مسرحية “ليست أنا” صرخة امرأة وحيدة تقف بشجاعة ضد الواقع

دمشق- اعتمد العرض المسرحي الذي بعنوان “ليست أنا” بشكل أساسي على النص الأصلي بالعنوان ذاته للكاتب الفرنسي صمويل بيكيت مع توليفة من نصين آخرين بعد إعداد واءم المجتمع السوري عبر لغة العرض الذي أنتجه المسرح القومي ممثلا بمديرية المسارح والموسيقى.

العرض الذي ينتمي إلى مسرح العبث جاء في شكل مونودراما لعبت البطولة فيها الممثلة توليب حمودة، وأخرجه إبراهيم جمعة الذي أعد له السينوغرافيا أيضاً ضمن محاولة لتقديم تصور عن عالم الأوهام والتخيلات المشوهة بأسلوب نقدي للواقع وبطريقة رمزية.

تسلط مسرحية بيكيت الضوء على فم الممثلة التي تتولى سرد أحداث المسرحية، ويتم حجب كل شيء من حولها في ظلام دامس فلا يظهر في المشهد سوى الفم الذي يتحدث عن قصة حياة امرأة في السبعينات من عمرها تعاني طوال حياتها من الكثير من الأحداث، وبالرغم من ذلك تظل صامتة طوال الوقت.

التيمة الأساسية للعرض تناقش قضايا الأنثى والجنون الذي يصيب الناس بسبب ظروف الحياة القاسية

ينطلق الفم في سرد معاناة المرأة التي تبدأ بترك والدها لها وهي طفلة صغيرة، مروراً بالكثير من الأحداث المؤلمة التي تتعرض لها طوال حياتها والتي تتجسد في أربعة أحداث رئيسية.

ويحاول بيكيت من خلال هذا الحوار أن يعرض لنا صراع هذه المرأة التي تبحث عن السبب وراء معاناتها، فأحياناً تشعر بأن الله يعاقبها ولكن في النهاية تخلص إلى أن الله ليس بحاجة إلى سبب في ما يقدّره علينا.

لكن جوهر المسرحية يدور حول إصرار المرأة على إنكار أن أي حدث من الأحداث التي ترويها قد وقع لها شخصياً، وتؤكد في كل مرة أنه “ليست أنا” إنما هذا حدث مع شخص آخر.

ولئن حافظ إبراهيم جمعة على جوهر العرض تقريبا فإنه قام بتغيير فضاء مسرح الحمراء بحيث كان العرض والجمهور على الخشبة في الوقت ذاته مع أبعاد جديدة قلصت حجم المسرح ليتسع لخمسين متفرجاً فقط، ما أدخل الجمهور باكراً في حالة غرائبية وعبثية، كانت هي شرط الفرجة المسرحية من خلال التماشي معها بشروطها مع ظهور فم كبير وسط الجدار يأتي من جهاز إسقاط طوال وقت العرض والذي كان يتكلم بين الفينة والأخرى بالتناوب مع الممثلة، مشكلاً حالة روائية مساعدة على إيصال فحوى العرض.

وقال مخرج العرض في تصريح “بدأنا بالاشتغال على نص ‘ليست أنا’ لبيكيت ثم أخذنا بعض الأفكار من نصين آخرين للكاتب ذاته يحكيان عن امرأة وحيدة لإشباع التيمة الأساسية للعرض المتعلقة بقضايا الأنثى والجنون الذي يصيب الناس بسبب ظروف الحياة، وهو ما جذبنا للنص الأساسي بما يحويه من أفكار مناسبة لهذا الوقت”.

وحول عدم اعتماده على نص محلي في كل التجارب المسرحية التي قدمها اعتبر جمعة أن هناك فقراً في النصوص المحلية لذلك يقتبس من نصوص أجنبية وفي كل مرة يلجأ إلى أسلوب من الاقتباس يلائم المجتمع والجمهور السوريَّيْن.

ولفت المخرج جمعة إلى أنه في كل عرض يقدمه يحاول تجريب نوع مسرحي جديد، فمن المسرح الحركي إلى الواقعي وصولاً إلى مسرح العبث، مبيناً أن البحث ما زال مستمراً حتى يجد أسلوبه الخاص.

جوهر المسرحية يدور حول إصرار المرأة على إنكار أن أي حدث من الأحداث التي ترويها قد وقع لها شخصياً، وتؤكد في كل مرة أنه “ليست أنا” إنما هذا حدث مع شخص آخر

يذكر أن المخرج إبراهيم جمعة خريج قسم الدراسات المسرحية في المعهد العالي للفنون المسرحية عام 2013، وله عروض عدة آخرها عرض بعنوان “معلق” قدم على خشبة معهد الفنون المسرحية.

تصادم أساليب حاد شهده المسرح السوري في السنوات الأخيرة، فالمسرح الذي كان مرتهنا بأشكاله القديمة وتكراراته المملة خلع هذه المرة ثوب الوقار القومي، ليرتدي بزته المموهة وقبعة الإخفاء الماهرة التي تجنبه جميع أنواع الرقابات السلطوية منها قبل الاجتماعية والقبلية.

يمكننا أن نطلّ على هذه الخشبة التي تصرخ وهي تحترق؛ إذ سجلت مسارح سوريا -ولاسيما في العاصمة دمشق- عشرات العروض التي عبّرت عن شجاعة واضحة ورغبة في الإشهار والصراخ في وجه الموت العمومي وغرائز التدمير الهمجية.

وعلى غرار جمعة انتهج العديد من المسرحيين في سوريا أسلوب العبث الذي كان بالنسبة إلى رائده صمويل بيكيت صرخة ضد الحرب العالمية الثانية، وما زال يمثل بالنسبة إلى المسرحيين السوريين صرخة ضد الحرب في سوريا، وضد الدمار والعبث الكبيرين اللذين خلفتهما.

من خلال شخصية المرأة نتعرف على مقدار الدمار النفسي الذي ينال منها في تفاصيل شتى تعيشها في مجتمعها المضطرب الذي يدفعها إلى الانكسار والتراجع والانزواء والتفكك من الداخل، لتقدم صرخة مدوية ضد كل ما تعانيه وما تعانيه من خلفها نساء كثيرات.

https://alarab.co.uk

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …