مسرحية “العميان” لموريس ميترلنك محمد سيف/باريس

على جزيرة مترامية الأطراف، وفي عمق غابة شاسعة، ومسافة غير مؤكدة، ولا محددة من ملجأ العميان، وفي لحظة غامضة بين صلاة المغرب، يجمع الشفق والليل، ستة عميان من النساء، وستة من رجال، وطفل. انهم ينتظرون الكاهن الذي وعد بأن يأخذهم إلى البحر مبكرا، مع شروق الشمس. لكن الشمس غابت، والجو ازداد برودة، وبدأوا يشعرون بالجوع، ويجب أن يأتي لكي يرشدهم إلى طريق العودة، قال لهم، بأنه سيعود سريعا، ولكنه لم يعد . هل هو الليل، إذن؟ أم أن النهار لايزال مضيئا ؟ منذ متى وهم ينتظرون ؟ أسئلة يثيرها، موريس ميترلنك، ببساطة شديدة، تسمح بتزايد ذهاب وإياب القلق في رؤوسنا، ورؤوس هؤلاء المكفوفين اللذين ينتظرون. لا سيما أن شبح الموت موجود هنا، إنهم يشعرون به، بكل تأكيد، مثلما يشعرون بالحياة أيضا، من خلال تسرب بعض الأصوات القادمة من جرس دير بعيد، وأصوات الطيور، وروائح الزهور، وطفل، يرى لكنه لا يقوى على الكلام بعد. من خلال مخاوفهم، ودموعهم، وبكائهم، ننظر نحن المشاهدين بشكل خافت إلى شيء ما يحدث، ونسمع خفقان القلوب، الذي يعزز فكرة الوحدة، ونحاول إدراك المسافة المثيرة للقلق التي بينهم وبين ملجئهم.
إن موريس ميترلنك، كاتب رمزي، يطرح في مسرحية “العميان”، حالة رمزية للغاية، ولكنه يعالجها بشكل مادي ملموس جدا. إنه يغرقنا من خلالها، في “البحر الداخلي”، الذي يحمل روحنا، ويجعلنا نسمع وقع خطى الموت الصامتة وهي تقترب. فالرعب جزء لا يتجزأ من وضعنا، وشرطنا الإنساني، نراه بما فيه الكفاية، من دون رتوش، ولا كلمات رنانة كبيرة أو آثار، لدرجة ادراكه. يقول احدهم للجميع الذي ينتظر مجيئ الكاهن :
لقد جاء يخبط على ذراعي خلال نومى قائلا: «هيا، انهضوا، انهضوا، حان الوقتُ لأن الشمس عالية فى السماء» – هل كـان ذلك حقيقيًّا؟ لستُ أدرى لأنني لم أرَ الشمسَ أبدًا».
فيردُّ آخر: «أما عنى، فقد رأيتُ الشمسَ حينما كنتُ صغيرًا جدًّا». وتردُّ العمياء العجوز: «وأنا أيضًا، منذ سنوات طوال! حين كنتُ طفلةً، ولكنني لم أعد أذكر شكلها». ويقول أكمهُ: «لماذا يريد أن نخرج كلَّ مرة تشرقُ فيها الشمس؟.
من أجل وضع هذه المسرحية على خشبة المسرح، ذهب المخرج الفرنسي جانيت دانيال، نحو الأسلوب الأكثر بساطة ووضوحا، ولكن أيضا نحو الأكثر جرأة. لقد جمع في هذا العرض، ممثلين محترفين وهواة، قادمين من اتجاهات مختلفة. وهذه طريقة رمزية لتأسيس اتصال مع مجموعة إنسانية مركبة. يدخل الجمهور إلى صالة العرض، في فضاء يغزوه الضباب، ويأخذ مكانه، في رؤية محدودة، يجلس على الكراسي البيضاء المتناثرة بطريقة فوضوية، وغير منظمة، وإذا به يكتشف في الوسط منه أو بالأحرى إلى جانبه، ثمة اشخاص مكفوفين جالسين مسبقا. لا احد يعرف من الذي سوف يلعب ومن الذي سيستمع، أو بالأحرى، الكل سيلعب وسيستمع. أصوات العميان، تشير في المرحلة الأولى إلى حالتهم. علاقة مقلقة، تضع شرطا مشتركا بين الرغبة في الرؤية أو عدمها، ليس فقط من اجل تحديد عماهم، وإنما لإدراك أفضل الكلمات التي تكشف عن الشعر الدراماتيكي. لأن هذا العرض يتمحور بكليته، حول حوارات اطراف النزاع فقط.
يبدأ العرض بأصوات تكاد أن تكون غير مسموعة، تتناهها إلى السمع ببطء وهدوء، أصوات قريبة وبعيدة، تسافر من حولنا، تتسلل إلى عزلتنا الشبه حالكة: باب يئن، مياه تتدفق، نقيق الطيور. نسمع أيضا همس، وصلوات، وأصوات قادمة من العدم، تتردد اصدائها بين أرجاء الصالة: يقول أحدهم إلى الآخرين:
ألم يعد بعد؟، ” لقد ايقظتني.
يقول آخر: “صار الجو باردا منذ رحيله، نحن محتاجون لمعرفة أين نحن بالضبط.
يبدو أن جميع العميان، قد فقدو عادة الحركة غير المجدية، ولم يعد يديروا رؤوسهم نحو الهمس المكتوم، والمقلق. تعتمد المسرحية على عامل الانتظار. مثلما تتحدث عن الغياب:
والآن، اعتقد أن الكاهن قد ذهب للبحث عن الماء والخبز، وقال، أن عليه أن يذهب بعيدا جدا … ويتوجب علينا الانتظار …). صوت خرير الماء يصاحب، منذ البداية، النزهة التي نظمها الكاهن الغامض للعميان، مرة يتدفق بقوة، واخرى يهدأ ويأخذ خطا مستقيما، ليعود من جديد ليعلن من خلال خريره السريع والمرتفع الصوت، عن الحالات المتوترة للرحلة التي تحولت، فجأة، إلى رحلة كشف وجلد للذات، حيث صار كل واحد منهم يكشف عن نفسه.
هل نحن بالقرب من البحر ؟ … نعم، اصمتوا لحظة، وسوف تسمعون”. .. الانتظار يستمر حتى نكتشف أن الكاهن، مرشدهم وأملهم الوحيد في العودة، ميت، فارق الحياة، وجثته في وسط الماء.
• فكرة الاخراج
يتكون نص المسرحية من حوارات تنبع من عالم العميان، يتبادلها مجموعة من العميان .. تلجأ العديد منها إلى وصف الاشياء التي تلمس من قبلهم، وإلى الجدل المتبادل، والتعبير الشفوي للمشاعر (مثل القلق)، الذي لا يستطيعون التعبير عنه عن طريق الايماءات أو المواقف. بحيث تشكل مجموع الحوارات وحدة متماسكة، مع الذكاء الخاص لعالم العمى، والتي يمكن فهمها دون اللجوء إلى البصر. وهذا ما يبرر جيدا تقديم المسرحية بكاملها في الظلام الدامس.بحيث وجد المشاهد نفسه، في مثل هذه الحالة، مثل العميان تماما، يفهم نفس فهمهم، ولا يجيب أكثر منهم على أسئلتهم، نعم، لقد وجد نفسه في انسجام تام مع مأساتهم. اعتاد المخرجون على تقديم هذا المسرحية في الظلمة، أو وسط ضباب يمنع الرؤية الكاملة، مع تقديم بعض المفاتيح الرئيسية التي تسلط الضوء على بعض خطوطها الرئيسية، بمجرد ما ترفع الستارة. ولكن هذه المعرفة المسبقة، غالبا ما تضع المتفرج بشكل غير عادل، في مستوى أعلى من موقف العميان، وذلك بخلق مسافة بين أولئك الذين يعرفون منذ البداية، وأولئك الذين لا يستطيعون أن يعرفوا. ولكن بما أن المسرحية قد عرضت، هذه المرة، في ظلام دامس، فإن المسافة لم يعد لها وجود. كان المشاهد بنفس مستوى العميان، ومتضامن بشكل طوعي مع مأساتهم. وهكذا، لم تعد رؤية المسرحية من الخارج، وإنما أصبحت حالة تعاش من الداخل.
إن المبدأ الكامن وراء هذه المسرحية هو التقليص ، الذي تم من خلاله ارسال المشاهد مباشرة إلى ذروة الحدث، هناك حيثما توجد شخصيات شبيه بشخصيات بيكيت، التي لا تفعل شيئا سوى الانتظار. ولكن ما يميز مسرحية “العميان”، عن مسرحية “في انتظار غودو”، في المقام الأول، هو الشعور المغلق: الحبس الجغرافي والنفسي في الجزيرة، الناجم عن العمى نفسه. ولهذا فهم يحاولون التكّهن بالوقت، فيقول أحدهم:
أتصور أنه الليل. وحين تشرق الشمسُ، أرى خطًّا أزرقَ تحت جفنيّ؛ مرّةً رأيتُ خطًّا منذ زمن بعيد. أما الآن فلا شيء سوى العتمة».
ويجيب آخر: «أما أنا، فأدركُ أن الساعةَ قد تأخرت عندما أجوع، وأنا الآن جائع».
يقول أحد الكمه: «انظروا إلى السماء ربما تبصرون شيئًا !”.
يبدو أن هذا الحبس أو القيد، إن جاز التعبير، يمتد إلى اللغة نفسها، التي لم تعد تلعب دورا قياديا مثلما في باقي النصوص المسرحية، وصار الغرض الوحيد منها هو الوصف، والشعر. وإن الكلمة فيها، تنبع من أعماق الانسان بشكل مجازي وقوي للغاية، وتسعى لتعريف هذا الذي لا يعرف:
شعرت أنه كان يبتسم بكل جدية، سمعت انه قد أغمض عينيه، وإنه يريد أن يبقى صاما، أردت أن أرى، وأن اسمعك”.
نلاحظ أن الحوارات تبتعد عن المحادثة المتماسكة، وإن الجواب يبني نفسه على رد آخر. وتبدو الكلمات والجمل متلكئة، ومتلعثمة، وتكاد أن تكون عشوائية، بعض الشيء، في فم هذا أو ذاك من الشخصيات. وكأننا على حافة الحلم، حيث الكائنات، في بعض الأحيان، تكون قابلة للتبدل، وحيث جوهر الأشياء يتم جلبه إلى وضح النهار. ولكن، وإن كانت المسرحية منعدمة فيها الحركة، والشخوص رجال ونساء جالسون، بلا حركة تقريبا، ويهيمن الصوت على الجو العام، فإنها، مع ذلك، لم تقع في فخ اللغة المجردة. بحيث أن بعض حواراتها أصبحت سؤال في جوهر الوجود:
نشعر بالجدران، والنوافذ، ولا نعرف أين نعيش”.
تهتفُ العمياءُ الشابّة: «أشعرُ بالقمر فوق يدى».
فيقول الأعمى الأكبرُ سنًّا: «أتصور أن هناك نجومًا، فأنا أسمعُها».
فيجيبُ آخر: «لا أسمعُ إلا صوتَ تنفسنا!» ثم تهبطُ طيورُ الليل على أوراق الشجر فيقول أحدهم: «أنصتوا! أنصتوا! ما الذى يتحرك فوقنا؟ ماذا تسمعون؟.
فيجيب آخر: «حدث شيء بيننا وبين السماء».
في هذه القصيدة البصرية، والبسيطة جدا، لا توجد خشبة مسرح، وليس هنالك ما يفصل الممثلين عن المتفرجين، وقد مزج الإخراج من خلال هيئته المسرحية، الجمهور بالممثلين، في جماعة غير متمايزة، جعلها تجلس على الكراسي في فضاء خال، دون توجيه متميز. وكان في هذه القصيدة البصرية أيضا، مؤثرات موسيقية، جعلتنا نفهم حركة العالم الذي يحيط بالأجسام الغير متحركة، وطبيعة العمل اللانهائي للقوى الغير مرئية التي تؤثر على حياتهم. في هذه القصيدة البصرية، لا وجد للحركة تقريبا، الفعل الوحيد يكمن في بطء الاكتشاف، من قبل مجموعة متباينة من الناس، تجتاحهم نفس المشاعر والاحاسيس، ويشعرون بالعزلة، في عالم لا يفهمونه، يوشك أن يزيلهم عن الوجود. إن هذه القصيدة البصرية التي كتبها موريس ميترلنك بعنوان “العميان”، تتصرف بوصفها فخ من الخيال، ولها تأثير هجومي، وذات فعل خام، يعري، الحقيقة المطلقة فجأة، والبذيئة، وليس الأجوبة. إنها حركة معاصرة، إلى أجل غير مسمى لجميع الذين يعيشون. فالنص عبارة عن تضافر معقد لأنماط بسيطة، ومقاطع دقيقة من الصمت والكلمات، والتكرار، والخلط بين الصراخ الغامض والأنفاس. إنه لا يقول شيئا، ولكنه ينتج فضاء، وبردا، وزمانا، وعالما من الرؤى التي تؤثر على الحواس يشبه إلى حد كبير الخطاب الكورالي، مع العناية بشكل خاص جدا، في مسألة المعنى، وفضاءات الأصوات، وسلالم الأنغام. إن تجسده يحتاج إلى أكثر من سينوغرافيا، يحتاج إلى انشاء مناظر طبيعية حقيقية للصوت، من خلال خلق تصور للفضاء، الذي لم يعد يمر بالضرورة من خلال الرؤية.
إن هذا العمل يجمع أيضا مجتمعا إنسانيا، بلا اسم ولكنه مجسد بقوة، وبلا وجه، ولكنه فريد من نوعه، ليس فيه ممثلون، وإنما شخصيات. وإن الوسيلة الوحيدة المتاحة للفنانين على خشبة المسرح، هو أداء هذا الذي يكمن في قدرتهم التخيلية: عمليا فهو بلا حركة، وبلا إخراج، وبلا لعب ممثلين، ولكن فيه قوة ذهنية، ودماغ نشط ويقظ، يأخذان بعين الاعتبار بكل كلمة، وكل
صمت، وإيقاع جماعي، وقدرة على انتاج الواقع.

محمد سامي/ موقع الخشبة

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *