مسرحية ليلة مقتل العنكبوت.. صعود العرض إلى منطقة سحر النص

    بعد تجربتين إخراجيتين لنصين مسرحيين للكاتبة باسمة يونس، مسرحية “آخر ليلة باردة” في إطار فعاليات “مسرح الشباب”، ومسرحية “بنات النوخذة” التي شاركت بها في الدورة السابقة لأيام الشارقة المسرحية رفقة فرقة مسرح خورفكان للفنون، اختارت الفنانة الإماراتية إلهام محمد في تجربتها الجديدة أن تخوض مع نفس الفرقة مغامرة إخراج نص لكاتب مسرحي إماراتي وازن وهو المسرحي إسماعيل عبد الله، أما النص فهو “ليلة مقتل العنكبوت”..

     وقدمت فرقة مسرح خورفكان للفنون مسرحية “ليلة مقتل العنكبوت” يوم الثلاثاء 3 مارس 2020 على خشبة معهد الفنون المسرحية بالشارقة ضمن فعاليات الدورة الثلاثون لأيام الشارقة المسرحية.

     استطاع العرض ان يلامس مقولات النص الإنسانية العميقة، من خلال رؤية إخراجية واختيارات جمالية مبنية على فكرة تشظي شخصيتي (فنار والعنكبوت).. ذلك أن المخرجة جعلت ممثلين يتقمصان الشخصية الرئيسية “فنار” وممثلتين تجسدان بتعبيراتهما الجسدية شخصية “العنكبوت”. وعبر أداء تمثيلي جيد وسينوغرافيا وظيفية تعكس فضاء الزنزانة الذي لا يتحرك فيه إلا سرير، ومفردات أخرى مساعدة من إنارة وقطع ديكور متفرقة واكسسوارات.. يُدخلنا صناع العرض إلى حكاية “فنار” حاضرها وماضيها…

     مقترحات تقنية نقلتنا إلى عوالم متعددة. فالزنزانة كوحدة مكانية ثابتة لم تسجن المخرجة وممثليها داخل فضاء محدد، والنص يمنح امكانيات للتنقل بسلاسة بين أمكنة الاحداث، فانتقلت بنا إلى فضاءات وأمكنة خارج الجدران التي نسجت عليها العنكبوت خيوطها، لتنسج لنا خيوط حكاية “فنار”عبر تقنية “الفلاش باك” من خلال حكي الممثلين وتقمصهم لشخصيات مختلفة وتوظيف الإنارة وتحريك دقيق لقطع الديكور القليلة المتوفرة على الخشبة، كان السرير أبرزها.

     يبدأ العرض بحكي ممتع يتناوب فيه الممثلان (خليفة ناصر وحميد فارس) وبالموازاة يتحرك جسدا الممثلتين (سارة ونساء)، وفي صمت مطبق طيلة مدة العرض، في مكان الحدث المسرحي بكل حرية وسلاسة، دون أن يعيق حركاتهما جدار او سرير أو حتى جسديْ “شخصية فنار”.. فهما يصعدان وينزلان أي كتلة أمامهما مادية كانت أو بشرية. وهي تقنية إخراجية / كوريغرافيىة منحت المشاهد متعة بصرية خاصة، وكسرت ما يمكن ان يحدث من رتابة في تتبع مونولوغ طويل مكتوب بلغة درامية وشعرية عالية ما لم يتوفر ممثل موهوب يمتلك مهارات وتقنيات في الأداء والتشخيص.

     “فنار” نص مسرحية ليلة مقتل العنكبوت، تحول إلى “فنارين” في العرض، وعنكبوتها صار عنكبوتين.. فنارٌ يسرد قصته بأداء تمثيلي طبيعي وفنارٌ آخر يرتدي نصف قناع كناية على أنه يكمل الأول، أو هو نفسه في صورة أخرى، يشارك في الحكي بالكلمات وبالتعبير الحركي وتنقلات الجسد، في محاكاة واضحة لحركات العنكبوت. فهي مؤنسة وحدته وزميلة سجنه وسيدة تستمع لحكاياته وأحلامه وفواجعه… (وفي نص إسماعيل عبد الله تعزف له أعذب الألحان) إننا أمام نص بأبعاد رمزية وأجواء مسرحية تعبيرية تحتاج حلولا إخراجية ومعادلات بصرية ومسرحية ذكية لإسقاط دلالات هذا النص وحمولاته الفكرية والجمالية على الواقع. وتلك مهمة ليست باليسيرة لأي فريق تبنى فكرة التصدي لتقديم “ليلة مقتل العنكبوت” على الخشبة.

     وإذا كان لكل شخص من اسمه نصيب، فدلالة الفنار (اسم الشخصية الرئيسية) لم يضعها الكاتب إسماعيل عبد الله مجانا أو جاءت هكذا صدفة. الفنار مصباحٌ قويُّ الضوء يُنصَبُ على سارية عالية، أَو برج مرتفع أو ما شابه للإِرشاد والاهتداء إِلى المسار وتجنّب مواطن الخطر وأماكن المطبات.. الفنار نور لكنه في الوقت ذاته خطر بالضرورة على كل من يستهويه نسج المؤامرات في الظلمة ومزعج لمن يريد جنح الليل ستارا لصفقات مشبوهة أوخيانات وجرائم ضد الوطن أو تواطئات لتحقيق المصالح الشخصية الضيقة.

     والفعل المسرحي يصدق هذا الطرح وياكده فسلطة “الديناصور” قطعت ضوء فنار بحز يده ورميه في سجن انفرادي لسنوات عديدة.. وذلك لرفضه الخنوع لهذه السلطة وتسليمها خرائط أنفاق مدينة الاحلام حتى لا تُغتصب أحلام المدينة.. وها هو في زنزانته ينسج خيوط أحلامه رفقة “العنكبوت” التي صارت جزء منه وصار بعضا منها.

     عندما شطرت المخرجة فنار إلى جسدين تسنى لها بسلاسة ان يلعب أحد الممثلين الشخصيات الأخرى، المرأة اللعوب، الام، الدينصور الأول… وأمين الشخصية الحربائية المتلونة بألوان المصلحة ومغريات السلطة. وهنا لا نصيب لأمين من اسمه إلا أن أخلاقه على نقيض من الأمانة، فهو المستغل لأهل قريته “المنسية”، وهنا لاسم القرية دلالته مرة أخرى.. لا تنجح مغريات أمين ولا صفقاته المشبوهة مع فنار فالديناصورات كلها شبه بعضها وهي مدمرة لا محالة للقرى والمدن وأهلها، ما دامت نزواتها ومصالحها تفتي بذلك..

     بالموازاة مع ثنائي (فنار / أمين) يتشكل ثنائي (العنكبوت / الدينصور).. تتحقق مقولة فنار أن ليس في الديناصورات متخلق مسالم.. كلهم يزمجرون ويتسلطون ويدمرون العالم.. وكذلك كان. يقتل الديناصور الذي جاء به أمين العنكبوت التي رباها فنار.. الفن والرقة والحياة تداس بالظلم والجبروت والموت..

     غير ان العنكبوت وقبل ان تلفظ أنفاسها الأخيرة متأثرة بضربات الديناصور تكون قد أدت مهمتها الأخيرة في الحياة وهي التخلص من الديناصور…

     هل تذهب بنا مقولة النص / العرض إلى ان الصراع لا ينتهي.. ونعود دوما إلى المربع الأول: الديناصورات المتينة أيادي بطشها لا تنقرض ولا تنتهي، والعناكب الرهيفة خيوط أحاسيسها لا بد انه تعود وتستمر في المقاومة…؟

لقد نجح المقترح الاخراجي لإلهام محمد وفريقها أن يصل إلى غير قليل من تجليات سحر نص إسماعيل عبد الله وجمالياته.  يبقى أن الممثلين بدلوا مجهودا كبيرا خاصة (حميد فارس وخليفة ناصر).. وان (سارة ونساء) يمكن ان تمنحا حيزا أوسع للعب الجسدي في زمن العرض.. وألا تدخلا في النسيان في بعض اللحظات لقوة حضورهما بصريا على الخشبة.  

عبد الجبار خمران

شاهد أيضاً

الكتاب المسرحي العربي للمرة الأولى في جيبوتي. اسماعيل عبد الله: حضور منشورات الهيئة العربية للمسرح في معرض كتب جيبوتي حدث مفصلي في توطيد الثقافة العربية.