في مسرحية (طال حزني وسروري في مقامات الحريري) فقد أعد العرض الجديد عن مقامات الحريري ومقامات الهمذاني وكتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، ومصادر تراثية سبق أن نهل منها قاسم محمد في تجاربه السابقة، كما أشار الى ذلك في دليل العرض، أو هي بالحقيقة في هذه المرة وكما يبدو واضحا عودة الى مسودات المسرحية السابقة..! استهل العرض بمشهد طارىء لا علاقة له إطلاقا بموضوع المسرحية لا من قريب ولا من بعيد..! مشهد يتناول فيه تاريخ (فرقة المسرح الفني الحديث) واستعراض دورها الريادي في تاريخ المسرح العراقي…!! ويبدو من عمله على هذا المشهد المسرحي المنفصل من جميع النواحي الفنية والفكرية.. يبدو أنه رغبة ذاتية لاسترجاع ما تقطع من وشائج في تلك الفترة.. أو شعور بالذنب إزاء فرقته المسرحية الأم (المسرح الفني الحديث) التي ساهمت بصنع مجده الفني السابق، والتي أبتعد عنها الى حد ما عندما (جند) نفسه للعمل في الفرقة القومية للتمثيل (الحكومية..!) وبأعمال مسرحية (تعبوية) في ذلك الوقت تنسجم مع عمله كموظف في الفرقة المذكورة، وربما أكثر من ذلك..! في أعمال مسرحية معروفة (تعبويا) في تلك الفترة من مثل مسرحية (احتفالية للوطن والناس) ومسرحية (العودة) وكذلك مسرحية أسخيلوس الشهيرة (الفرس) بعد أن أعدها لعرض جديد ينسجم مع توجهات السلطة آنذاك في حربها الطويلة مع إيران..!! أما هذه المسرحية (طال حزني وسروري…) فتركز على مهنة أو عقدة الشحاذة في حياة أبي زيد السروجي بطل المقامات، وما يترتب عليها من تفاصيل ومفارقات وطرائف, بل هو يكرر مشاهد من مسرحية (بغداد الأزل..)
يعتمد البناء الدرامي في (طال حزني وسروري..) على صنع نقيض مسرحي إيجابي لشخصية أبي زيد السروجي السلبية..! مثلها الفنان يوسف العاني.. وهذا النقيض هو ابنه قطرب مثله الفنان هيثم عبد الرزاق، وهذا الأخير شخصية إيجابية جدا (كما قدمها العرض المسرحي) وتتمتع بقدر من الرفض و(الثورية..!) فهو يرفض مهنة الشحاذة ويدعو أباه لأن يتخلص منها..! وقطرب يكاد يتقول.. أو يقول بما كان يقوله العيّار.. من شعارات ودعوة للثورة في (بغداد الأزل ..) وكذلك نرى في هذا العمل تكرار لتجربة (مغامرة رأس المملوك جابر) إذ استعار منها سينوغرافيا العرض برمته…! بأن جعلها في منتصف القاعة..!
في المقابلة الصحفية التي أشرنا إليها سابقا مع الطيب ألصديقي والتي يتحدث فيها عن عمله فـي (مقامات بديع الزمان..) يتحدث فيها أيضا عن بطله عيسى بن هشام فيقول عنه (انه مثقف عربي ثوري بالنسبة لمقاييس عصره..! فهو من طائفة الإسماعيلية, انه تقدمي بالمعنى المعاصر, انه من القلائل الذين شعروا بانحطاط عصرهم, انه لا يتحدث عن الاقتصادي وحده.. بل عن نتائجه.. الانحطاط الفكري..) (مجلة السينما والمسرح العراقية العدد 10 لعام 1974 ) ترى ماذا يمكن أن يقول قاسم محمد عن بطله أبي زيد السروجي أو أبنه قطرب اللذين قدمهما في ذلك العرض..؟ هل أراد أن يعرض علينا مهارته في البحث عن شكل مسرحي جديد مستمد من التراث أيضا..؟ لقد عرض علينا شحاذا ومحتالا ماهرا في استغفال الآخرين.. والنصب على النساء تحديدا، كما صنع نقيضا مفتعلا له هو ابنه قطرب، واستعار له حوارات (ثورية) من مسرحياته الأخرى تتناقض مع منحى شخصيته وتربيته أصلا، لأنه يفترض به ـ أي قطرب ـ أنه قد تربى في حضن ذلك الشحاذ المحتال الماكر..!! كما يذكر لنا ذلك المصدر الرئيسي نفسه للعرض (مقامات الحريري) وكما يشير إلى ذلك الممثل أيضا, فهو في الأصل كان يساعد أباه في احتياله ونصبه على الآخرين..! ولكنه وبقدرة المخرج ـ المعد يصبح (ثوريا) فجأة ودون تمهيد..!
في جميع تجارب قاسم محمد المسرحية نرى إصرارا ذاتيا على التجاوز والتخطي..! ولكن ليس بالضرورة أن يكون ذلك تطورا الى الإمام.. أو في إطار مفهوم التطور والتقدم الجدليين.. أو الموضوعي.. إننا شاهدنا اختلافا أو (تجديدا..!) إلى حد ما بين تجربة وأخرى، وأحيانا نقلة نوعية حقا.. إلا أنه كان وبشكل عام تراجعا مرة.. وتقدما فعلا في مرة أخرى.. وبالرغم من تباين الموضوعات التي تناولها، وتنوع مصادرها ومرجعياتها في جميع أعماله السابقة، لكننا نجد فيها قاسما مشتركا يتحرك بشكل خفيّ، مرة داخلها وأخرى جليا غير وجل على سطحها، هذا القاسم المشترك تجلى في إشارات أو سمات واضحة في أغلب الأحيان، تناثرت هنا وهناك في كل تلك الأعمال والعروض المسرحية التي تناولناها آنفا على الأقل, هذه الإشارات تظهر مرة في البحث عن شكل جديد للعرض.. وأخرى في بناء وتركيب الشخصيات.. وثالثة في طبيعة الموضوعات التي عالجها ومصادرها وتنوع مرجعياتها الفكرية. وكما هو دأبه دائما في البحث عن الدرامي سواء في التراث المكتوب أو في الحكاية الشعبية أو في الأدب المعاصر (شعر.. قصة.. حكاية)

أو في بعض الظواهر السياسية أو اليومية المعاشة, غير أن ذلك القلق أو الهاجس لم يبق على صعيد الفكر المجرد الذي يشكل خلفية العرض.. بل تجسد بشكل آخر أيضا، وكأنه هاجس خفي لذات غير مستقرة.. يستغرقها ذلك القلق والتمرد.. وأحيانا الثورة بكل معانيها..!! وثالثة الإحباط إلى درجة التهادن واليأس..! وهذا واضح ومحسوس جدا في كل تلك الأعمال.. فقد تحسسناه ـ أي ذلك الهاجس الخفي ـ متلبسا بأبطال تلك المسرحيات التي شاهدناها، فهو نفسه الذي أنّطق العيّار في (بغداد الأزل..) وهو الذي حرّض الصعلوك على التمرد في (حكايات وأحداث من مجالس التراث) وهو الذي تحرك فيما بعد داخل حسن التنبل في (كان يا ما كان) ثم تجسد لاحقا في شخصية فخري في (أضواء على حياة يومية) ثم تكلم على لسان قطرب بن أبي زيد السروجي في (طال حزني وسروري..) وقد تظللت تحت ظل ذلك القلق وتلك الأقنعة كل أطراف الصراع في صراعها من اجل الوجود والبقاء وحركتها العامة في كل تلك الأعمال المسرحية، ورغم اختلاف العصور والأماكن التي تجسد فيها ذلك الهاجس أو في اختلاف الهموم والأفكار التي كان يطرحها, إلا انه كان واحدا, وهو أقرب من تلك الشخصيات التي استنطقها أو تجسد فيها إلى روح مثقف معاصر اسمه قاسم محمد. من هذا نستطيع أن نقول أنه عندما وطأ أرض التراث لم يكن هدفه التراث لذاته، بل كما قلنا أرّقه البحث عن الدرامي الجديد، وأستمّر معه الهم نفسه في توليفه للحكايات الشعبية، ألشفاهية أو المدونة منها، أو في الواقع اليومي ومعالجته..! أي أنه لم يكن الغرض لديه طرح الواقع والمعاناة اليومية، بقدر ما هو البحث الفني الخالص عن الشكل, وقد رافق هذه الرحلة الكثير من المنزلقات الفكرية والفنية التي أشار أليها النقاد الذين تناولوا تلك الأعمال في حينه وكما شخصنا بعضها في هذا البحث المتواضع.
من خلال هذا البحث نستشف أيضا بان مشكلة قاسم محمد هي في الأعداد المسرحي لا غير..! إذ أنه كمخرج وفي جهد فني مستقل بعيدا عن التأليف أو الإعداد وما يترتب عليهما من مشاكل والتباسات فكرية في نقل الشخصيات والأحداث والأماكن إلى خشبة المسرح، فهو يتمتع بمهارة كبيرة قل نظيرها، وخيال إخراجي مبدع واسع جدا تجسد في ابتكارات سينوغرافية ومشهدية مذهلة أحيانا.
ونعتقد أن هذه القدرة أو الموهبة هي التي دفعته إلى أن يستسهل عملية إعداد النصوص أو إعداد (السيناريوهات) لبعض العروض.. كما كان يسميها هو نفسه في بعض تلك التجارب، وعندما تابعنا إخراجه لنصوص مسرحية جاهزة فقد كان مخرجا من الطراز الأول.. كما هو في (النخلة والجيران) و(شيرين وفرهاد) كإخراج وليس إعدادا، وكما أشرنا إلى (مغامرة رأس المملوك جابر) وكذلك التمثيل.. بل هو ممثل من الطراز الأول أيضا كما شاهدناه في مسرحية (ألبيك والسايق) وبعد ذلك في (رحلة الصحون الطائرة) فقد كان مع زميله سامي عبد الحميد على خشبة المسرح، وبإدارة الراحل الكبير إبراهيم جلال عالما واسعا رائعا وخصبا وجميلا، يستحيل أن نحدد تفاصيله الممتعة والساخنة لمدة ساعة ونصف الساعة متصلة من الأداء التمثيلي الراقي .
———————————————————————————————————————–
المصدر :مجلة الفنون المسرحية – عن كتاب ” البنية الأدبية وتحولاتها مسرحيا وسينمائيا “تأليف قاسم علوان

 

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *