مسرحية “هارفي” (Harvey) ل ماري تيشس (Mary Chase): عندما يرفع الأداء مستوى النص! / منتجب صقر#ليون

البارحة حضرت عرضاً مسرحياً في المسرح الوطني في ليون (Théâtre National Pupulaire) في مدينة ليون المعروف باختصار (TNP de Lyon). ودونت قراءتي للعرض الذي أخرجه لوران بيلي (Laurent Pelly) مدير مسرح تولوز وقبلها مسرح غرونوبل. وهي المرة الأولى التي تعرض هذه المسرحية الأميركية في فرنسا بعد أن ألغي عرضها في مسارح باريس وغيرها العام الفائت بسبب جائحة الكورونا.

تبدو قصة المسرحية بسيطة ومرحة: يتخيل إلوود أن لديه صديق أرنب يعيش معه وهو مقتنع بوجوده ولكن هذا الصديق غير مرئي فلا أحد يراه ويشعر بوجوده إلا هو مما يسبب إزعاجاً وقلقاً لجميع أفراد عائلته الأمر الذي دعا أخته أن تنقله إلى مشفى الأمراض العقلية. في المشفى، يحتفظ الطبيب الشاب بها عوضاً عن أخيها لما تقدمه من حالة نادرة وقد قدر أنها هي المريضة عقلياً ثم قام بالاحتفاظ بها في غرفة منفردة لوقت مؤقت.

إذا مسرحية “هارفي”كوميدية بامتياز تظهر هشاشة البرجوازية التي تتأثر حياتها بأبسط القصص حتى أن الهم الوحيد الذي يكاد يكدر صفو الجميع هو في معرفة إذا كان هارفي هو فعلاً أرنب حقيقي أم متخيل أم ماذا؟ وهنا فإن المتفرج يتساءل “من هو الأحمق؟” ربما لا جواب لهذا السؤال إلا بسؤال آخر يردده ممثلو العرض “هل رأيت هارفي؟”. وفي حقيقة الأمر، لا وجود لهارفي لأنه من صنع خيال إلوود المتوهم بل وإنه يتصوره في كل لحظة كما لو كان شخصاً حقيقياً موجوداً مع العائلة ويصر على أن لونه أبيضاً. ومن هنا لا يفاجئ المتفرج بردة فعل الطبيب الشاب الذي حجز أخت إلوود عندما أخبرته أن أخاها يعيش مع أرنب متخيل!

تهدف هذه الكوميديا ​​الغنية بمواقف متناقضة ومفاجئة في نفس الوقت، والتي غالباً ما تكون سخيفة ومؤثرة، إلى التشكيك بحياة البرجوازية الأميركية المحافظة. هناك أيضاً انتقال واضح بين المواقف الهزلية والمواقف الجادة بل وأحياناً يتعاطف الجميع مع إلوود ويعتقد بوجود هارفي حقيقة. يعود ذلك إلى لطافة شخصية إلوود الذي لا يزعج أحداً بل إنه حتى يتعرف على سائق التكسي الذي أحضر أخته إلى العيادة ويدعوه إلى العشاء معهم بكل بساطة ومحبة. وفي أحد المشاهد تتصل به إحدى الفتيات لتمرير إعلان ما، أخطأت بلا شك في الرقم لكنه يستوعب الموقف ويدعوها للتناول العشاء مع العائلة. المقصد أن إلوود لطيف يشارك الآخرين حياتهم وسيرهم ويقدم بطاقته لمن يتعرف عليه مروراً بالسكرتيرة في العيادة، والطبيب وزوجته وحتى الممرض في العيادة. إلوود شخص حالم،خارجعنالمألوف،تسكنهأحلام بسيطة وبريئة ولا يدخل ضمن التصنيف المجتمعي كما هي الحال عند أفراد أسرته المحافظة، إنه كالحمام الذي يغرد خارج السرب متخيلاً صديقه الأرنب هارفي في كل حركة يقوم بها. سرعانماندركأنالجميع،بشكلأوبآخر، يتحدثونعنهارفيكمالوكانموجوداً بينهم. وهنا يمكننا القول أنإلوود يمتلك قوة إقناع لا بأس بها تنبع من لطفهالشديدورغبتهالمتكررةفيالذهابلتناولمشروبفيمطعمتشارلي. كأن الكاتبة تطرح موضوع فرادة وبساطة الأشخاص المصابين بلوثة عقلية بل وجمالية حياتهم التي تشبه المغامرة في كل تفاصيلها. بل وإن هذا العرض يذكرنا بعض الشيء بأرانب أليس في بلاد العجائب ومغامراتها اللطيفة حتى أننا يمكن أن نرى في براءة إلوود البراءة ذاتها التي تجسدت في شخصية أليس. ويمكننا أيضاً أن نقارب هذا النص بنصوص أوجين يونيسكو التي لا تخلو من الغرائبية وخصوصاً في حركة الديكور وتنقله السريع على الخشبة كما هي الحال في عرض هارفي، وأيضاً في اختيار الموضوع بحد ذاته، إذ تشبه هذه المسرحية مسرحيات مسرح العبث التي راجت في خمسينيات القرن المنصرم.

ربما أن هدف الكاتبة ماري شاش في عملية التخيل لأرنب غير مرئي، عملاق طوله مترين غير موجود لكنه لطيف ومرح وغير مؤذٍ، هو حاجة الإنسان لوجود لطيف ومرح بجانبه حتى لو كان غير مرئياً. أو أنها تريد القول ربما أن المحيط العائلي والمجتمعي لم يعد يحتفظ بالمحبة والبراءة لذلك يلجأ الإنسان لتخليل وجود حيواني قريب منه ويتعامل معه على أنه حقيقي أي كتعويض على نقص ما في البيئة المحيطة.

وعندما يتساءل المتفرج أو ربما القارئ عن أهمية حكاية المسرحية ووجود أرنب وهمي في حياة شخصية ما، ربما يعود لبدايات مسرح الحلم في السنوات الأولى من القرن العشرين متذكراً مسرحية ستريندبرغ “الطريق إلى دمشق” التي يطفو عليها الحلم والمشاهد المتخيلة التي مهدت لما يسمى فيما بعد مسرح الحلم. بل إن فضاءات هذه المسرحية تذكرني شخصياً بمسرحية “زوجة الخباز” ل جان جيونو (1942) التي شاركت فيها كدراماتورج مع فرقة برونو بوغلان في ليون، حيث يتخيل الخباز في الجزء الثاني من المسرحية أنه غرق ومات ومن ثم عاد إلى الحياة ليروي حكاية موته وغرقه وماذا رأي وكيف عاد إلى الحياة. وهنا يبدو واضحاً تأثير الكتابة السريالية على كلا الكاتبين جيونو وماري تشيس وبالرغم من التفاوت في بنية وحكاية العرضين، إلا خطاً درامياً متشابهاً يتكشف بينهما وهو وجود الحلم واستمراه من بداية المسرحية لنهايته، وتأثر الشخصيات الأخرى بمحتوى ومضمون الحلم. كإن الحلم جزء أساسي من حياة الإنسان.

أكثر ما لفت انتباهي في العرض هو أداء الممثلين المميز الذي رفع من سوية النص وبدا لنا العرض كأنه لوحة حقيقية من حياة عائلة إلوود داود.يتوزع ديكور المسرحية المتدلى من أعلى الخشبة والمربوط بحبال متحركة مما يذكرنا بديكور مسرح العبث في مسرحيات أوجين يونيسكو حين دفع بأثاث البيت لوحده على الخشبة (في مسرحية “المستأجر الجديد”)، بين ديكور طبيعي واقعي لصالون العائلة وبين العيادة الخاصة حيث وضع إلوود. وهنا فإن سهولة تحريك الديكور تسهل التفاعل بين الجمهور والعرض سيما وأن الممثلون هم من يحركون هذا الديكور مثلاً تحرك ابنة أخ إلوود الطاولة التي يوضع عليها الهاتف وتركنها في زاوية الخشبة. كما يحرك طاقم العيادة الخاصة الأبواب والنافذة التي توحي بجو العيادة والكرسي وأيضاً طاولة الطبيب، هذه الحركة السريعة للديكور يسمح بكسب الوقت دون انقطاع الأداء لأن الممثلون يكملون التحدث في لحظة تغيير الديكور. وهنا تبدو اللحظات المكرسة للصمت أهم من الحوار بحد ذاته من قصة المسرحية التي يفهمها المتفرج منذ بداية العرض وتتكرر متنوعة بين موقف وآخر وهي تتمحور حول التعايش بين إلوود وأرنبه المتخيل. هذا الصمت المتجسد خصوصاً في حضور شخصية إلوود على الخشبة (الذي يؤديها الممثل الفرنسي جاك غامبلان (Jacques Bamblin) يؤكد أهمية التركيز على لعبة الممثل وإعطاءه مساحة مغايرة لما هو في النص، على سبيل المثال يبدو إلوود واقفاً لوحده على الخشبة يهتز جسده مع ترانيم موسيقية وتتلون الإضاءة في تلك اللحظة التي يتمايل فيها جسده ومن ثم نشعر بوجود الأرنب في كل حركة من حركاته وكإن إلوود يلاكمه ويلعب معه. في كل مشهد يظهر فيه إلوود يترافق الصمت مع الكلام وهنا تبزر حركة الجسد المتنقل على الخشبة ويزيد انتباه المتفرج إليها كلما

ولدت ماري تشيس (Mary Chase)، اسمها الحقيقي ماري كويل، عام1906 في دنفر بولاية كولورادو، في عائلة متواضعة،وقد تأثرت في طفولتها بقصص الأساطير السلتية التي كان يرويهاأعمامها ذوو الأصول الإيرلندية.اهتمت ماري بالكتابة في سن مبكرة، وبدأت تحضر العروض المسرحية منذ صغرها. درست الأدب في جامعة دنفر، ثم في جامعة كولورادو. في السادسة عشر من عمرها، بدأت العمل كمراسلة في صحيفة (Rocky MountainNews) وقد التقت فيها بالصحفي روبرت إل تشيس وتزوجت منه. في عام 1936 ، عرضت أولى مسرحياتهاMe Third، في مدينتها دنفر وحققت نجاحًا كبيراً وبعد فشلها في برودواي، تأثرت ماري تشيس جداً من النقد اللاذع الذي طالها فتخلت عن الكتابة المسرحية لفترة قصيرة إلى حين الحرب العالمية الثانية. وبعدها كتبت مسرحية “هارفي” عام 1944 بعد أن حلمت بأرنب أبيض عظيم يدخل إلى حياة الناس ويغيرها، وقد حققت لها هذه المسرحية النابعة من الحلم نجاحاً باهراً حتى أن المسرحية عرضت في برودواي ومدن أميركية عديدة أكثر من ألفي مرة حتى عام 1949.وقد حصلت على جائزة بوليتزر القيمة، كما تم إعدادها للسينما والتلفزيون.

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش