مسرحية “كان ياما كان في حلم” ..جمالية رسمت في أذهاننا حية في ذكرى رحيل الفنان الكبير خليل شوقي ..

 

 

 

سناء الطالقاني 

عرضت في لندن مسرحية “كان ياما كان في حلم” من إعداد وإخراج الفنانة روناك شوقي وتمثيل سلوى الجراح وروناك شوقي. وبمشاركة ، مي شوقي وأيسر شوقي وفارس شوقي وواثق شوقي في الفترة ١٨-٢٠من شهر أيار ولمدة ثلاثة ايام متتالية. 

توزع هذا الاستذكار الى مرحلتين، المرحلة الاولى، قراءات مكتوبة من قبل ابنائه وبناته، تصدروا المسرح بشكل دائري، وفي مقدمتهم الممثلة القديرة مي شوقي، وهي تقود اخواتها وإخوانها نحو روح الأب والمعلم والصديق. 

كانت أشبه برسائل حية، تناولوا فيها مسيرته الإبداعية المتعددة الجوانب والمتميزة لمسار مبارك امتد لعقود، تنوعت أعماله الخالدة في المسرح والسينما والتلفزيون والإذاعة، ولن تمح من الذاكرة الجمعية، باستخدام تقنيات / الفيديو والموسيقى والكلمة المعبرة وطريقة إلقاء أشبه بالتنغيم، ارتفاع الصوت وانخفاضه في اثناء السرد مع شدة الاستذكار وتلمس جوانب هذه الشخصية/ خليل شوقي. والجمع والتلاحم بين هذه الشخصية في إطار الامكنة والأزمنة، فكل واحد منهم كان لديه حكاية رواها من وحي العلاقة الزمانكانية والأثر. 

كنّا ننصت اليه بصوتهم وتتجلى أدواره الفنية بإيماءات أيديهم وكأن طريقة اتصالهم الفعّال بِنَا كانت كافية لاستحضار روح ودفق العلاقة معه بطريقة مسرحية متداخلة في العديد من الرسائل والاشارات ، كانت إيقاعات اصواتهم تتخللها دفقات صوتية حزينة واحياناً مكابرة معاندة، هذا الجيل الذي استورث تراثاً زاخراً بالمعاني والانجازات الإبداعية مكنتهم من فتح ابوابها المشرعة لنا . 

أعقبه ذلك ، عرض فيلم تسجيلي قصير، في حديث خاص للفنان شوقي، تناول مسيرته وبعضاً من ذكرياته الفنية والعامة قائلاً، (كنت دائماً اتعلَّم من الناس البسطاء رغم انني منهم لكني وضعتهم في صلب عملي التأليفي والتمثيلي لموضوعات تهم حياتهم وتعكس احلامهم المتواضعة ، سواء للمسرح او السينما او التلفزيون، هؤلاء البسطاء علموني الكثير والكثير جداً وانا مدين لهم.. وخاصة لأمي التي كانت تكدح من اجل توفير لقمة العيش لكي نعيش ). كنّا كجمهور، نصغي بإمعان لصوته ولقسمات وجهه المتعب ، فقد بانت فيه ملامح من الألم الدفين والحزن الجليل ، ويبدو ان هذا الفيلم تم تسجيله مؤخراً ، لكن صوته لم يزل يافعاً وحاداً ومتدفقاً، حينما يذكر اسم بغداد واحياءها الأليفة الى قلبه!. 

لا ادري لماذا سقطت دموعي وانا اسمعه وكأني انتقلت فجأة نحو بناية فرقة الفن الحديث للمسرح ومسرحية بغداد الازل بين الجد والهزل الذي ابدع فيها بامتياز، كنت هناك وكان يبتسم ابتسامة خفيفة كعادته دوما. 

انه شريط تسجيلي، لحياة غنية بالمواقف والابتكارات والانجازات المتنوعة تأليفاً وتمثيلاً في ميادين متنوعة، لكنه اثر الانسحاب من الساحة الفنية بسبب من تردي الأوضاع في العراق على كافة الصُعد فاصطدم حلمه بهذا الخراب، ليخفت ويتضاءل، ليختار حياة المنفى القسري في هولندة حتى رحيله ويدفن هناك. اختير لهذه المسرحية عنواناً/ كان ياما كان في حلم/ وكأنه امتداد لآخر عمل قدمه الراحل خليل شوقي، وفيه أدى دور العبد، مستوحاة من نفس نص سابق، هو السيد والعبد. لدلالاتها المعرفية والترابطية لمجمل حياته ومحطاتها الزاخرة وحتى رحيله المفجع وهو بعيد عن الارض التي احبها. 

تقوم مسرحية كان ياما كان على شخصيتين، الاولى ( السيدة/ مثلت هذا الدور الفنانة روناك شوقي) والخادمة ( قامت بتمثيله الفنانة سلوى الجراح)، وهذا النص مستقى من نصوص بابلية قديمة وجدت مكتوبة على ألواح الطين وفي تناول جديد ادخلت عليها نفحات ورؤية معاصرة، تداخلت مع الهم والانكسار، ومستوحاة من تداعيات عامة وخاصة لما آل اليه الوضع في العراق والغربة التي ابتلى بها الكثير من العراقيين. 

هي دراما مسرحية لسيدة تعاني من وضع مأزوم وتعيش على ذكريات قديمة، وهي مكتئبة ويائسة، تلجأ للحزن والصمت النازف في داخلها ومحنتها تزداد سوءاً بسبب ارتطام الحلم لوضع جديد متهرئ احاط بها منذ سنوات،  كأنها ترزح تحت عبأ اللاجدوى واستوى عندها الفعل واللافعل.

وبسبب من عجزها الجسدي والذهني تصل الى طريق مسدود، تائهة وممزقة، يموج في داخلها، احياناً السكون القلق او الهيجان العاصف سرعان ما تخذلها شيخوختها وحالة من الارباك الداخلي . 

اما الشخصية المحورية الثانية في المسرحية ، هي الخادمة، كانت دوماً مطالبة بملازمة سيدتها ومساعدتها للخروج من ازمتها النفسية، نجدها دائماً مطيعة ومبتسمة وتقدم المبررات المنطقية للشيء ونقيضه وفي إذعان تام. لكنها في المطاف الاخير تقرر التمرد على سيدتها لتقول لها: / الزمي الصمت يا سيدتي ، الزمي الصمت لكني قررت أن أغادر هذا المكان/ فتحمل حقيبتها لتكسر حالة الاذعان للسيدة وتفك حالة التبعية لها وتخرج من البيت، لتبقى السيدة في حالة انكسار وهذيان بين البكاء والضحك … وحيدة ثم تخفت اضواء المسرح وتتقد مع وقوف الجمهور الحاشد وبتصفيق عالٍ يحيي هذا الإنجاز الجميل . انها حكاية قديمة جديدة تتناول نفس الهواجس وتطرح نفس الأسئلة المتعلقة بالانسان وحلمه منذ الازل والصراع من اجل تحقيق ذلك الحلم ، هذا الحلم الذي أرّق خليل شوقي وأرقنا جميعاً نحن المنفيين قسرياً عن وطننا ، الذي آل الى الخفوت تدريجياً كما انعكس في جوف هذه السيدة ليغدو فراغا . 

اداء الممثلتين ، روناك شوقي وسلوى الجراح، كان نابضاً وتلقائياً لم يتخلله، التضخيم أو الترهُّل، بل بواقعية جذابة اعتمدت على ، عمل مونودرامي اعتمد فقط على شخصيتين فقط، وهذا بحد ذاته ليس سهلاً على الإطلاق بل مجهداً خاصة اذا علمنا أن هذا العرض المسرحي استمر لثلاثة ايام متتالية . وكان هذا الابداع افتراقاً للسائد المألوف وبديلاً ديناميكياً جعلنا مشدودين بقوة كجمهور به. 

كان الحوار متداخلاً ، وبشكل خاص الشخصية المحورية (السيدة) ، فمرة الذكريات تهطل ومع الأسئلة الحارقة، ومرة تظهر شفرات إدراكية لطرح مفاهيم عن الجمال والقبح والفرح والحزن ، وهذه الدالة الثنائية في المبهم والمعلوم لكنها كلها تدور بشكل حقائق وإعترافات لعوالم نفس معذبة وكأنها مرة في غرفة إنعاش للاستذكار وهبوطها مع الألم النازف في غرفة العناية المركزة، وكانت الخادمة تتوزع بين هذه المتقاطعات والانكسارات والتحليق في حزمة شائكة لإيجاد مخرج لإنقاذ السيدة وبث روح السلام والطمأنينة في داخلها ولجذبها نحو الارض وهي تعلم أن لا جدوى لإنبات نبتة في روح قاحلة . 

اداء روناك شوقي وسلوى الجراح ، جذاب وتفنن في عكس قوة التلاحم والآصرة بينهما في تعاطي مكتمل بين هاتين الشخصيتين ، بمهارة فائقة في تلاحمها معاً مما بث شحنات تفاعل قوي بين المسرحية والجمهور لجمال الأداء وفق إيقاعات الفعل الدرامي . كانت القاعة ممتلئة بالجمهور الذي تفاعل مع المسرحية بمتعة كبيرة وبمجسات جمالية لا تنسى . كنّا نرى وننصت لمسيرة مبدع لا يتكرر ، ونتألم لخسارة لا تتعوض. 

والعزاء الوحيد أن هذا العمل جاء ليقول احفظوا تراث هذا الانسان وليكن مادة معرفية للأجيال المقبلة من خلال البحوث والكتابات والأعمال التي تتناوله كمبدع له مواصفات متفردة ، من عمالقة المسرح والسينما والتلفزيون والإذاعة . ستبقى حيّاً فينا. بوركت كل الجهود التي تعمل من اجل الكشف عن هذه الشخصية ، كما في هذا العمل المسرحي المتنوع.

 
———————————————
المصدر : مجلة الفنون المسرحية –  المدى 

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *