مسرحية فلانه … خطاب الانوثة المعوم والمضمر المحايث -د.يوسف رشيد

                        مسرحية فلانه … خطاب الانوثة المعوم        

                                           والمضمر المحايث             

 د.يوسف رشيد                  

 

تأليف _ هوشنك وزيري

اخراج _حاتم عوده

مكان العرض _ منتدى المسرح / بغداد

 

من فضاء تداولي للموروث عن (السلطة الذكورية) ورواشحها الاجتماعية التي ظلت دهراً تحكم العلاقات الانسانية بقيمها ومبادئها وتحتفي بحضور (الذكر) على حساب (الانثى )وتمجد ذلك الفارس الذي ينجب ذكراً. اجتهد كل من مؤلف ومخرج مسرحية (فلانه) في التقاط حدود وابعاد لسنن متوقعه  في تلقي هذا الموضوع وفي هذه المرحلة من حياتنا بالذات, جاعلين من المحنة فضاءاً ل(الذكر) نفسه مثلما هي محنة ( الانثى ) وواضعين المرأة امام (الذكر) بأزمته (السايكودراميه) التي تمثلت بحياة معطلة ومغرقة بابعاد هذا العجز وتردداته وانعكاساته في مجتمع العرض , كبؤرة ثانويةً ارتقت بمضمراتها وحدودها لترفع يافطات احتجاج امام هذا العالم الذكوري المستبد وعبر التصدي بالنموذج المجاور لاشكالية الانطفاء الفحولي والوقائع الاخرى المترتبة عليه.

يندرج الخطاب الجمالي في مسرحية (فلانه) بخطاب ( سوسيو ثقافي) مستبطن اي ان ثمة تخارجات فكرية بين انساقه وتشكلاتها وبين فاعلية اليومي في الحياة , وهي مابين الغياب القصدي احيانا ,وما بين الحضور الخجل ,في ظبط دلالي لم يعطي نفسه في الوهلة الاولى الى فضاءات التاويل اذ بقي في حدود وظاهرية الازمة الانسانية التي تستدعي استجلاء بواطنها بالتحليل المتاني لوقائع مترامية الابعاد .

فالعتبة الاولى للنص كما تشير الدراسات هي العنوان : لذا فأن (فلانه) تدلنا على (اللاسم محدد) او مشخصن لتدور حوله الاحداث ,وهكذا فأنها جميع الشخوص معومة , و(فلانه)هي كل انثى , هذا يعني ان التعويم كان غاية بذاته وقد عمقته الصورة الاولى لدليل العرض  , احذيه واقدام نسائية مبهمه لا اجساد لها ولا شخوص تعرف لهم اسماء, فهذا التعويم ينطبق على جميع الشخوص ومجريات العرض ومفرداته التي عمد اليها المخرج, فالمكان معوم يلفه الدخان واللاهوية واضحه ,ومساقط ضوء ثابتة, رسمت بتعالقها مع الدخان لوحات سريالية كأنها ذاكرة مشوشة ,او صورة لحياة مبهمة ومعومة هي الاخرى , حيث اكد المخرج حضورها بأن حاول ان يؤنسنها  في شخوص افتراضية, تعامل معها خلال العرض الذي وصفه المخرج في كلمته (فلانه … انها عذابات اناثنا في عالمنا الذكوري بامتياز ) بقصدية التـأكيد على عمومية الازمة النسوية وقهرها الازلي بما لا يمكن الا ان يكون سببا لمنجز ينتمي الى الانساق الثقافية القابلة للمعالجة جماليا وفكريا , فكان قوام ذلك , الايغال في تعميق فكرة العمومي اللامحدد ,وفي تعميق ثنائيات التضاد في مقابل ..( ذكر _ انثى) وتعارضاتها (رجولة _ نكوص) في مقابل ( انوثه _ خذلان ) (رقة انثى _ قهر واستلاب ) … وكلها تفضي الى الخذلان وغياب الامل ليعبر عنه وبتشتيت العلاقة بين الموجودات  , وتوظيف مفردات هي الاخرى معومه في (اللامكان) (طبل _ سجادات صلاة) صلوات تتشطى قبلتها في تعددية اتجاهتها _ وشخوص لا علاقة لا احد بأحد حتى في توجهاتهم .(مايكروفونات) وكل يبث وجعه الداخلي بصوت الداخل كفعل اشهاري قصدي, اذ وضع المخرج مفرداته وتعامل معها بقصدية واعية من شأنها ان تثير شهية المتلقي في السياحة عبر محمولات هذا الخطاب الجمالي وبالتالي اعادة رصفها انتاجيا ,بمعنى ربما مغاير, ولكنه اكيد ينسجم مع معطيات لفرضية مجاورة او مغايرة تتشكل من خلالها (سنن) اخرى توظف ذات المعطيات هي (سنن المضمر )

فبرغم جريان العرض بألاتجاه (السايكودرامي) في محنة (الانثى) المحاصرة بين اضطهاد القيود الاجتماعية والاعراف الضاغطة وامتهانها ,لانها غير ولادة للذكر, وبين محنة (الذكر) ,وعجزه الجنسي وما تركه فيه من اثار نفسية وعدوانية جراء ما واجهه من حروب وضغوط يومية وفقر وعوامل بايولوجية اخرى , فكان هناك ثمة هوامش تغذي وتتغذى على المعطيات الدلالية التي افضى اليها العرض بحيث تشكلت في نسق تستشعره رغم انه مضمر, الا انه ظل بأعتباره نسقا ثقافيا مرجئاً , تبدو تمثلاته في ملامح حياتنا اليومية وما يمر به الانسان في مجتمعاتنا اليوم من نكوص وغياب للامل والانكسار والخذلان ,في ظل تبادل الادوار والعتمة التي تلف افق حياتنا  , وربما هذا النسق لم يكن هامشا وحسب, انما هو مركز مرجأ يظل عالقا في ذاكرة المتلقي منتظراً ما ستؤول اليه الاحداث باعتبار ان كل هامش هو مركز مؤجل ويصبح مركزا اذا ما اتيحت له الظروف المواتية .

فاحداث العرض تمسكت بالحدود الملمحية لمسرح محرض ,وظل من دونما تصريح, اذ ظل هلاميا متوجسا في التصدي بحدود العلاقة بين الانوثة المقهورة والعالم الذكوري المخذول وهو في اسوء صور ( الذكر ) بانهياره وتخليه عن بطولاته السالفة , وهذه الطبقة من العرض هي ايضاً  تدعو للتاويل, ولا ادعي ان هذه المشكلة لا تستحق ان تاخذ الصدارة في المستوى القرائي الاول ,ولكن رغم وقوعها في طبقات العرض الظاهرة الا انها لا تنطوي على البعد الدلالي الاعمق في اللاوعي الجمعي لقربها من سطح الواقع على حد (كاسيرر), في حين تنبئ البنية العميقة للعرض بعمق مستبطن يكمن فيها هو ذلك الذي يتجلى للقراءة التاويلية عن الهم الانساني الجمعي, اذا ما تم الحفر في طبقات هذا الخطاب  نصاً وعرضاً, ليفصح عن محمولات اكثر عمقا مما ظهر في النسق المشار اليه وضوحا والذي اذا ما حاولنا ارجاءه مؤقتا لرشحت في افق التوقع فكرة عمومية مجاورةً بكامل انضباطها الدلالي ويمكن للمؤول ان يشم رائحة اضمارها , فالخذلان وغياب الامل الذي تمر به حياتنا, هو ذلك العقم الاكبر والتراجع الذي اصاب فحولة الاقدام على التغيير والارتقاء بالحياة مع ما يواجهه الانسان من ضغوطات اجتماعية وسياسية واشكال الاستلاب والعقم السياسي الذي يظغط بتضاعيفه على انسانية الانسان ويجردها من قدراتها التوليدية,  كما النهاية التى  ختم بها العرض احداثه ,اذ  رغم كل الادعية والصلوات ,والسعي الحثيث لم تسعفه لا غيبيات , ولا حتى اعمال السحره , انه الموت والاضمحلال على قيد الوجود.

مقاربة العرض

جاء فتح الستار في بداية العرض بمثابة كشف عن هذا العالم السري المضمر والمغيب بدخان الهواجس وسياط الوجع النفسي الذي تمخضت عنه تلك الهمهمات التي تريد ان تتشكل في عبارة هي الواقع, عبر توظيف (المايكورفونات) كفعل قصدي في مقابل سرانية الازمة والاحساس بها ,والشعور بالانتكاس الذي لم تستطع الشخوص الافصاح عنه الا بكلمات مجتزئة لم تتضح ابعادها الا مع سريان العرض , حيث ينتظم البث العلامي في انساق تتراوح بين ايقونية المعلن وسرية المخفي _ الداخلي , ليفضي العرض عند المتلقي الى ثنائية كبرى , هي ثنائية العرض بواقعيته المرمزه وبين الواقع بوقائعه الموجعه ثم يغلق الستار على تلك الوقائع دون ان تفضي هذه الثنائية الى الاعلان عن تعارضها واحتجاجها اذا ما افترضنا ان مجرد فكرة الانتحار هي محظ احتجاج بائس وبات تقليديا لو نظرنا اليه على انه قرار ارادة انسانية مهزومة على الرغم ان فكرة الانتحار من جانب اخر, كانت يوما ما اشعالاً لفتيل متغيرات كبرى في حياة بعض الشعوب .

 

 

 

مقاربة التمثيل والاخراج

لان المخرج (عوده) كان على اتصال بالنظم الفكرية والدلالية لنص (هوشنك) فقد ابدى انحيازا واضحا لمعطيات النص مشتغلا عليها بتمفصلات وبملاحقة حركية وبصرية لتغطية فضاءات النص بالمعالجة البصرية و الايقاعية التي يمكن ان تضمن سلامة وصول روح العرض للمتلقي , لذا فهو يضع اعتبارا للنظم العلامية بتداوليتها وبدلالاتها وبتركيبيتها لتحقيق اكبر قدر من فضاءات النص , بوصفه ملفوظا يحقق تمثلات الفكر

لذا فقد انفتح خطاب التمثيل باتجاه نمط ينسجم وطبيعة هذه الازمة ( السوسيوثقافيه) و (السايكودراميه) في ان معا , بالاشتغال على الاحساس وعلى البصري في التعبير المدعم بالمسموع . وهذه فضلا عن انها مهمات اخراجية الا انها استدعت معالجات شخصية من الممثل لبناء الفضاءات الداخلية, كي تحقق تناغما بين الجو النفسي للعرض وبين الطبيعة الادائية للمثل , وهذا يستدعى طبعا استثمار عامل الخبرة في الاداء , لذا فقد جاء اختيار الممثلين موفقا من حيث تمتعهم بالخبرة وقدرتهم على تبني حالاتهم الادائية بمطواعية وباحساس جواني صادق , بما يتلائم وطبيعة العرض ومعالجته , وهكذا جاء اختياره (الاء نجم ) (البنت) التي عودتنا على تلقائية احساسها الداخلي , و (بشرى اسماعيل) التي اكتسبت بحضورها الخبروي الدائم مساحة راسخة في التعبير وهي تستند الى ارث من النجاحات في ادوارها التي كللتها بهذا العرض بدور (الام) كما استفاد المخرج من حضور وظل (باسل شبيب) بدور (الاب) الذي بدى منتمياً ومتسقاً مع ملامح الشخصية وصوتها واحساسها , بوصفها شخصية محورية , ونشيد بدور (عمر ضياء الدين ) لحضوره الصامت وهو ميزةً تحتسب له , فضلا عن توظيفه لخبرته الموسيقية في المساهمة بضبط ايقاع الاحداث التي جعل منها (حاتم عوده) نغمة مؤتلفة بالبساطة والارسال . واخيرا هناك المشاركة الطيبة  ل(نريمان القيسي ) في حضور تناوبت فيه مع الشخصيات الاخرى بشكل فاعل في تبادل الادوار , والمساعدة في ابراز تضاعيف الازمة الاشكالية التي عرضها النص بجهود فريق محترف من ممثلين وتقنيين حيث ينفرد المصمم المميز في عروض المسرح العراقي (علي السوداني) في خلق اضاءة تساوقت مع العرض وقدمت اجواء الازمة الروحية من الداخل والجو النفسي لعموم العرض بمساقط ضوئية عميقة الدلالات فيما شكلته من لوحة جمالية … واخيرا شكرا (هوشنك) مؤلفا لانك وضعت بايدينا نصا مجتمعيا واقعيا في بنيته غني بمحمولاته … وشكرا (حاتم عوده) مخرجا لكل نواياك الجمالية والفكرية في هذا العرض .

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *