مسرح القاسمي وحفدة الأنوار

يوسف الريحاني

كتب هذا النص بمناسبة إصدار منشورات القاسمي للترجمة الفرنسية لأربعة أعمال مسرحية لسمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، حاكم الشارقة عضو المجلس الأعلى، التي أنجزتها الدكتورة فاطمة الزهراء الصغير، وشرفتنا الدار بمراجعتها مثلما سبق وشرفتنا بكتابة تذييل للترجمة الفرنسية لمسرحية سمو الشيخ “داعش والغبراء” التي صدرت سنة 2019 بتوقيع المترجمة نفسها.

إلى شارقة الأنوار

التي أدخلها سمو الشيخ د. سلطان بن محمد القاسمي هذا القرن

قراء المسرح في فرنسا هيغليون، ونحن في الحقيقة لا نفترق عنهم كثيرا ما دمنا محكومين مثلهم بفكرة التقدم، وما التقدم من وجهة نظر هيجل ليس سوى هبة الروح. الفرنسيون هم أيضا محكومون بفكرة الاستيطان والترحال في الزمن، لذلك يتبوأ التاريخ مقام السمة التكوينية في أعظم أعمالهم الدرامية، والأمثلة على ذلك كثيرة جدا، من ألكسندر العظيم إلى هوراس ثم جان دارك، وصولا إلى روائع أريان مينوشكين المعاصرة، ونقصد مسرحيتي (1789) و(1793).

وسمو الشيخ الدكتور محمد بن سلطان القاسمي، حاكم الشارقة، على وعي تام بهذه الحقيقة، كيف لا وهو صاحب أهم دراسة نظرية صدرت باللغة العربية عن توظيف التاريخ في المسرح الفرنسي. سمو الشيخ على وعي تام بحقيقة أننا عندما نفكر ونبدع بالتاريخ، فإن مفهوم الإبداع كله يتغير؛ إذ إننا ننتقل به من السياق الضيق المنغلق إلى الانفتاح على العام والمطلق.

سمة التاريخ بالإضافة إلى أسلوب سموه الماهر في مسرحة هذا التاريخ هو ما يرقى بأعماله الدرامية إلى مصاف الروائع، وخصوصا تجاوره مع فكرة التاريخ المضاد. ثم إن ما يجعل هذه الأعمال الدرامية الراقية بؤرة اهتمام المتلقي الفرنسي، أنها بارعة في التلاؤم ومنظومة القيم الكونية للكتابة الدرامية، محررة للفكر وللروح من الجمود والتعصب. ولا شيء يغري حفدة الأنوار المغرمين بالروائع الأدبية أكثر من هذه الروح المحررة التي تقطن كل أعمال سمو الشيخ الدكتور محمد بن سلطان القاسمي.

كما أن هذه المسرحيات المترجمة تمثل باللسان الفرنسي مفاتيح بوابة تاريخنا الإسلامي المجهول، لا أقصد بأنها ستعرف قارئها الفرنسي على وقائع وأحداث منسية، فهذا من عمل المؤرخين لا الأدباء، ولكنها كأدب درامي رفيع تمكنه من فهم محركات الوقائع الجليلة في تاريخنا التي لا تزال تعمل في الراهن. إن مسرحيات من قبيل: “النمرود”، “داعش والغبراء”، “عودة هولاكو”، “الواقع.. صورة طبق الأصل”، “الإسكندر الأكبر”، “شمشون الجبار” و”الحجر الأسود”، كلها قد انكتبت بمداد الصيرورة Le devenir الهادفة إلى القبض على عناصر التأثير الذي تمارسه ذهنيات ماضوية على مجريات الراهن، ما ينتج عنه سوء التفاهم الكبير بين الشرق والغرب، بين فرنسا والإسلام على وجه الخصوص، رغم أن عصر الأنوار كان هو الأقرب إلى روح الإسلام وفنونه وثقافته أكثر من أي عصر آخر. ألا تشهد على ذلك كتابات الرمزيين الفرنسيين والرومانسيين الألمان، شهادات ديكارت، روسو، فيكتور هوجو وحتى نيتشه؟

إن القارئ الفرنسي سيجد في هذه الروائع المسرحية المترجمة بلغة فرنسية رفيعة روح الإسلام السمح والمعتدل الذي أشاع الحضارة في عصر الظلمات، كما سيقف فيها على الإدانة الصريحة لحاكم عربي لكل أولائك الذين وظفوا عقيدتنا السمحة بنوع من الصلابة والجمود، فانتهوا إلى تدمير كل نزعة إصلاحية. وهذه خدمة مزدوجة يقدمها مسرح سموه لجماعتنا القومية في المقام الأول بهدف شد لحمتها وتفادي تكرارها للأخطاء نفسها، ثم للقارئ الفرنسي ثانيا باعتبارها دعوة إلى السلام والتسامح والتعايش.

إن معنى التقدم في الزمن لا يعني أن حياتنا خط أفقي يتجاوز فيه اللاحق السابق بشكل اعتباطي، على العكس، حياتنا أكثر تعقيدا لأنها أقرب إلى دائرة لا متناهية من التكرارات ومن العود الأبدي، فإما أن نتفنن في إعادتها بشكل فيه تجاوز للأخطاء السالفة، وهذا هو معنى التقدم الحقيقي في الزمن، وإما أن نظل محكومين باجترار الدائرة كما هي بمآسيها أبد الدهر. لذلك، فسموه حينما يؤكد على فعل الكتابة للمسرح باعتباره الانوجاد بالضرورة في صلب صيرورة دائرية، فإنه يكون بذلك قد بوأ التاريخ في أعماله مرتبة الذاكرة المضادة التي تحفر في الهامش وفي التفاصيل المنسية قصد تشريحها ونقدها، مبتعدا عما سماه نيتشه بالتاريخ الأثري الذي هو مجرد خبر أحاد Faits divers يوثق ويمجد، هذا كما قلنا دور المؤرخين وليس دور كتاب الدراما العظام الذين يكتبون قرعا بالمطرقة لإيقاظ النوام من سباتهم.

يستهل سمو الشيخ مسرحيته “الحجر الأسود” بقوله:

“تسود مجتمعاتنا الإسلامية في هذه الأيام حركات إصلاحية تقوم على أسس دينية واجتماعية وسياسية، حتى إذا ما تدخل أعداء الإسلام في توجيه المتطرفين من تلك الدعوة تحولت إلى إرهاب. وفي مسرحيتنا التي نقدمها اليوم (الحجر الأسود) صورة من صور تدخل أعداء الإسلام في توجيه حركة إسلامية أريد بها الخير إلى حركة إرهابية”.

أليس هذا هو ما يحصل اليوم مع التنظيمات الجهادية والحركات الإسلاموية؟ معضلتنا هي النسيان وآفتنا هي مفهومنا الخاطئ للتجاوز، وليست أعمال سمو الشيخ الدكتور محمد بن سلطان القاسمي سوى تلك المطرقة التي توقظ النيام، وذلك الترياق الذي يعالج الأدواء التي تكاد تعصف براهن الأمة العربية الإسلامية.

لقد قدمت هذه المسرحيات بإخراجات عربية باذخة، وقام بأدائها ممثلون كبار، في القاعات الإيطالية وحتى في رحاب الصحراء التي انطلقت منها شعلة الحضارة العربية الإسلامية المبهرة ضمن فعاليات مهرجان الشارقة الدولي للمسرح الصحراوي، تلك التظاهرة الفريدة من نوعها عالميا، ثم جالت هذه العروض بعد مسرح الشارقة الوطني أهم الخشبات العالمية، وهناك نالت الاستحسان والنجاح الذي شهد به مثقفون وفنانون وسفراء كبار، وشخصيا ومثل كل من سيقيض له قراءتها باللغة الفرنسية الأنيقة والجميلة، سنتطلع لأن نشاهدها يوما ما على المسرح الفرنسي العظيم بممثلين ومخرجين فرنسيين يؤدونها بلسان موليير، فتكون بذلك في متناول الجمهور الفرنسي الواسع، تماما مثلما صارت اليوم متوافرة للقراء الفرنسيين ولنخبة فرنسا المثقفة بلغة موليير الأنيقة.

سبق للمخرج الكويتي سليمان البسام أن قدم بنجاح كبير طقوس الإشارات والتحولات للراحل سعد الله ونوس على خشبة الكوميديا الفرنسية سنة 2013 في سابقة فريدة من نوعها جعلت الجمهور الفرنسي يتعرف على الكتابة المسرحية العربية الحقيقية التي تفاعلت مع أفق وتطلعات الشعوب الناطقة بالعربية والتي يشكل الإسلام جوهر هويتها الروحية، ونعتقد جازمين بأن مسرحية رائعة مثل “الحجر الأسود” يمكن أن تكرر النجاح نفسه لو انتبه إليه المخرجون والمنتجون الفرنسيون، خصوصا في وقت تجتاح فيه الإسلاموفوبيا بلاد الأنوار، ويتضاعف فيه سوء الفهم الكبير بين فرنسا والإسلام، بسبب ما سماه سمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي بتدخل أعداء الإسلام (الإسلامويين) في توجيه هذا الدين الحنيف الذي أريد به الخير إلى حركات إرهابية مقيتة. هذا مرفوض وينبغي هدمه، ومسرحيات سمو الشيخ هي إحدى المعاول التي تعمل في صمت وبنعومة، خصوصا وأن ما يميزها ضمن ريبرطوار المسرح العربي الحديث انتشارها الواسع بكل لغات العالم الحية.

https://www.hespress.com/

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش