مسرحية مأساة طيبة لجان راسين /د.علي خليفة

بعد أن قرأت هذه المسرحية أكثر من مرة اتضح لي أن مؤلفها لم يلتفت لمسرحية أوديب ملكا لسوفوكليس ، ولكنه التفت بقوة لمسرحية الفينيقيات ليوربيديس ، فراسين في مسرحية مأساة طيبة لا يتناول مأساة أوديب لكنه يصور الصراع الذي نشب بين ابني أوديب على الملك بعد موته ، وهذا ما تناوله يوربيديس في مسرحية الفينيقيات
ولكن يوربيديس في مسرحية الفينيقيات لم يكتف بتصوير جوانب من الصراع بين ابني أوديب على العرش، بل صور لنا أمورا أخرى مثل موقف أوديب -وكان حيّا في هذه المسرحية في حين كان قد مات في مسرحية مأساة طيبة-من ولديه اللذين لم يهتما به وقد كبر وصار أعمى ، وكذلك نرى في مسرحية الفينيقيات موقف أنتيجون وجوكاستا من الحرب بين ابني أوديب ، ومحاولتهما إطفاء شرر النزاع بينهما ، وبعد مقتل الأخوين وتولي كريون الحكم نرى أنتيجون في مسرحية الفينيقيات تحاول أن تدفن جثة أخيها بولونيس التي حرم كريون دفنها لأنه جاء بجيش غاز واعتدى على طيبة ، وفِي الوقت نفسه تهيئ نفسها لمرافقة أبيها أوديب في رحلة الشقاء التي اعتزم عليها بعد موت زوجته ومقتل ولديه أحدهما بيد الآخر
ومسرحية الفينيقيات فريدة في أسلوب بنائها في المسرح الإغريقي ، فليس فيها حدث واحد ، ولكن فيها أحداثا متشابكة ، واستطاع يوربيديس بموهبته الكبيرة أن يجعلها تصب في نهاية المسرحية في مجرى واحد ، ولو أن أرسطو وضعها في اعتباره في كتاب فن الشعر لما قيد التراجيديا بتلك القواعد التي استخرجها من مسرحية أوديب ملكا على وجه الخصوص
أما مسرحية مأساة طيبة لراسين ففيها يطبق راسين كل قواعد المسرح الكلاسيكي كما أرسى له أرسطو ثم بوالو بعد ذلك ، ففيها حدث واحد وشخصيات قليلة من النبلاء وخدمهم الذين يقومون بأدوار ثانوية في المسرحية ، ونرى في هذه المسرحية أن حوادث العنف والقتل تتم خارج المسرح لعدم إيذاء الجمهور بمشاهدة هذه المشاهد
والشخصية المحورية المحركة للأحداث في هذه المسرحية وهي الشخصية الشريرة الوحيدة في هذه المسرحية هي شخصية كريون ، وفِي حوار جوكاست وابنتها أنتيجون مع بداية المسرحية نراهما تتوجسان خيفة من مكر كريون الذي يحاول أن يشعل الخلاف بين الأخوين أتيوكليس وبولونيس ليتمكن هو بعد ذلك من الوصول للعرش وهو حلمه الكبير، ولكننا لا نتعرف على وجه التأكيد على حرص كريون على الوصول لحكم طيبة إلا مع الفصل الثالث حين يحاور كريون خادمه أبتال، ويوضح له أن دعوته للحوار بين الأخوين قبيل أن تقع الحرب بين جيشهما ليس من أجل إرساء السلام بينهما ،ولكن لعلمه بنفسيهما، فهو يعلم أنهما لو تحاورت فسوف يشتد النزاع بينهما ولن يتخل أي منهما عن حكم طيبة ، وسيؤدي ذلك لنشوب الحرب بينهما وبين جيشهما
وأرى أن تأخير ظهور كريون وذكره لمطامعه في الحكم ، ورغبته في أن يجمع إلى ذلك الزواج من أنتيجون للفصل الثالث من المسرحية مما يعيب بناءها ، فكان الأولى أن يبدأ المشهد الأول من المسرحية بتصوير طموحات كريون للسلطة ورغبته في الفوز بقلب أنتيجون التي تحب ابنه هيومن ويحبها في الوقت نفسه ، أما أن نكتشف هذا في الفصل الثالث ومن خلال حوار عارض بين كريون وخادمه أبتال فهذا مما يعيب بناء المسرحية كما قلت من قبل
وأيضا لا أرى ما يقنع في أن يكون كريون متيما بحب أنتيجون وهي ابنة أخته جوكاست ، وهي في الوقت نفسه على علاقة حب مع ابنه هيمون ، ومن المعروف أن عاطفة الحب تخمد كثيرا مع الكبر في السن ، والأغرب في هذه المسرحية أن كريون بعد أن تتحقق أهدافه في أن يتقاتل ابنا أوديب ويقتل أحدهما الآخر، وتقتل جوكاست نفسها قبلهما حين أدركت أنهما لا شك سيقضي أحدهما على الآخر، وبعد مقتل ابنه هيمون أيضا -إذا به يصارح أنتيجون بحبه لها ويطلب إليها الزواج، وأن تشاركه على العرش، ولكنها ترد على طلبه هذا بأن تتخلص من حياتها بالخنجر الذي قتلت به جوكاست نفسها ، وعند ذلك يقرر كريون أن يقتل نفسه هو أيضا ليذهب لأنتيجون في عالم الموتى، ويعكر عليها صفوها هناك انتقاما منها لأنها رفضته وقتلت نفسها ، وهي نهاية غير مقنعة تماما
ولا أعرف كيف استقبل الجمهور الفرنسي المرهف الذوق هذه المسرحية عند عرضها في حياة راسين، ولكنني أراها تخالف الذوق السليم في كثير من أحداثها لا سيما ما يأتي به كريون من أفعال
وتتشابه هذه المسرحية في كثرة حوادث القتل فيها مع بعض تراجيديات شكسبير التي تكثر حوادث القتل فيها أيضا لا سيما مع نهايتها مثل مسرحية هاملت ومسرحية الملك لير ومسرحية ماكبث ، وهناك بعض تشابه بين مسرحية مأساة طيبة ومسرحية ماكبث ، ولكن ما أبعد الفرق بين المسرحيتين ، ففي المسرحيتين نرى شخصا يطمح للسلطة ويستخدم وسائل دنيئة للوصول إليها، ولكنه بعد وصوله إليها لا ينعم بها
ولكن مسرحية ماكبث درة في المسرح العالمي، وتصرفات ماكبث فيها مقنعة وتتفق مع شخصيته التي رسمها شكسبير بإتقان ،أما مسرحية مأساة طيبة ففيها اضطراب في بنائها، ولم يحسن راسين بناء شخصيتها الرئيسة كريون ، هو أيضا لم يفسح له المساحة الكافية في المسرحية لنتعرف على أغوار

محمد سامي / موقع الخشبة

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *