مسرحية “حيدر” صورة لعالم يحاكيه العرض فينا – محمد سيف/باريس

من مسرحية “حيدر” إخراج محمد شاهين

مسرحية “حيدر” صورة لعالم يحاكيه العرض فينا – محمد سيف/باريس

 لمسرح الصواري، للمخرج محمد شاهين

ماذا نخبئ وراء ستائرنا المغلقة، وأبوابنا الموصدة، ومصاريع نوافذنا، وتقاليدنا، وحشمتنا …  ازدواجية، عنف، غضب، استياء، كبت جنسي، بوح، إيحاء غير معلن ومسكوت عنه، اضطرابات نفسية، أقنعة مزيفة وحقيقية، انتقام، بؤس، ألم، ونسيان … كومة من المشاعر تعبرها وتعبر عنها مسرحية (حيدر) للكاتب البحريني (أمين صالح،) التي كتبها بنوع من الشعر المليء بالاستعارات والإحالات والغموض والالتباس، حول علاقات ومشاعر متداخلة، منفصلة، شيزوفرنية، ومزدحمة، داخل رأس شخصيته الرئيسية؛ التي كتبها على هيئة خيال معاش، تتقاطع فيه الأزمان والحقب لتاريخ إنسان ليس كبير في العمر وإنما في التجربة، تترد أصدائها بشكل متشظي في دراما نفسية يعاني منها الكثير من البشر، الذين يتم تجريدهم من إنسانيتهم بسببها شيئا فشيئا.

الديناميات الهيكلية المستخدمة في هذا النص، يمكن إدراكها من خلال معانات عدم استمرارية الكلام والأفعال، من كثرت تغيرها. من جهة، هناك مفارقة في آلية الكلام وديناميكيتها، التي تسعى نحو الماضي قدما من أجل الرجوع به إلى الوراء لكي يتقدم بالتالي إلى الأمام. وهذا ما يحول الكلام إلى فعل. فنحن نعيش الأحداث، في هذا النص، من خلال رأس ونفسية (حيدر) المضطربة، المتوترة، التي يتداخل فيها، الحاضر والماضي والمستقبل مع تراكم التجارب، بحيث يصبح معنى الزمن فيها ذاتي قبل كل شيء!

أما بالنسبة للفعل، فيتحول من جانبه، إلى حدث من تلقاء نفسه، ليس من خلال الأحداث الكبيرة، وإنما على العكس، من خلال الإجراءات الصغيرة التي تحدث شيئا فشيئا مع الزمن، والكلام، الذي يتكر، ويتوقف ليبدأ من جديد وهلم جرا. وهذا ما يسمح لإخراج تفاصيل الحدث نفسه، كعمل كامل على الرغم من بعدها اليومي، وبالتالي، تصبح نوعا من الأحداث المجهرية، تعمل كمجموعة من العناصر المختلفة التي تشكل جسدا واحدا. وهذا ما يمكن ان نلمسه، مثلا، من خلال الشروحات التي يعطيها المؤلف في نصه:

مرددا هذه الكلمات على نحو إيقاعي رتيب، تاركا بين الجملة والأخرى فترات صمت قصيرة، يشهق خلالها أو يهمهم، أو يصمت سارحا..
حيدر يتوقف بدوره، لا يعود يشعر بخوف لكنه لا يستطيع ان يمنع نفسه من الشعور بان ثمة ما يهدده في حضور الطبيب.
حيدر يدنو من السرير على مهل. يمد يده. وما ان تلمس راحته السرير حتى يسحب يده متأوها من الألم..
فجأة تمسك المرأة برسغه بقوة دون أن تنظر إليه فيشهق خائفا.. يحاول ان يتخلص من المسكة لكنه لا يستطيع..

من مسرحية “حيدر”

هذا التركيز على الحركات والحالات العصبية التي لا يمكن السيطرة عليها، والصمت الذي يملئ ما قبل الكلمات وبعدها، وبين بعض الجمل عندما تقوم الشخصية الرئيسية بروي حدثا ما، يعزز التعبير عن المشاعر التي يمكن ان تعني الخوف والقلق وذكرى الحقائق. وإن التركيز على راحة اليد التي تلمس السرير، وتردد الكلمات على نحو إيقاعي رتيب، ومسك رسغه بقوة من قبل المرأة، وفترات الصمت القصيرة بين الجمل، التي يرافقها الشهيق أو الهمهمة، يُظهر العلاقة الحميمية للحقائق، ويجعل الذكريات التي تعبر الزمكان حية، لأن سرد الحقائق أثناء التركيز على هذه الحركات، يسمح، بالحفاظ على وحدة العمل، بفضل الانفصال بين الكلام والحركة وما يرافقهما من وصف وتعليق.

نلاحظ، في هذا العمل، إن سرد الحقائق سواء المتخيلة أو المعاشة، تنجز من خلال التشظي، وقد وضعت في اضطراب زمني، ولكنها شيئا فشيئا تتضح، على الأقل فيما يتعلق بأجزاء معينة من القصة، وهذا يعني أن تقسم الحكاية إلى أجزاء، تشكل قلب العرض المسرحي، وقد صممت لاستكماله على أفضل نحو ممكن، على الرغم من وجود ثغرات يمكن أن تبقى في الانتقال من مقطع لأخر، كما يحدث في تاريخ الإنسان نفسه، لا سيما نحن نحضر في هذا النص/العرض، عالم عاصف بالكوابيس، يعج بأشخاص وصور وخيالات مخيفة تعشعش بنوع من الفوضى في رأس (حيدر) ونحن بانتظار الصدمة، أو بالأحرى الصدمات الكهربائية المتلاحقة، مثل تلك التي يتلقاها (حيدر) في منفاه الطبي، إن صح التعبير، حيث الطبيب يصبح أبا، وبالعكس، والأم تصبح كل النساء التي يتمنى (حيدر) ان يصادفهن في حياته، أو يتمنى لو يعود إلى رحمها من جديد، والجدة، ملاذ لا بد منه بعد موت الأم وتخلي الأب عنه، وعندما تموت هذه الأخيرة، تصبح العمة بديلا يقود إلى الغواية والتحرش الجنسي. وهناك أيضا، أصداء لأسئلة وجودية تتردد، تفرضها عبثية الحياة ولا معقوليتها:

هل هذا من الحمى يا جدتي.. أم انه الموت؟ كان سرير أمي يشتعل أيضا.. وكانت محمومة.. لماذا نموت يا جدتي.. ما معنى أن نعيش إذ؟!

 الأب، كان يرغب في قطع ثدي الأم الذي كان يرضع منه (حيدر)، عندما كان طفلا رضيعا، وعندما يسأله: لماذا لم تكن تحب أمي، يجيبه، بأنه لا يعرف أن يحب. والممرضة كائن خرافي له ذيل لا يراه سواه:

الممرضة مخيفة.. لها ذيل.. لو تنظر بتمعن أسفل ثوبها من الخلف، فسوف ترى ذيلا.

تتغذى على دماء المرضى الطازجة، التي تضعها في قوارير، لتشربها ليلا، ودهاليز المستشفى مكاننا يشبه إلى حد كبير غرف للتحقيق البوليسي والمراقبة الدائمة، البرتقالة أداة إخصاء، وسوف يتم التراشق بها عند اندلاع الحرب بدلا من القنابل، وإن آدم يتجول في دهاليز المستشفى ويلتهم كل من يصادفه، إنه يأكل حتى الحجارة.

لماذا تعتقد انك مستهدف؟
لا أنني أرى أشياء لا يراها غيري..
وماذا ترى؟
أرى الغرف تتداخل ببعضها، والأسرة تطفوا، والغيمة تدخل من النافذة، فلا يعود فاصل بين السماء والأرض، والبحر أيضا يدخل الغرفة.

الحبية مادة للالتهام وغرس الأظافر، لأن لديها جلد ناعم وطري، فتنعته بالجنون، والجارة مليحة الوجه، تصبح عجوز مفترسة، لم ينم بسببها يومين كاملين، ومدير المستشفى سلطة عليا، لا يمكن مخالفتها أو عصياناها.

نلاحظ، في هذه المسرحية، أن هناك جرارات مغلقة غير ملموسة، غير مرئية؛ جرارات من الذاكرة، تفتح شيئا فشيئا، فتلقي بنا مباشرة في عوالم شخصية (حيدر) المضطربة نفسيا، بسبب الأخرين الذين يصبحون بالنسبة له جحيما داخلي وخارجي، يذكرنا بجحيم سارتر؛ عوالم رمزية وتوليفيه غالب ما يعبر عنها (حيدر) من خلال كوابيس وتهيأت، تقض مضجعه، لا يستطيع التخلص منها، تطارده باستمرار، يحملها معه في هذا المكان (الزريبة السجن) على حد قوله، مثل صخرة سيزف يحملها في رأسه، وليس فقط على ظهره، تجعله يرى ماضي حياته وحاضرها على هيئة أحلام ورؤى تكاد ان تكون سريالية، لا يراها إلا سواه؛ تعزله عن العالم الخارجي، الذي لم يعد يعرف كيف هو الآن؛ تعزز صراعاته الوجودي ليس فقط مع أفراد أسرته، ولكن أيضا مع الهياكل الاجتماعية الأخرى، والسياسية أيضا، فتعرضه للتحقيق والاستجواب البوليسي، فقط لأنه كتب مقالا عن المحرمات، فسنوات الماضي، ليس بحمل ميت يحمله على أكتافه عبثا، وإنما حضور دائم يتلاعب بكل كيانه:

ولكن الجميع اضطهدني بسبب المقالة.. نصفهم اعتبرني مجرما وطالب برأسي، والنصف الآخر وصفني بالجنون وطالب بقذفي في النفايات خارج المجتمع، بكيت، توسلت.. أقسمت أنني لم أكن أعني ما أقول، وإنني نادم على ذلك.

إن المؤلف أمين صالح، من خلال تنقلات شخصيته الرئيسة بين جرارات ذاكرته المعطوبة، قد جرد شخصية (حيدر) من حدود الزمان التقليدية، ونراه يخرجه أيضا من حدود المكان أيضا. بحيث باتت اللحظة أو اللحظات، هي كل شيء، وكأننا في مسرح العبث، الزمن فيه لا يترتب بشكل منتظم، والزمن النفسي يرتبط بالمكان النفسي، والظروف المادية للمكان الذي رسمها المؤلف في نصه، وعززها المخرج (محمد شاهين) في عرضه قد ألغت القوانين المكانية للمسرح وأخضعته لقوانين مقيدة، ومفتوحة، في آن واحد، إنهما، المؤلف والمخرج، قد حطما الشخصية التقليدية، القائمة على الاستمرار النفسي والتوالي، الذي يتأسس على الزمان، وما داما قد خرجا عن مفهوم الاتصال المتتالي، فقد خرجا “بالشخصية” عن فكرة الذات المتصلة المستمرة في الظروف والظاهر والأحداث، وتشتت شعورها الذاتي، ولم يعد في ديمومة، وهكذا أصبحت حياة شخصية (حيدر)، عبارة عن سلسلة متقطعة من الحالات الوجودية الدائمة التغير، لا تربطها سوى الملابسات المخلخلة. وهذا ما نراه، ليس فقط من خلال شخصية (حيدر) فقط، وإنما من خلال طريقة تنقلات الشخصيات الأخرى أيضا، ومن خلال التواصل فيما بينها. لأن المكان الذي رسمته سينوغرافيا (علي حسين مرزا)، مغلقا، ضيقا، مليء بالأشياء. وقد تم تقسيمه، بطريقة منحت كل شخصية من شخصياته مساحة صغيرة من الحركة، وكأنها داخل مركبة فضائية، أو منطقة محضورة.

الفضاء اللعبي مقلص، مليء بخليط من الأشياء، طاولة مستطيلة في وسط يسار المسرح، شراشف بيضاء، طشت غسيل، كرسيين في وسط يمين المسرح. يحيط خشبة المسرح من الخلف واليمين واليسار، قضبان ضوئية بيضاء (فلورسنت)، وضعت بشكل غير منظم ومنسجم، على هيئة قوس شبه دائري، تمثل واجهته فوهة المسرح، حيث يجلس الجمهور، أضلاعه الجانبية تحدد مساحة المسرح من اليمن واليسار، وهكذا، حصرت السينوغرافيا مساحة اللعب من جميع الجهات، بخلقها هذا القوس من الأضواء. هذا بالإضافة إلى قطعة القماش الخلفية، الممزقة الكبيرة والعالية، التي تتخللاها إضاءة تمثل الفجوات التي تخترق رأس (حيدر)، المنعكسة على فضاء اللعب، المحاصر من جهة أسفل يسار المسرح، من قبل عازف التشيلو (حامد سيف)، ومن جهة أسفل يمينه، بالحضور الشعري لـ (جمانة القصاب). وهكذا تكاثرت الأشياء المادية وتكاتفت مع بعضها البعض إلى الحد الذي ضاقت به خشبة المسرح بقاطنيها. ومع ذلك، كانت السينوغرافيا، متوهجة، ومثير للاهتمام للغاية، وسمحت بعزل بعض الممثلين عندما كان يقتضي الأمر عزلهم، لتوفير مساحة أكبر بكثير من المساحة التي نجد انفسنا أمامها، بحيث لم نشعر ولا لحظة واحدة بأن المشاهد المختلفة والمتنوعة كانت متراكبه، أو تضايق واحدتهم الأخرى، لا سيما أن الإخراج قد نظم كل شيء وفقا لقوانين المسرحة المدروسة بعناية فائقة. وأظهر بسهولة أنشطة كل مشهد على حده، دون أن يؤثر عليه أو يقلقه وجود الممثلين الأخرين الذين لا يتفاعلون مع بعضهم البعض في هذه اللحظة أو تلك.

كان إخراج (محمد شاهين) رائعا. وقد اعطى هذا الأخير، الكثير من الديناميكية للنص، بخلقه مساحات من التفاعل التي جعلت الممثلين يتعالقون مع أدوارهم المختلفة أكثر فأكثر. فالمشاهد الكابوسية، والتهيأت، وغطرسة الأب التي كان يعاني منها (حيدر)، ومشاهد الطبيب معه واستجواباته المتلاحقة، وموت الجدة، وتصرفات العمة وغوايتها له، وغسلها له في طشت الماء، وحركت يديها على جسده، ونظراتها التي لا تخفي رغبة واشتهاء مكبوت، ونزول الحليب وهو يقطر على جسده، ومشهد البرتقالة وإيحاءاته لعملية الإخصاء، ومشهد الاستمناء وخوفه المستمر من الممرضة، وسلطة مدير المستشفى وإلى أخره من المشاهد، كانت كلها جميلة، ومتسقة ومؤلفة في ذات الوقت، لفكر النص وأحداثه ولحظات العرض، بل أضافت شعرية إلى الشعرية الموجودة في النص نفسه مسبقا.

وانطلاقا من تقسيم الفضاء، صارت الشروط الإخراجية هي التي تحدد التعايش بين الشخصيات؛ وتبني العلاقات العائلية التي تجلت فيها الكراهية، الانتقام، التوبيخ، الخداع والقمع، فضلا عن إعادة بناء الفضاء الاجتماعي الحالي في العالم الخارجي. إنها خلقت قواعد التعايش والتسلسل الهرمي للنظام الاجتماعي والإداري، في المكان الذي توجد فيه الشخصيات. فالتناقضات، في هذه المسرحية، متعددة. والفضاء الدرامي والوقت يدخلان في لعبة تلاعب بشري قادرة على تحويل أي اتفاقية. لا سيما ان القصة، المكان، والزمان نفسهم، يعانون من التحولات من وجهة نظر الاتفاقيات التقليدية.

من مسرحية “حيدر”

كل شيء لغز حتى الآن. لكننا، سنرى، فيما يلي من الأحداث، ان هذ اللغز سيتحول إلى نوع من الوضوح غير المرئي، المقتضب، والمقدس، الذي لا يمنح نفسه بسهولة. وذلك، من خلال الطريقة التي تتصرف بها شخصية حيدر أو الشخصيات المختلفة التي لعبها الممثلون (عبد لله السعداوي، لعب شخصية الطبيب، الأب، ومدير المستشفى، إيمان قمبر، لعبت شخصية الممرضة، الجدة، والعمة والحبيبة). بالإضافة إلى اللعب الموسيقي والشعري اللذان رافقا العمل منذ البداية حتى النهاية. كان جميع الأشخاص يتصرفون داخل امكنه وفضاءات مسرحية مختلفة حددها لهم الإخراج، بطريقة تفتح العين على أحداث مجازية: بيت الجدة، بيت العمة، المستشفى، مكان عام. حواراتهم تقع، تارة، في الخارج، وتارة أخرى، داخل لعب مزدوج للشخصيات معنا. تخاطبنا كقراء متفرجين متواطئين معهم، لعدم كسرنا للحيلة المسرحية. الحوار، الحركات، الإيماءات، الأداء، السينوغرافيا، الإضاءة، الموسيقى، والألقاء الشعري، مواد تستخدم كوسيط بيننا وبين الخشبة، لبناء صورة عن العالم الذي يحاكيه العرض فينا، كما لو كنا جزء من اللعبة المسرحية المقترحة. فهي تعبر المسرح وتخاطب الجمهور، في نفس الوقت، كشريك وليس مجرد متفرج جاء لكي يشاهد عرضا مسرحيا.

لقد أعاد المخرج بناء حكاية هذه المسرحية وسط اضطراب زمني تقاطع فيها الحاضر بالماضي، والداخل بالخارج أيضا. خاصة، عندما أضاف شخصية (جمانة القصاب)، وجعل العرض يبدأ بالصوت الداخلي لشخصية (حيدر)، الذي سرعان ما يلتحق به هذا الأخير، مكملا له من خلال أدائه المسرحي. وقد ظل هذا الصوت الداخلي ملازما له من بداية العمل حتى آخر مشهد فيه، يتقاطع مع لحظات ماضيه وحاضره، قبل ظهوره على الخشية، وبعده، وأثناء مواجعه الأكثر عتمة وألما، مثل أنيس وحيد وحميم ومخلص لعذاباته، وكعنصر يفكك غموض التباساته. ولكن هذا التقاطع وصل لنا أيضا، على هيئة مقاطع، ودقائق تمتد وتنتشر في حلقات من حياة (حيدر). وهكذا، نجد انفسنا من جديد أمام رؤية لتاريخ شخصية مصنوعة من التشظي. وبموجب هذه المعادلة المسرحية، يمكن اعتبار هذا النص/العرض كنوع من تقديم المأساة المعاصرة، التي يواجه فيها بطلها بهشاشته عزلته وكوابيسها، وتضعه في خضم هائل ومنيع لعالم، لا يمكن الوصل والتواصل معه بمفرده. وهذا هو الموقف الحديث للمأساة المعاصرة، الذي غالبا ما يتجلى من خلال الضعف والوهن أمام عالم لم يعد جديرا بتذكر ناسه، مثل البطل الكلاسيكي، بل على العكس ينساهم أو يتناساهم أو بالأحرى يهملهم. ويكتمل هذا الموقف من خلال فعل المواجهة، وطبيعة البطل نفسها، لكي يشكل، بالتالي، هيكلا جديدا لعرض حالات من الكتابة الدرامية والركحية المعاصرة. لأن العرض يبدأ بظهور (حيدر) بعد تدهور حالته النفسية مباشرة، لكي يكشف، عن أشكالا عديدة من المأسي التي عاشها، قبل وبعد اضطراباته النفسية، التي تسببت في حالته المرضية الحالية، وانفصاله عن العالم، وبالعكس. وهكذا تصبح الشخصية أمامنا ليس كائنا حيا بكامل قواها العقلية، وإنما مثل شبح يجتر ذكريات عذاباته بشكل يدعو للرثاء والشفقة. وهذا ما عززه المخرج منذ البداية، عندما جعل (حيدر) ممدا على المسرح وهو يلتحف غطاء ابيض، يشبه إلى حد كبير، ملابس سكان المصحات العقلية.

لقد كان عنف المشاعر مزمجرا، موسيقى آلة التشيلو يتردد صداها، بشكل مؤثر، نعم، مؤثر مثل طعنات حادة ومؤلمة. اللعب في شخصية (حيدر) مرّ عبر قنوات عدة، فتحول إلى توسل استعطاف، تنافس، تمني، وصراع قاتل، مع النفس، أولا، ومن ثم مع الأخرين، وبالعكس، صراع مع مشاعره التي لم يستطع كبتها، وأمنياته التي لم تتحقق، وخيباته التي توالت، فأحدثت جروحا في نفسه وجسده، لا تندمل. ولكن/ على الرغم من مأساويتها كانت جميلة وفاتنة، في ذات الوقت. كلماته، ألمه، وصدى شغفه انتشر في الصالة، بشكل ملفت لم يدع أحدا يقف أمامها بلامبالاة، لا سيما أن أداء ( صالح الخير) كان مذهلا حقا، أصابنا بالقشعريرة، جعلنا نعيش معه كل التفاصيل التي كانت تعاني منها شخصيته، وكان من المؤسف حقا، انه لم ينل جائزة أفضل ممثل دور رئيسي، عن أدائه لهذه الشخصية المعقدة، والتي أداها بصرامة دقيقيه، وبراعة نادرة، ولكن ماذا نفعل أمام لجنة التحكيم واختلافاتها المعرفية وذائقتها الجمالية، وجهل بعض أفرادها لعلم العرض المسرحي، علما كنت أحد أعضائها؛ إن (صالح الخير)، لم يطرق أبواب التمثيل السهل، ولم يلجأ إلى الكليشيهات المعتادة لأداء مثل هذا النوع من الشخصيات المضطربة نفسيا، كان يمثل بعلم وحرفية عالية، كان يتحرك كما لو أنه يرقص، ويلقي حواراته بطريقة طبيعية مخيفة، جعلت الحضور متوثبا، مشدوها، ومشدودا لكل نفس من أنفاسه، ولكل شهقة، وتأوه، ومعاناة.

 كان الجسم والقلب في العرض يسيطران على الإدراك، الحكمة، الدراية، العلة، الصواب، الدوافع، والعقل. وقد عزز الإخراج ذلك تماما، من خلال اشتغاله على الجسد، والإلقاء، وملء الفضاء المسرحي بالأحاسيس والمشاعر الصادقة التي كان يطالب الممثلين بها، كما في المشهد المثير الذي يدور بين حيدر والطبيب (عبد الله السعداوي) فوق الطاولة التي بمجرد ما يعتليها (حيدر)، تشتعل الإضاءة فيها وتصبح مكان للفحص والعلاج، ومشهد موت (الأم) المؤثر والطريقة التي يحملها على ظهر، وهو في طريقه إلى بيت (جدته) التي لم يجدها، لأنها كانت برفقة الموت، فيضع الجثة على الأرض، لكي يشير المخرج إلى موت الأثنين معا وبقائه وحيدا في هذا العالم، (فكل من يحبني ويهتم بي، يموت)، وهذا ما جسده المخرج (محمد شاهين)، أيضا من خلال ظل (حيدر) الوحيد، المنعكس على قطعة القماش الخلفية، ومشهد (عمته) وهي ترش على رأسه الحليب، أثناء إخباره لها، بان أباه أراد ان يقطع ثدي أمي فقط لأنني كنت أرضع منه، ومشهد الاستحمام وخلع ملابسه وجلوسه في طشت الغسيل، بطلب منها، وهي تفرك جسده، وتدلق الحليب عليه بدلا من الماء، كما لو إنها تمارس الجنس معه، وعندما تنتهي من نزوتها، وتسأله فيما إذا كان لايزال جائعا ويجيبها بالرفض، تزجره وتطالبه بالذهاب إلى النوم، وإلى أخره من المشاهد والحالات التي استطاع المخرج من خلالها ان يقدم عرضا متميزا، وجريئا، ومتماسكا جماليا وفكريا وفرجويا.

كان الممثلون مقنعين بشكل مثير، فإلى جانب أداء (صالح الخير) الرائع، كان هناك القدير والمتنسك الكبير (عبد الله السعداوي)، الذي كان ينتقل من دور الطبيب والأب ومدير المستشفى، بكل مرونة، وقسوة، وضمان، وصرامة ورباطة جأش، مع إلقاء وتحول من دور لدور بشكل سهل وهارموني بارع، وكذلك (إيمان قبمر)، التي كانت مثالية في تنقلاتها من دور لآخر، ترافقها جرأة لا حدور لها. بحيث إننا أمام هذه المشاعر الإنسانية المؤتلفة والمتنافرة في آن واحد، نسينا أننا في مسرح، وأمام ممثلين، وديكور، وموسيقى وإلقاء شعري مباشرة، وإضاءة سوف تشتعل بعض قليل لتعلن نهاية اللعبة، ولم نر جدارية من الشخصيات التي تتنازع مع الآخرين، وتقاتل ضد نفسها، وإنما فقط مجموعة من المشاعر القاسية، المنضبطة والمتسامية.

كلمة أخيرة

ولقد كان هناك النص أيضا، الدوار الحسي، والقاسي، وخلود كلماته، واستبصاره للمظاهر المزدوجة، لدرجة أن لدي رغبة واحدة فقط: قراءته مرة أخرى وأخرى وأخرى … إنه نص مروع في وضوحه وغير مرئيته في ذات الوقت، مروع في جماله وقسوته، ومروع في فرادة إخراجه، ومفاجئ حقيقة، وأتمنى ان يتم اكتشافه من قبل أولئك الذين لم يقرؤوه ويشاهدوه بعد، وأولئك الذين ربما، يستخفون بقوة وسلطة الكتابة والكلمات والمسرح، والذين ربما أيضا، في نهاية المطاف، هم الفائزون الوحيدون!

أفترض انه من الضروري التفكير في البعد السياسي البارز للنص أيضا، لكنني أخترت الاحتفاظ بالبعد الاجتماعي والنفسي له، وما يقوله في وعن عصرنا، وما يسمح لفهم الإنسان.

بالإضافة إلى ذلك، أود التأكيد على التمكن التام لعازف آلة التشيلو (حامد سيف) وتدخلاته وخلقه لنظام ايكولوجي صوتي، رافق العمل من البداية حتى النهاية، ودمج المخرج للموسيقى في عرضه كشخصية في حد ذاتها.

د.محمد سيف – باريس

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش