مسرحية «خرافة» لأيمن النخيلي ضمن مهرجان المسرح العربي في الدورة الثانية عشرة: «الدنيا خرافة، كذبة سيناريو مكتوب بالصدفة» / مفيدة خليل

كيف يعيش الأموات؟ كيف هي الحياة داخل القبر؟ هل الموتى سعداء بمتر التراب ذاك؟ هل لهم قانونهم الذي ينظم عيشهم أثناء فترة انتظار الحساب؟

هل الموتى يحتفلون بالقادم الجديد؟ هل يريد الميت بعد دخوله للقبر مغادرة الظلام والعودة إلى الدنيا والحياة؟ كيف يفكر الميت؟ هل للميت عقل ليفكر به وقد تركه في الدنيا بعد ان توقفت أعضاؤه عن العمل؟ أسئلة وجودية وحيرة وقلق وحده المسرح قادر على معالجته وإلى عالم الأموات تكون رحلة مسرحية «خرافة» عن نص اصلي للكاتب العراقي علي عبد النبي الزيدي واشتغل على إعادة كتابتها مسرحيا رضوان عويساوي.

«خرافة» مسرحية من إخراج ايمن النخيلي وتمثيل كل من أسامة كشكار وجوهر الحسناوي وفاتن الشوايبي واميمة المحرزي ورضوان عويساوي وخالد ناصف ومكرم الغزي وسينوغرافيا لامين النخيلي ودراماتورجيا رضوان عويساوي موسيقى لرياض ساسي وإضاءة يوسف بوعجاجة والمسرحية رحلة في زمن مجهول ومكان مجهول هو عالم الأموات وتنافس المسرحية التي عرضت مساء الأحد 12جانفي على جائزة الشيخ سلطان بن محمد القاسمي.

السينوغرافيا تحاكي عالم الموت
صوت يشبه النواح يرتفع تدريجيا، يزداد الصوت ومعه نشيد الموت حتى يكاد يصمّ الآذان كلما ارتفعت الموسيقى يشعر المتفرج انّه جزء من الحكاية كان الموت يحاصره ورائحته تفوح من مكان ما، يشتعل الضوء اصفر باهتا كأنه نور فانوس صغير في مكان شديد الظلمة، الضوء يقسم الركح إلى ثلاثة أجزاء، مربعين ومستطيل وبينهما ممرات، تخرج سبع شخصيات، شخصيتان نسائيتان وخمس شخصيات رجالية، جميعهم يلبسون الأبيض ووجوهم مطموسة الملامح باللون الأبيض،صوت صفارة إنذار يصدح في المكان، يليه صوت لسيارة الاسعاف، الحركات تكون سريعة ثمّ اكثر سرعة، كلما ازداد صوت الموسيقى بدأ الضوء في الانطفاء والاشتعال تتسارع حركات الأجساد الغائبة الملامح على الركح حتى تهدأ تدريجيا مع مشهد اجتماع خمسة أجساد حول جسد سادس يدورون حوله كأنهم يرحبون بزائر جديد.

الضوء في المسرحية عنوان للتحول في المكان والزمان، الضوء يكاد يصبح شخصية ثامنة في المسرحية، يوسف بوعجاجة أبدع في صناعة أمكنة العرض المتخيلة إلى درجة ظهرت فيها كأنها حقيقية وتشعر المتفرج انه يتجول في المقبرة.

فالضوء يحدد تفاصيل المقبرة ويحدّد القبور وطولها وعرضها، الاروقة التي تتحرك فيها الشخصيات بين عالمي الحياة والموت جميعها تُصنع بالضوء قبل ان تجتمع الشخصيات لتقرأ دستور المقبرة وقوانينها «فالبند الأول يقول انّ الجبانة (المقبرة) دولة ديمقراطية، الموتى سكانها والهدوء لغتها والقبور نظامها» أمّا البند الثاني فيقول ان «لكل الموتى الحق في السكن» ويخبرنا الثالث أن «الكفن هو الزيّ الرسمي لكل مواطني الجبانة» حينها يقترب الضوء أكثر من اللباس الأبيض لتتضح تفاصيله أكثر فيكون «لونه ابيض، خيوطه بيضاء تتوسطها دوائر بيضا» كما تضمن «الجبانة لكل مواطينها التوزيع العادل للدود» في بندها الرابع ومع هذه الجملة تتسارع حركات الاجساد في الرواق الآخر، تعلو الحشرجات كأنها تعبيرة عن موت لا يموت.

حين يفضل الميت ظلمة القبر على الدنيا
«خرافة» مسرحية تدور في عالم مجهول، عالم لا نعرف تفاصيله او محدداته، في ذلك المكان غير المعلوم وفي زمان مجهول يحدث الصراع الذي تجسده الشخصيات، صراع بين الموتى والاحياء، صراع تخوضه شخصية واحدة ضدّ بقية الشخصيات، صراع يدخله «ناجح ولد خضرة» ضدّ «ملاك الموت» و«زوجته» و»شخص آخر يحمل نفس الاسم» وصاحب «ملكية القبر».

يبدأ الصراع حين يزور ملاكان قبر «ناجح ولد خضراء» كلاهما يلبس الابيض مع إضافة شال وقفازات باللونين الأسود والأحمر في الرقبة وكلا اللونين يرمزان إلى الشيطان في المخيلة العربية، ملاك الموت أو «قباض الأرواح» جسّده كل من «اميمة المحرزي ورضوان عويساوي شخصان يتحدثان وينصهران ليصبحا شخصية واحدة يأتي الى ناجح راجيا إياه العودة إلى الدنيا «ناجح ولد خضرة اسمك غير موجود في قائمة الشهداء، حدث خطأ وتشابه في الأسماء فقبضنا روحك عوض روح رجل آخر، تشابه في الأسماء وخطأ نريد إصلاحه فقط غلطة مطبعية في دفاتر الموت» حينها ينتفض الميت ويقول « مت شهيدا، ظننت أن قبري سيكون روضة من رياض الجنة، استشهدت في حرب لا أعي تفاصيلها، اخبروني أن أخوض الحرب واستشهد لأجل وطني وكرامة ابنائي، فلم انل لا الشهادة ولا كرامة ابنائي».

تتحول وضعية الشخصية الناجح من التمدد إلى الجلوس في وضعية القرفصاء حينها ياتيه مالك القبر هو ايضا يلبس الابيض مع «كرافات» سوداء اللون يطلب منه العودة الى الدنيا وترك القبر فارغا «ّاملك شهادة ملكية القبر، اوراقي قانوني وشهائدي أيضا»، ليضيف وهو يجلس على كرسي متحرك تتسارع حركات عجلاته كما الصراع « اريد قبري، ارضي ترابي، موتي قريب هل يرضيك وانت شهيد ان تدفن في ارض ليست ملكك؟».

تتغير حدة الصوت، تعلو موسيقى النواح من جديد، شخصية أخرى تزور الناجح هو «الناجح ولد خضرة» حامل الاسم نفسه، سكير، عربيد كان سيكون شهيدا والرصاصة ستخترق قلبه لو لم يخطئ ملاك الموت، الناجح الحي يرجو من الناجح الميت ان يعود الى الدنيا ويترك له مكانه لانه يريد الشهادة للتكفير عن ذنوب الدنيا، يريد قصرا في الجنة وحوريات جميلات، يريد ميتة الشهداء لا ميتة عادية يحاسبه بعدها منكر ونكير اشد حساب؟، الناجح الحي يتوعد الناجح الميت مرة ويرجوه مرات لتكون الإجابة النهائية «قباض الارواح غلط شنوة ذنبي؟.

الشخصية الرابعة تكون الزوجة، بفردة واحدة من كعب عال احمر اللون يرمزون الى الزوجة، الفردة الوحيدة للدلالة على عدم الاتزان والخلل ربما في علاقتها بناجح او مؤسسة الزواج التي جمعتهما، الترميز في تفاصيل الديكور وملابس الشخصيات كان وسيلة أيضا للدلالة على ضبابية عالم الأموات، الزوجة هي الأخرى تريده أن يعود إلى الدنيا، ترجوه باسم الحب والزواج والأبناء.

تتحرك الشخصيات جميعها بسرعة، تخوض جميعها الصراع مع الميت في قبره، ذلك الذي أعجب بقانون «الجبانة» وفضّله على قانون الدنيا، ليجيب بعد الصراعات « مانيش راجع لدنيتكم، استانست بالظلام» فالميت-الحي اختار الظلمة على النور لان ظلمة الموت أكثر وضوحا من نور الحياة مرددا «ناجح ولد خضرة كن قويا لا تدع الاحياء يغرونك بالحياة مرة أخرى» شخصية اتقن تفاصيلها وتفنن في تقديمها الممثل اسامة كشكار.

أوطاننا اشد ضيقا من القبور
«خرافة»، نص عراقي الكتابة تونسي الهوى والإخراج عربي الانتماء، فالعراق هي تونس ولبيا ومصر والجزائر وكل ارض عربية يشعر داخلها المواطن انه مجرد رقم في السجلات المدنية، النص يرشح وجعا، كذلك الأداء، خرافة ليست قصة الناجح ولد خضرة وحده بل هي عينة عن ملايين «ناجح» في الدول العربية الذين يقتل أبناؤهم وهم على قيد الحياة تسرق أحلامهم وتدفعهم إلى حروب وثورات «مفبركة» لا يعرفون أصلها ولا نتيجتها، ومن خضم الحرب والصراع ولدت المسرحية ناقدة صارخة تكشف تشوّهات الوطن العربي.

الوطن في «خرافة» لم يشر اليه بالترميز وإنما كانت الكلمات واضحة وجلية، ناقدة وساخرة، فالميت اختار «القبر» على الدنيا لانّ «الدنيا خرافة، كذبة، سيناريو مكتوب بالصدفة» وهناك تحت الأرض في ذلك القبر الضيق يستمتع الميت بإنسانيته وحريته كما يقول الناجح « هنا لا تهمني انقطاعات التيار الكهربائي، لا أعير اهتماما لمعاليم الجولان، أرقص كل ليلة على موسيقى الهدوء، أحدّث نفسي عن شريط عمري، احكي لجدي الذي مات في الحرب الأولى عن ظلم الحرب الثانية ووجع الحرب الثالثة وقسوة الرابعة وهكذا نقضي الليل كله نتحدث عن حروب الوطن التي لا تنتهي».

بين النص الأصلي والمسرحية على الركح وجع مشترك، هاجس الموت الذي يعايشه المواطن العراقي هو نفسه هاجس الخوف الذي يعايشه التونسي وهاجس البحث عن الحرية الذي يشترك فيه كل المواطنين في الدول العربية فداخل القبر المظلم يمكن صناعة وطن مختلف، وطن كما يريده الميت-الحي «انا هنا اصنع وطنا كل يوم أطلق عليه اسما حلوا، هنا لست مجرد رقم في السجلات، انا هنا اصنع وطنا من ظلام».

«خرافة» مسرحية تونسية ناقدة وساخرة، عمل يغوص في عالم الأموات، يكشف عن قبح الأوطان وكذبة الحرية، عمل ينتصر للانسان وهو مسرحية عبثية ووجودية ترفض فكرة أن يكون المواطن مجرد رقم في السجلات وتدعو إلى تحرير العقول وثورة حقيقة يصنعها المواطن لا «الأنظمة»، ثورة تصنع أوطانا حرّة ملؤها النور لا الظلام.

المصدر / المغرب

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش