مسرحية “حليب يشبه السكّر” على رفوف الفقراء

جنى حسن 
 
ماذا يعني ألّا تملك فتيات مراهقات مقبلات على الحياة أحلاماً أفضل من أن يحملن وينجبن بناتاً، ستدور بهم الحياة يمضي الزمن ليملكن أحلاماً كأمّهاتهن وفرصاً شبه معدومة. انعدام الفرص هنا لا يأتي من الخارج أي فقط المحيط، بل من الداخل وهذا أسوأ، من انعدام جرأة تلك الفتيات على مجرد الحلم بالأفضل. الفشل قبل المحاولة وعدم الوصول إلى فكرة المحاولة حتّى لدى بنات في السادسة عشرة من العمر، تقريباً، يرسمن مصيراً قاتماً بأيديهنّ ويعلّلنه بأحلام وردية حول “حمامات أطفال” وإنجاب بنات سيحبونهن كما لم يحبّهن أحد.
 
هذا أساس حكايات آني وصديقاتها تاليشا ومارجي وكيرا اللواتي يتشاركن جميعاً الفقر والظروف السيئة وغياب العناية من الأهالي بهنّ. أمهاتهنّ غارقات في خيباتهنّ الخاصة والآباء غائبون والفتيات غارقات في هواتفهنّ المحمولة يبحثن ربما فقط عن القليل من الاهتمام.
 
 
حليب يشبه السكّر
 
 
الحكاية تدور أحداثها في العرض المسرحي “حليب شبه السكّر” الذي استمر على مدى ساعة و40 دقيقة من دون انقطاع، على خشبة مسرح “أطلس” في العاصمة الأميركية واشنطن. والمسرحية من تأليف الكاتبة المسرحية كريستين غرينيدج التي سبق أن حازت على جائزة “أوبي” للكتابة المسرحية عام 2012، وجائزة نقاد سان دييغو عام 2011، ومن إخراج جينيفر نيلسون.
 
الحليب الذي يشبه السكّر هنا هو الحليب المجفف “البودرة”، أي الذي يتم الحصول عليه من خلال تبخير الحليب ثم الحصول على الحليب، وهو مختلف عن الحليب البقري والحليب السائل، التي درجت العادة على شربه في أميركا، وهو أغلى ثمناً من حليب البودرة. وقد استخدمه مالك، شاب مراهق في المسرحية أثناء حديثه مع آني وهو يصف الظروف المعيشية السيئة التي تحيط بهم.
 
الطبقة المعنية بأحداث المسرحية هي الطبقة الفقيرة في الأحياء الداخلية للمدن الأميركية، والأشخاص هنا من الأفارقة الأميركيين تحديداً. في البداية، تبدو رغبة الفتيات اللواتي يدخلن المسرح وهنّ مبتهجات، يقهقهن ويتبادلن الدعابات، مسلية أو مضحكة. لكن وسط هذا الضحك كوميديا سوداء مظلمة ستترك الجمهور ليفكّر كثيراً بعد أن تخفت الأضواء، ستفكر الأمهات ببناتهن والأفراد بمجتمعهم وما يحدث في كواليس حياة شبابه.
 
 
الفتيات وخلفياتهن
 
 
المسرحية تدور حول آني التي تحتفل بعيد ميلادها السادس عشر وتريد أن ترسم وسمها الأوّل على جسدها احتفالاً بالمناسبة. هي وصديقاتها يتبجّحن بالحديث عن الجنس، كأنّهن نساء خبيرات على الرغم من أنّ آني لا تزال عذراء. يعتقدن أيضاً أنّ هناك طرقاً معينة لكي ينجبن، استناداً إلى التوقيت المناسب، مواليد إناثاً لا ذكوراً. الشخصية التي تبدو لا مبالية إلى أقصى الدرجات هي تاليشا، التي حازت هاتفاً محمولاً حديثاً وهذا أيضاً معيارها للحكم على الفتيان، حسب الجهاز الذي يحملونه. تبدو كأنّها لا تكترث بالمشاعر أو الدفء والعاطفة، بل فقط أن تكون cool أي رائعة ومعاصرة في مفهوم المراهقات، ولهذا تفضل أن ينادوها “تي” فهي لا تحتاج إلى اسمها الكامل، يكفي الحرف الأول منه.
 
تبدو مارجي في الوسط بين تاليشا وآني، أكثر بساطة، مكتفية بصديق واحد، وسبق أن حملت منه. ليست لها طموحات خارقة وتنتظر أن تحمل صديقاتها مثلها للاحتفال معاً. آني مختلفة عن الفتاتين، وإذ تدخل عامها السادس عشر، تبدو ممزقة بين عالمين، الأول عالم تاليشا وانسياقها وراء مفهوم أن تكون رائعة ومعاصرة، والثاني عالم تحلم فيه بمستقبل أفضل.
 
تحاول تاليشا أن تدفع بآني لإقامة علاقة مع مالك لكي تحمل منه، لكن الشاب على درجة من الوعي كافية لكي لا يسمح بحدوث ذلك. فهو يمثّل الإصرار، الإصرار ألا يمضي حياته وعلى رفّه حليب يشبه السكّر. يقف ويضع تلسكوباً جمع ثمنه لكي يراقب النجوم والفضاء وكذلك الطائرات ويتخيّل أن الأشخاص الذين على متنها ينظرون إليه من فوق ويسخرون من فقره وظروفه.
 
يريد مالك أن يخترق الظروف، ألا يسمح لوالدته المريضة أن تهدّم أحلامه وتحبطه. لا يريد أن يصبح أباً في هذه السنّ، أباً لا يستطيع تقديم شيء لولده، تماماً كما لم يقدّم له والده أي شيء.
 
 
فشل الأمهات
 
 
الأمهات في المسرحية غارقات في همومهن الخاصّة، فشلهن، خيباتهن وفقرهن. ميرنا هي أمّ آني وهي الشخصية الوحيدة الأكبر سنّاً التي تظهر على المسرح. عاملة بسيطة تنظّف في إحدى الشركات وتحلم أن تكون كاتبة رغم كونها لا تجيد القراءة بمهارة. تريد أن تطبع قصصها في العمل وتوزع منها نسخاً في محطة الباص، لكن يتمّ طردها من العمل فقط لأنّها كانت تستعمل الكمبيوتر من دون إذن. ميرنا لا تعير أي اهتمام لابنتها، تقول لها إنّها ستحتفل بعيد مولدها يوم الأحد، وكل ما تطمح إليه آني هو عشاء دافئ مع العائلة، لكن الأم لا تترك مجالاً لذلك ولا تلتزم بوعدها لابنتها.
 
يصل التوتر بين الأم وابنتها ذروته بعد أن يتم طرد ميرنا من العمل. تحاول ابنتها أن تخفف عنها، لكن الأم تقابلها بالصد والقسوة، فتقول لها آني إنّها ليست جديرة بالعمل حتّى. لكن قمة الدراما والتراجيديا تكون في رد الأم التي تقول لابنتها: “لا تظنّي أنّك أفضل منّي. أنت لا تساوين شيئاً”. وتكرّر العبارة بغضب ولؤم “أنت لا تساوين شيئاً”. هذه العبارة، على الرغم من كونها نابعة من تصريح فردي من أم لابنتها، لكنها أشبه بما لقّنه المجتمع للفقراء، وهي تختصر العمل المسرحي. هناك حياة تسحق المرء وتحمله على الاعتقاد بأنّه ليس أهلا لشيء ولا يساوي شيئاً لأنّه ولد في ظروف قاهرة ويجب أن يبقى مقهوراً. هذا لا يحفّز للتعاطف مع الأم أو التبرير لها، لكنّه يظهر أيضاً مدى تعاستها وغياب أي عونٍ عنها.
 
 
انتقاد الكنيسة
 
 
في المسرحية أيضاً، تنتقد الأم الكنيسة حين تحاول آني، متأثرة بصديقتها كيرا، أن تتحدّث عن الكنيسة لوالدتها. لكن ميرنا الأم ترفض حتى الإيمان وتقول إن عملها هو ما يؤمن الطعام للعائلة وليست الصلاة. هذا الرفض نابع عن شعور بأنّ العالم بأسره تخلى عنها، حتى الكنيسة حين لجأت إليها.
 
ويأتي تأثر آني بالكنيسة بسبب صديقتها كيرا التي تمثل، أو تتظاهر بأن حياتها تمثل، كل القيم العائلية التي حرمت منها آني، الأب الذي يشتري لها خفاً من الساتان الأبيض ويأخذها للحفلات الراقصة، العائلة التي تجتمع حول مائدة العشاء والتي تجتمع للنشاطات العائلية والجماعية، وتذهب للكنيسة كل أحد.
 
تستشهد كيرا طوال الوقت بأقوال من الإنجيل وتحاول أن تبدو كالمتحذلقة التي تعرف كل شيء وتملك الإجابات. لكن حين تلجأ آني إلى كيرا، تكتشف أنّ كل ما تحدّثت عنه كيرا هو أوهام. فالفتاة والدها في السجن ووالدتها تبدّد أموالها على طاولات القمار، وهي تعيش في رعاية الكنيسة، وليس لديها منزل حتى.
 
كيرا إذن ليست في ظروف أفضل من الفتيات الأخريات، تاليشا التي تقع فريسة رجل أكبر منها سنّاً يضربها في ما بعد، ومارجي التي تصبح أمّاً. هي مثلهن، وإن بوجه آخر، خائفة وهشّة ووحيدة.
 
تغادر آني منزلها البسيط بعد المشاحنة مع والدتها، وتذهب لتفقد عذريتها مع الشاب الذي رسم لها الوسم على جسدها، بعدما لم يتجاوب معها مالك. تفقد عذريتها كأنّها تريد أن تمعن في تأكيد ما قالته والدتها، أي أنّها لا تملك أي فرص في الحياة، أو لتبحث عن قيمة، عن أنها تساوي شيئاً في عينيّ شاب.
 
 
بصيص الأمل
 
 
يمثّل مالك في المسرحية بصيص الأمل الوحيد، كونه يتمكن من الدخول إلى الجامعة بعد تخرّجه من المدرسة. يمثل حتى الأمل لآني التي تنتهي في المشهد الأخير من المسرحية حاملاً، بطنها منتفخ أمامها، وهي تتحدث مع مالك. يسألها إن أعجبها خطابه الذي ألقاه في حفل التخرج من المدرسة، وتقول له نعم، لكنّها تعود لتخبره أنّه كان يجب أن يتحدث عن القسوة التي يعيشون فيها وعن “الحليب الذي يشبه السكر” على رفوف منازلهم.
 
تنتهي المسرحية لتترك المشاهد حزيناً على مصير آني ومصير الجنين الذي سينمو في أحشائها. فيتساءل كيف سيكون مستقبلها ولماذا لم تصمد وتؤمن بنفسها. لماذا لم تجد نافذة للهرب؟ لماذا لم تصدّق أنّها أفضل من أن تنجب طفلاً آخر محكوماً بالدمار؟ وهل على الرغم من كل شيء ستصبح حياتها يوماً ما أفضل؟
 
————————————————–
المصدر :مجلة الفنون المسرحية –  ضفة ثالثة 

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *