مسرحية «بلوك 74» للمخرج وليد الخضراوي: تحرّر وقاوم فالانسانية مقاومة والوجود نضال مستمر / مفيدة خليل

 

 

 

المصدر / محمد سامي موقع الخشبة

العقل يولد صافيا كالصفحة البيضاء لنبدأ ملأها بالإحساس والتجربة قولة لـ«جون لوك» كذلك الخشبة تكون بيضاء خاوية حتى من الممثلين لملئها بأحساسهم

وتمردهم وجرأتهم وثورة داخلية تنبض فيهم فيجسدونها في فعل مسرحي مشاكس وعنيد، كما نبضات القلب تكون حركات الممثلين، كما تتسارع دقات القلب تتسارع أفكارهم ليسالوا عن الإنسان؟ عن الانسانية؟ عن المرض والجنون والعقل؟ عن الوطن المشتت والانسان المشوه؟ إلى كل المتناقضات التي نعيش معها تحملنا مسرحية «بلوك 74» للمخرج وليد الخضراوي انتاج المركز الدولي للفنون المعاصرة بالقصرين.

«بلوك 74» تمثيل زينة مساهلي وايمان مماش وعباب الاطلس الحنديري ومحمد السعيدي وصالح الظاهري وحاتم مغربي وياسين حمزاوي ووليد قصوري والكوريغرافيا لوليد القصوري و تقني اضاءة علي صالحي وتقني صوت خالد نجلاوي، عمل يجسد ثنانية الخير والشر ويحللها في مسشتفى امراض عقلية.

أنا انسان؟ أم شبه انسان؟
موسيقى قوية صوت ارتطام لجسد بشيء ماء، ضوء اصفر توزع في كامل الركح، صراخ امرأة لا نعرف سببه، سرير ابيض في الركن، جميعها تطرح السؤال، اين نحن؟ وما الذي سيقدمه الممثلون على الركح؟ رائحة الوجيعة تبدو مثبتة على الوجوه، الغوغاء كما حشرجات الموت، البياض الذي يلبسه بعضهم وكانه عنوان لسواد داخلي سيعيش على وقعه جمهور قاعة المونديال في عرض «بلوك 74».

«بلوك 74» عمل يحاول تفتيت شخصية الطبيب والمريض، عمل يطرح سؤالا هو أيهما المريض من رمي به في مستشفى للمجانين فقط لانه عارض النظام او قال الحقيقة؟ ام الطبيب الذي درس لسنوات الطب ثم اقسم اليمين على الصدق وبعدها انخرط في منظومة فساد تتاجر بالمرضى وبوجيعة ابناء الشعب ؟، ففي «بلوك 74» الكثير من القتامة.
«الوجوه شاحبة» المرضى بالاسود، هو انعكاس لمعاناة داخلية، الممرض يحاول الانتحار في أول العمل، الطبيب تائه الملامح عينان زائغتان ووجه مرهق وكانه يحمل ثقل المشفى؟ المنظفة ضعيفة تجد نفسها سلعة بيدي طبيب «اشد مرضا» من مرضاه؟ وجيعة جسدها الممثلون بحركاتهم المضطربة، بالصراخ والدوران والرقص المنهك وكان بالمشاهد امام اجساد تحمل وزرا ،اجساد اثقلتها أرواحها فحاولت إخراجها عنوة.

تدور الاحداث في «بلوك 74» اشد غرف مستشفى الامراض العقلية ظلاما وسوادا، في هذا القسم يوضع اناس عقولهم سالمة فقط يرمى بهم هناك لأنهم أزعجوا وأقلقوا النظام، اولى الضحايا «زينة حقي» تلك القاضية التي اتهمت بالجنون لأنها كشفت ملامح الفساد، زينة مساهلي تقمصت شخصية زينة حقي، نجدها شعثاء الشعر، غائرة العينين، تصرخ وتنادي بالحرية، سالت عن تهمتها فأجيبت «الإفراط في الدفاع عن الوطن ورفض الرشوة» في كلامها الكثير من الألم الم عن ضياع الديمقراطية في بلد أمضى على كل اتفاقيات الديمقراطية في العالم، صراخ وكأنه تعبيرة رفض عن تدهور القضاء وصرخة لمحاولة رجّ الضمائر علها تستفيق لتعيد للوطن كرامته المسلوبة وتعيد للإنسان المخلص حقه المغتصب.
على الركح نجد ان «الإنسان مطبوع على الشر فقط، الإنسان الأخلاقي الذي تصوره كانط ليس سوى ذاك الضعيف الذي لا يقدر على إظهار طبيعته الشريرة ، الإنسان المليء بالغرائز والوحشية تماما كما تقول فلسفة نيتشه، فزينة ليست وحدها ضحية الظلم هناك أخره «فنان» و شاعر رُمي في مستشفى الأمراض العقلية لانه عاكس النظام، لشعره وقع البلسم على الروح، حديث وكأنه كناية عن الشاعر منور صمادح الذي قضى سنوات عمره الأخيرة في «مسشتشفى الرازي» بسبب قولته الشهيرة «شيئان في وطني قد خيبا أملي/ الصدق في القول والإخلاص في العمل» حركات مضطربة صراخ ومحاولة لتحطيم ما يعشش داخل الرأس حركات وكأنها كلمات صمادح يقول:

فتكلمت ولكـن لـم أفـدها الكلمات
ليس بالهزل ولا بالجهل
خوض الكلمات
وتألمـــت كثيرا في جراح الكلمات
وسفحت العمـر دمعا
من عيون الكلمات
ولقد مت مرارا في سبيـل الكلمات
صلبوها ثم جاؤوا ورثـوها الكلمات

في «بلوك 74» اجتمعت الوجيعة مع محالة النسيان، على الركح جسد الممثلون المعاناة بالرقص وحركات اجسادهم فابدعوا في ايصال رسالة الى جمهور قاعة المونديال ودفعوهم للسؤال هل نحن بشر؟ هل نحن من فصيلة الانسان أم ملامحنا وأرواحنا مشوهة؟.

أيهما المريض؟ أيهما المجنون
الدكتور الاندلسي سيد «البلوك 74» صحبة احد الممرضين، كلاهما له هدف واحد اخماد صوت من يدخل البلوك 74 بأوامر فوقية، الدكتور الاندلسي شخصية مركبة ابدع محمد السعيدي كعادته في تجسيدها، للممرض جسد شخصيته صالح ظاهري، اول جد انفعالي يبدو الغضب على ملامحه والثاني أكثر هدوءا وكأنه يخاطب الطبيب بلغة العقل دوما، شخصية الطبيب «المعقد نفسيا» الذي دفع مالديه ليكمل ابنه دراسة الطب والآن حان دور إرجاع كل ما صرف على الدراسة، هكذا يقول مخاطبا نفسه.
منذ الملامح العامة للشخصية يعرف المتفرج انها معقدة ومريضة، يحاول اغتصاب عاملة النظافة، يخدر المرضى ويكتب التقارير المزورة، جسد إنسان وقلب شيطان هاجسه المال ثم المال، وكما اعتقد نيتشه بوهم الأخلاق كذلك الدكتور الأندلسي يؤمن فقط بأخلاق المادة ومقولة «على أهل الإنسانية المتفوقة أن ينقذوا من لا يصلحون للحياة بالقضاء عليهم دون إمهال» هو يفعل ذلك بإتقان، دور مركب كلما حضر إلا واجتمعت الموسيقى الحزينة والضوء المبهر وكان بالمخرج يريد أن يكشف الشخصية وكأن بالجميع يسلطون عليها ضوء الحقيقة.

وسط السواد يولد خيط أمل
في «بلوك 74» الكثير من الظلمة، الكثر من الوجيعة أحداث العمل تدو في مشفى للامراض العقلية الكل يتالم والكل يبت انه عاقل، بين مخادعة الطبيب وتقاريره المزيفة وبين صدق المرضى من جهة استفاقة ضمير الممرض الذي شاركه المجرم لسنوات ووجود طبيبة تؤمن بانسانية الطبيب تتغير الأحداث الطبيبة إيمان مماش تعمل بمقولة كانط «عامل الإنسانية كلها في شخصك»، فوسط السواد يوجد خيط رفيع من الأمل، أمل ينقذ المرضى ويضع الدكتور الأندلسي مكانهم.

على الركح ومن خلال أحداث المسرحية تجسد الطبيبة دور الممرض والمنظفة اللذين قرروا الخروج من دائرة الوجع مقولة كانط «عقل الإنسان ليس عجينة سلبية تتقولب حسب الطريقة التي تحتمها وتختارها التجربة والأحاسيس وليس مفهوما افتراضيا لمجموعة من الحالات العقلية، عقل الانسان عبارة عن عضو فعال نشيط يشكل الأحاسيس ويرتبها على شكل افكار ويحول خضم التجارب المتعددة الى وحدة فكرية مرتبة» وفي العمل حولت الفكرة إلى إرادة للحياة، ارادة الحياة ابدعت عباب الاطس الحنديري في تجسيد جزئياتها من خلال لوحات راقصة ممتعة.

بين عدمية فلسفة «نيتشه» وأخلاق فلسفة «كانط» تتصارع الأحداث، طرفي صراع كل يريد إثبات صحته الأول دينه المادة والموت والثاني دينه الإنسانية ولان الإنسان خير بطبعه كما تقول فلسفة كانط يربح الطرف الثاني فيتحرر المرضى من الم الحقن والمخدر ويجد الدكتور الاندلسي نفسه مكانهم في سرير منسي في بلوك 74 المنسي أيضا.

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *