مسرح اللامعقول.. ترجمة العبثية إلى تشكيل مسرحي

أفرزت مرحلة بين الحربين العالميتين الأولى والثانية وما بعدهما ظروفاً وأزمات اجتماعية واقتصادية ونفسية، دخلت في عمق الشعور الإنساني نحو الوجود وصعوبة التعامل معه، مما تطلب من مفكري هذه المرحلة أن يتمردوا على مجمل مكونات الوجود وأن يفكروا بالتالي: صيغ جديدة تمكنهم من التواصل مع ذلك الوجود.
ابتدأ مستهل هذه المرحلة بالبحث في الرؤى التي استنتجها المبدعون في تأملهم الواقع، ومن ثم ابراز جوانب من عقم عمليات التواصل والتآلف مع مفرداته، في نوع من الثورة والتمرد الذي لم يخرج عن الكتابات والتنظرات، حيث لم يكن تمرداً بالمعنى الدقيق، انما هو ضرب من ضروب التمرد التصوري الذي تمثل بالاغتراب عن المجتمع والذي صحبه تحطم الفعل المادي للحياة الفردية داخل محيطي الزمان والمكان.
وهو عكس التمرد الميتافيزيقي الذي نعني به: تمرد مطلق خارج نطاق الزمان والمكان وتضعف فيه الصفة الاجتماعية أو تنعدم، حتى اللغة نفسها لم تعد أداة اجتماعية إذ أنها فقدت وظيفتها فهي أشبه بالصمت.
هنا كانت طروحات (البيركامو) ضمن مؤلفاته الانسان المتمرد، الطاعون، وغيرها، أولى التنظيرات حول لا جدوى الوجود وعبثيته، التي تتمثل بالادب، بالشعور بـ “لا معقولية” العالم.
إلا ان التمرد عند البيركامو اشتغل على نوعين:
1- تمرد الانسان على حاله من حيث هو انسان وهذا ما يسميه بالتمرد الميتافيزيقي.
2- تمرد الانسان على وصفه من حيث هو عبد، وهو ما يسميه بالتمرد التاريخي.
إذا بدأ الادب المسرحي في هذه المرحلة بتصور فلسفي تفلفل الى عمق مساحة الاشتغاليين: الادبي والدرامي، ثم محاولة تأسيس نظام جمالي في التعامل مع النص عن طريق بناء علاقات تساعد على بناء الفعل الافتراضي لتشكل العلاقات الإنسانية التي لا يمكن اخضاعها الى مقاييس المنطق أو التصور العقلاني للأفراد وبالتالي افراغها من محتواها الذاتي في فعل النظام الجديد على المحورين الفكري والمادي.
ان الضرورة التاريخية لولادة أدب اللامعقول جاء على وفق مبادئ التحطيم لكل ما وجد من تقليدي أو مستهلك، ومن ثم ماحدث هو تحطيم المراكز المتوارثة لمفهوم الادب والدراما الكلاسيكيين.
فضلاً عن ذلك، فقد برز كتّاب آخرون مثل (صموئيل بيكيت، ويوجين يونسكو، الذي وجد في المسرح ضالته المنشودة التي تحرره من قيود الكلام واللغة المقولية داخل القواعد النحوية والسياقية، لقد وجد في الحوار الشكل التعبيري الذي يوافق صراعاته الداخلية ويسمح له بترجمة تناقضات حياته وتجاربه:
المسرح موجود في داخله، وفي عقله، في طريقته لرؤية العالم: إذا كنت قد كتبت للمسرح ولم أكتب رواية أو دراسة فذلك لأن الدراسة والرواية تفترضان وجود فكر منسجم متماسك بينما يمكن للفوضى والتناقضات أن تجد طريقاً سالكاً في المسرحية.
يضاف الى ذلك أن أدب اللامعقول هو شكل خرج عن مجمل التقاليد والقواعد الكلاسيكية من حيث بناء النص أو تشكيل عناصره، فلم نجد شخصيات عظامية تنشد شعراً بآلامها.
ولم نجد الابعاد الثلاثة: الطبيعي، النفسي، والاجتماعي واضحاً في شخصيات نصوص أدب اللامعقول، إنما كل ما فيها هو بعد شمولي مركب تظهر فيه الشخصيات وهي تتكاتف مكونة النموذج الإنساني لفنه داخل هذا العالم.
ولذا فقد كان غاية المبدع هي البحث عن صيغ تواصلية جديدة مع العالم المادي عن طريق مواجهته ومن ثم تصويره، على نحو انعكاسي ينتظم في شتات الوجود ويتحرر اللسان من قيود الوجود المادي الى التمثل في شكل نص يتحرك عن مراكز الثبات وقوالب التقليد في تشكيل بنيته ورسم عناصرها بشكل يتوافق مع حركة الوجود الذي يبتعد عن التصريح برسالته الخطابية بما يفترضه من شخصيات واحداث غير واضحة.
إنها التعبير الواضح عن كينونة الفعل الإبداعي في الوجود، والواقع القائم بين ثلاثة أقطاب:
الحرب، الآلة، ورؤوس الأموال، فكان التمرد والايمان بعدمية الوجود هو ما أكدته جماليات أدب اللامعقول.

سمات مسرح اللامعقول:
1 – الاغتراب التام للأنسان ووحدته في كونه يناصب الأعداء ويبدو وكأنه ينكر عليه حق الوجود، فمسرح اللامعقول يقدم لنا شخصيات منبوذه لا منتمية، لفظتها الحياة.
2 – فكرة اللاجدوى التي تسيطر على كل شيء.
3 – ترتبط فكرة لا جدوى الفعل، بفكرة لا جدوى اللغة في المسرح، إذ تصبح اللغة مجرد أصوات جوفاء الهدف، الهدف منها درء الصمت الموحش الذي يلف الانسان بوحدته.
4 – محاكاة أسلوب السينما الصامتة في ترجمة العبثية الى تشكيل مسرحي.
5 – الاعتماد على الاستعادة المسرحية (المجسدة) لان المسرح يقدم رؤية كلية ولا يقدم فكرة تحليلية.
* باحث واكاديمي

 

عبد الجبار حسن*

http://www.newsabah.com/

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *