مسرح – “صدى الصمت” تفوز بجائزة مهرجان المسرح العربي حياتنا هي المسرح حيث تمتزج لغة الحلم بلغة الواقع

نكتب عن مسرحية “صدى الصمت”، ليس لأنها حصلت على جائزة سلطان محمد القاسمي فقط، أو لأن من كتب سيناريو نصها هو المؤلف العراقي المرحوم قاسم مطرود، وإنما لأنها جعلت المتفرج منذ الوهلة الأولى شريكا لها، وهذا ما فرضته شروط الكتابة المسرحية، وآلية معالجتها للحوادث، ولا سيما أن النص/العرض اعتمد في الدرجة الاساس على شخصية الدراماتورج الذي يتأرجح بين الممثل والمخرج وبين الممثلين والجمهور.

يتحدث النص عن الحرب وما تخلفه من مآسٍ، من خلال قصة لاجئَين اثنين، رجل وامرأة، كلٌّ منهما فقد ابنه في معسكر الآخر، في الحرب التي تسببت في هجر وطنيهما واستقرارهما في المنافي الباردة. هذا ما يجعلهما بالضرورة عدوَّين، لكنهما لحسن الحظ، لا يفهم الواحد منهما الآخر، ولا يتكلمان لغة البلد الذي لجأا اليه إلا قليلا، وهنا يكمن اللامعقول بعينه، في هذه العلاقة التي تنشأ على عدم الفهم وليس سوئه. الرجل يطرق باب المرأة بعد ان يسمع صراخ الرجل المقعد على كرسي طبي محاط بأنابيب الهواء، وعمود معدني معلّق عليه كيس مغذٍّ. المرأة تفتح له الباب، وتدعوه إلى الدخول بالإشارة والكلام، فيدخل، ثم يجلس، ويحدث بينهما تواصل غير مفهوم، بسبب اختلاف اللغة، وعدم قدرة كلٍّ منهما على استيعاب لغة الآخر، ومع ذلك يواصلان الحديث كلٌّ في لغته، التي يختصرها العرض، باللغة العربية. الحوارات الجانبية هي الوحيدة المفهومة، وقد ركز عليها المخرج بالمساقط الضوئية الخاصة وبتوقف الحركة كليا على الخشبة، اما الحوارات المباشرة فلم تكن مفهومة وغير مترابطة، حتى في معاني اللغة أحيانا. مع ذلك يستمر الرجل والمرأة في الحديث إلى ما لا نهاية، وهنا تكمن مأساتهما، في تقويض الكلام وتجريده من معناه وفي عدم ترابطه، وهذا ما يحمل للمفارقة حضورا كبيرا، على الضحك، على رغم الحالة المأسوية التي يعيشها الرجل والمراة.
الدراماتورج يشبه هنا قائد اوركسترا، يوزع الادوار ويمنتج الحوادث، ويعلق عليها، ويصنع مؤثرات موسيقية لكل جملة تقال او مشهد يمثَّل، فارضا على الممثلين هذا الديكور وتلك الإضاءة، متحكما في استمرار الحدث وتوقفه مثل شريط سينمائي، والتدخل فيه. هذا كلّه يتم امام الجمهور الذي صار جزءا لا يتجزأ من اللعبة المسرحية، يشارك في تنفيذها، وخصوصاً في اللحظات التي يطلب الدراماتورج من هذا الجمهور، ان يصفق بحرارة وليس تصفيقا عاديا، وإذا بالتصفيق يتعالى بشكل صاخب. الجمهور هنا هو الطرف الرابع الخلاق، بعد المؤلف والمخرج والممثل، مثلما اراد له ان يكون مايرهولد. هذا يفضح سر اللعبة المسرحية التي لجأ اليها قاسم مطرود كمؤلف، وفيصل العميري كمخرج، عندما خلقا شخصية الدراماتورج لتلعب ولتصنع العرض مع المتفرج في لحظة التقديم نفسها. إن هذه العملية جعلت العرض نشيطا وذا ايقاع حيوي متماسك، قائماً في كليته تقريبا، على تفاعلية الجمهور، وليس على الممثلين ولعبهم كما هو معتاد. علما ان النص لم يكن كوميديا، وإنما هو تراجيدي حزين، يعصر القلب.
مسرح المؤلف والمخرج
لقد اعتمد المؤلف والمخرج في عرضهما على اسلوب المسرح داخل المسرح، – وأسلوب المؤلف والمخرج، لان المخرج كان ينفذ بحرفية عالية ما دوّنه المؤلف في السيناريو، وهذا ما يفرض حضورا متزامنا للمؤلف مع المخرج، ولا سيما أن العرض هو تمثيل وإعادة خلق. ومن خلال هذين المظهرين، يسمح لنا كمتفرجين بإعادة اكتشاف العمل الاصلي، وهذا يعني ان هناك عرضاً داخل عرض، وهناك شخصية من المسرحية نفسها تلعب دور المتفرج (الدراماتورج)، مثلما هناك إعداد وتحضير للحدث امام الجمهور، حيث يتحول الدراماتورج من معلق على الحدث وصانع لمؤثراته، الى شخصية تدير الحدث نفسه وتوعز إلى الممثلين وضع هذه القطعة من الديكور او تلك في هذا المكان او ذاك، هذا بالإضافة الى الحوارات الجانبية للممثلين ليس بصفتهم شخصيات مسرحية.
هذا يعني ان المسرح داخل المسرح يمكن أن يتخذ اشكالا متنوعة، بحيث يصير عرض “صدى الصمت” قطعتين مسرحيتين يجمعهما اطار واحد، يتخذ اللعب المسرحي فيهما شكلا متناوبا، ينتقل من قطعة إلى أخرى، مرات عدة، وهذا ما تجسد في تدخلات الدراماتورج في الحوادث وتغييرها، ونقلها من منظر إلى آخر، ما يفرض بالضرورة نوعا من الانفصال بين الممثلين وأدوارهما، وخصوصاً عندما يخاطبان الدراماتورج بعيدا عن شخصياتهما، هذا بالإضافة إلى دعوة هذا الأخير، المتفرجين إلى تخيل المنظر المسرحي، سواء أكان داخليا أم خارجيا، بحيث لا يتحقق التمثيل المكاني للمشهد إلا من خلال تصور المتفرج ومساهمته في تشكيله.
كان اخراج فيصل العميري عادلا في تصويره الفكاهة السوداء التي ارادها المؤلف لعمله. وقد عزز ذلك، استبداله دور المرأة بدور الرجل. فالنص الاصلي يتحدث عن امرأتين فقدتا ابنيهما في الحرب العراقية الإيرانية، وليس عن رجل وامرأة مثلما جاء في العرض. ان هذا التغير، ألبس العرض رداء جديدا مختلفا، وقوّى عملية التنافر والانجذاب بين الشخصيتين. لكن أكثر ما يمكن ان نلاحظ في عمل المخرج، على الارجح، جمالية عرضه الذي خرجنا منه سعداء، حيث بدا الممثلون في الكثير من الاحيان، كما لو انهم يرقصون بحركاتهم الانيقة والرشيقة والدقيقة، وهم يشتغلون في فضاء وديكور بسيط: غرفة استقبال فيها طاولة وكرسيان، فتحة في الجدار الخلفي نرى من خلالها المطبخ، باب البيت، صورة للابن المقعد في عمق المسرح، معلقة على الحائط، وتلفون يرن بين حين وآخر. وعندما يحدث تغيير في المناظر المسرحية، من البيت الى سطح جبل، مثلا، لا يتغير الديكور، بل يبقى كما هو، ولا سيما ان الجمهور مطالب بعملية التخيل. وعندما نعود الى البيت ثانية، نعود الى بيت آخر يقع على حافة نهر. إن هذه التغيرات والانتقالات المستمرة من مكان إلى آخر، تحتاج إلى لعب بإضاءة قادرة على رسم خطوط هندسية على الخشبة، تسمح لنا بمشاهدة اجسام الممثلين وظلالها وهي مرسومة على الخلفية السوداء للمسرح. لعب المخرج فيصل العميري، مع قوانين المسرح: مكتب الدراماتورج موجود بالقرب من الجمهور، وقد جعله في مرات يترك العرض، ويتوجه بالكلام إلى الجمهور مباشرة. الممثلان ايضا يتركان شخصيتيهما ومكان تمثيلهما ويذهبان نحو الدراماتورج ليتناقشا معه، وبالعكس.
كل ما قدم لنا من فن العمل المسرحي، كتابة واخراجا، مرورا بالتمرين وتكراره امام الجمهور، وانتهاء بالصياغة المسرحية البسيطة المليئة بالإيحاءات، كان بمثابة استنطاق عميق لشعرية عملية الخلق، ومفهوم الشخصية، وفن الممثل، ومسألة التفسير والتأويل. لقد راهن فيصل العميري بإخراجه آخر عمل لقاسم مطرود قبل وفاته، على عملية أسر المتفرج والقبض عليه منذ البداية، ويبدو انه نجح في رهانه، ولا سيما أننا كنا كمشاهدين مشدودين الى العرض، ومتعلقين بحركات ممثليه البارعين، وأفواههم المهتاجة بالحب والكراهية والخوف، وقد اغرقونا في دوامة مأساتهم الكونية، إلى درجة اننا خرجنا من العرض تملأنا الدهشة ويعصف بنا عذاب الاسئلة التي اثارتها المسرحية.
لقد اشركنا العرض في لعبته من البداية حتى النهاية، وجعلنا نرى الواقعة وهي تتغير على المسرح وتتخذ شكلا مستقرا وخفيا، في آن واحد. حاول قاسم مطرود في هذا العمل الاخير له، التنبؤ بموته المباغت والموجع في الوقت نفسه؛ وقيادة جمهوره في رحلة نحو الوهم والحقيقة، لكي يجعله يفكر في دور المسرح ومدى تأثير شخصياته في الحياة، مازجا حياة الحلم بحياة الواقع، مذكّرا بأن حياتنا سواء أكانت مهمة أم تافهة، هي عبارة عن مسرح، قادرة على ان تقص حكاية ذات معنى لشخص ما؛ يمكن المتفرج أن يجد نفسه فيها في لحظة من اللحظات. وهذا ما حاول ان يؤكده المخرج وممثلوه، بإشراكهم المتفرج في لعبتهم المسرحية.

 

محمد سيف
http://newspaper.annahar.com/

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *