مسرحية “التابوت” عن “أقواس أيامي”.. كتابة مشهدية تنتصر للذاكرة نحو مسرح يوثق لنفسه – دة.نزهة حيكون #المغرب

– 1 –

قدمت فرقة (دوز تمسرح) المراكشية عروضا في ربوع المملكة المغربية خلال السنة الجارية بعملها المسرحي (التابوت)، وهو عن (أقواس أيامي) السيرة الذاتية لفقيد المسرح المغربي (محمد تيمد). العرض من اعداد وإخراج (عبد الجبار خمران)، سينوغرافيا (يوسف العرقوبي)، ملابس (طارق الربح)، والتشخيص كان لباقة من الفنانة هم رجاء خرماز، توفيق ازديو الذي صمم كوريغرافيا العمل، ودرماتورجيا الجسد فيه، عبد الفتاح الديوري، زكرياء حدوشي الذي أُوكلت له موسيقى العرض أيضا.

يحتفي هذا العمل بالراحل (محمد تيمد)، ويحتفي معه بفنون السرد التي عرفت طريقها للخشبات المسرحية المغربية عن سبق اصرار فني لكثير من التجارب في السنين الأخيرة، لذلك ارتأينا ونحن نكتب هذه المحاولة في قراءة هذا العمل ألا نغض الطرف عن النص، شأن كثير من القراءات النقدية التي تنتصر للاختيارات الجمالية مستبعدة النص الأصلي، وذلك لسببين:

  • السبب الأول: إن نص الانطلاق هو للراحل (محمد تيمد)، يعني انه لرجل مسرح اختارت الفرقة أن تجعله في دائرة الضوء، من خلال منجزها، وبالتالي فهو نص جدير بالتوقف عنده، إذ ليس من الهين أن يكتب مسرحي في قيمة الراحل سيرته الذاتية، وإن حدث ذلك فما علينا إلا أن نتوقف عندها مليا مستقصين ما خفي عنا من حياة رجل شغف بالمسرح ومارسه بكثير من الحب، وكانت له فيه رؤية فريدة وأصيلة.
  • السبب الثاني: فهو مسرحة السيرة الذاتية، وما يشوبه من مزالق، بل وقبل ذلك أصالته وقوته كمغامرة غير مأمونة، خاصة إذا ارتبطت بشخص المرحوم (محمد تيمد)، الذي مازال بيننا أهله وأصدقاؤه ومحبوه، ونحن نعرف أن السيرة الذاتية تستهوي الكتاب على اختلاف الأجناس الأدبية التي يبدعون فيها، وإذا كان الأديب المُبدع هو الناقل لحيوات البشر، والراصد لنبض الحياة والمجتمع، فلا شك أن حياته الخاصة تصبح أرضا خصبة لمحراث قلمه.
    للسيرة الذاتية غواية كبيرة، فكاتبها كمن ينحت من نفسه تمثالا يعرضه للناس، فهو الطين والإزميل، كيف إذن يصير الأمر إذا تعلق بمُبدع بحساسية (محمد تيمد). لقد صرح كل من (حسن المنيعي) و(محمد أسليم) في مقدمة كتاب “أقواس أيامي” أن الرجل متعدد الكتابات، وانه يمزج بين الأجناس الأدبية، ويهتم بكل من الشعر الفصيح والزجلي، والنقد الفني، والتشكيل، من الأكيد أننا سنجد صدى لهذه التنويعات في سيرته الذاتية التي لن تكون سردا عاديا لأحداث حياة، بقدر ما هي تشكيل بالألوان للوحة ربما كان سيعرضها على القارئ المُشاهد لولا المنية التي اختارت أخذه لعوالمها المجهولة.تحرّى مُحقّقا الكتاب الدقة والأمانة العلمية في نقل هذا المخطوط، يقولان: “فإننا لم نغير شيئا من بنيتها بما في ذلك ترتيب الفقرات وتلاحقها وكذا علامات الوقف”

– 2 –

لكل ما تقدم سنحاول قراءة هذا العمل من خلال محورين:

أولا: أقواس أيامي .. السيرة النصية

جعل (محمد تيمد) من حياته أقواسا يفتحها بكل قوة، ليشاركها مع ذاته أولا، ويرى نفسه بعيون قلمه وحروفه، وقد لا ندري نحن في هذه اللحظة مدى رغبته في مشاركتنا إياها. جاءت سيرة الرجل اذن أقةاسا وأياما، الأقواس من قسمين، القسم الأول ضم ثلاثة أقواس، والقسم الثاني فهو من قوس واحد، أما الأيام فهي سبعة وعشرون يوما بعناوين مختلفة. خصص القسم الأول من أقواسه لطفولته حتى وفاة والده، لنجده في أربعينيات القرن الماضي، طفل من عائلة من عائلات المغرب الكادح، أب وأم وأخت، أما الأخ فقد مات اثر سقطة غريبة وسط إناء الطعام الذي تلتف حوله الأسرة مُمَنّية النفس بقطعة اللحم في وسطه. هو طفل كثير السؤال، ساخط لا يحب كثيرا مما يُحيط بحياته، ويَشعُر انه زُجّ فيها زجا. أكثر ما عاناه هذا الصغير هو التبول اللاإرادي والذي يُعرّضه للعقوبة والسُّخرية.

تستمر عيشة الطفل بين حي (الأقواس) وحي (سيد العواد)، يُغيّر كُتابا بآخر، وفقيها بآخر أصغر سنا ولا يرتدي نظارات، يعيش كل الطقوس الغريبة، الحضرة في منزل الخالة، الأعراس، الميلودية2، كل ذلك وغيره بحساسية مُفرطة، إذ عاين مظاهرات المُقاومة، وسقوط المواطنين قتلى في الأزقة، عاش طلاق أمه وعودتها الراضحة لبيت الزوج دون اعتبار، شَهِد خصومة أبيه وخاله، ورافق عمه للأسواق. تقلّب الولد في أحياء فاس، واستطاع أن يُدرك كيف جعل الاستقلال الفقراء أكثر فقرا بعد نزوح سكان البوادي إلى المدن، (يقول محمد تيمد): “سوف تتغير هذه المقاييس بعد الاستقلال فيزداد الفقير توغلا إلى قلب المدينة وتزداد الشوارع تكدّسا بشريا فقيرا”3.

رسمت كلمات (محمد تيمد) عوالم مدينة فاس بدقة متناهية، واستطعنا من خلالها الغوص زمانا ومكانا، وينتهي القسم الأول من الأقواس بوفاة الأب، وذلك مباشرة بعد أن استطاع الطفل معرفة القراءة والكتابة على يد فقيه من نوع آخر غير سابقيه، فقيه كان يُقيم حفلات عيد العرش، ويُعلّم الصبية الظاناشيد والتمثيليات التي كثيرا ما كان الكاتب يقوم فيها بدور البطل والقائد المغوار، فهي تمثيليات مأخودة عن قصص البطولات التاريخية. القسم الثاني من الأقواس وهو من قوس واحد كما سبقت الإشارة، خصصه (محمد تيمد) لوصف حال أمه بعد وفاة والده، فهي لم تستطع أن تعود لسابق عهدها، ولإحساسها بالاستقرا، وكرهت المنزل في (عين الخيل) بل حمّلته وِزر النحس الذي أصاب الأسرة وأودى برب البيت إلى التهلكة والموت. تنتقل الأسرة من جديد إلى حي آخر (واد عبود)، هذا الترحال الدائم يجعله يعيش النبض الحقيقي للمدينة العريقة، ويخبر كل أركانها، ويعيش حكايات أناسها، والأهم في هذه المرحلة أنه سينتقل من المسيد إلى المدرسة الحديثة مدرسة (العدوة باب الحمراء بواد الزيتون).

تنتقل السيرة من الأقواس إلى الأيام، سبعة وعشرون يوما عنونها الكاتب بحسب الحدث البارز التي ينقله عبرها، ونرتئي نحن تصنيفها إلى ثلاثة:
صنف أول: أيام الاكتشاف، وهي أول أيام الكاتب في اكتشاف ما خفي عنه، أو ما يختبره لأول مرة في حياته، وقد عُنوِنت باليوم: الأول –الثاني –الديك –الختان –الريال –الصحيفة الأولى –الإبرة –الكأس الأولى –الرسالة –أول أجرة.
صنف ثان: أيام الحب والشجن، والانفعالات العالية، وهي أيام: الرسالة الأولى –النوى –الكرز –العشق –الخيبة –الطلاق
صنف ثالث: أيام المغامرات والنزق، وغالبا ما يصف فيها الكاتب ما حدث معه من أمور عجيبة كأيام: الجدبة –الطرد –المسطرة –الفزع –البلوغ –المظاهرة –التصويم –الانتقال.

لا يمكن أن تخلو هذه السيرة من سرد واضح، وتصاعد للأحداث بشكل متسلسل وسلس، فنقرأ الأقواس لنعود ونجدها في الأيام، وفي الأيام أيضا نصادف ما زخرت به الأقواس من أماكن وأحداث وشخصيات. الكتابة تسير في منحى دائري، يبدأ من عام البون، ويعود إليه، يقتحم سنوات الاستقلال، ويعود ليعرّج على أيام الجدري والمظاهرات والمقاومة، ويرسم بدقة خصوصية بعض اللحظات والمشاعر، والانفعالات، وبينما كُتبت الأقواس بنفس حواري واضح باعتماد ضمير الغائب، فالأيام كُتبت سردية واصفة بضمير المتكلم، وكانها مشاهد مُستقطعة، ليتم تسليط الضوء عليها بتركيز أكبر، وبلغة السينما اذا كانت الأقواس بانوراما مشهدية، فالأيام لقطات بتقنية الزوم ZOOM ، أما بلغة المسرح فالنص نجح في التوليف بين عبثية صارخة في وصف ثقافتنا وارتكانها إلى الغيبيات، وبين الغروتيسك في وصف الشخصيات التي أثثت عالم (محمد تيمد)، وكثيرا ما نحى منحا وجوديا يُسائل الذات البشرية عن كُنهها وكينونتها، وآخر نفسيا يسبر أغوار النفس باحثا عن الدوافع الحقيقية من وراء تصرفاتها وردود أفعالها. يبقى السؤال الآن هو كيف ستتحول هذه السيرة النصية لمحمد تيمد، إلى سيرة مشهدية يوقعها المخرج (عبد الجبار خمران).

– 3 –

ثانيا: التابوت.. السيرة المشهدية:

خشبة تغرق في سواد ، بؤرة ضوء تتوسط مستفزة أعيننا بحثا عما قد يقع، فجأة نرى قطعة خشبية تتحرك، هو تابوت خشبي يسير ببطء إلى أن يتوسط المكان، في الخلفية مقطوعة موسيقية وترية تُغري فضولنا، يتوقف التابوت عن الحركة، تظهر أجساد أربعة بملابس موحدة اللون والشكل، هم أربع شخصيات (سيدة وثلاثة رجال) يضعون معاطفهم بشكل دائري تماثلي على الخشبة، وينصرفون إلى الوراء ليعودوا من جديد لأداء لوحة ايقاعية سريعة بالأكف والدف، وبذات التماثلية يتوزعون على الخشبة لتبدأ السيرة، وهي سيرة مشهدية غير مخطوطة كسابقتها على ورق، بل موقّعة بأقلام الإخراج والسينوغرافيا والتشخيص، لذلك فالسرد الذي تتبعناه في كتاب (محمد تيمد) سيتحول إلى سرد بصري قائم –بلغة الرياضيات- على الاختزال والنشر لمعطيات حياة فقيد المسرح.

يبدأ العرض بسرد متناوب بين الشخصيات التي تتناوب بدورها على اداء شخصية البطل، والشخصيات الأخرى الفاعلة في مسار حياته، وتُعلن الحكاية: “تحت سماء من نار، في ليلة من ليالي الحشر، وفي يوم ربيع عشبه أحمر”، ويُعلن ميلاد البطل في مغرب الاستعمار والجفاف والجوع، طفل صغير يعيش أجواء تُخيف طفولته الغضة، وتدفع به نحو التيه لقد ركز (عبد الجبار خمران) في بناء مشهدية هذه السيرة على لحظات مفصلية، لحظات وسمت ذاكرة تيمد، لقد سكن هاجس التوثيق المخرج، وتحكّم في جعله يبني نسيجا خاصا للعمل، لذلك فنحن بتتبّعنا للعرض نجده مختزلا ومُكثفا للحظات هامة أثرت في حياة البطل، وشكّلت ذاكرته، ذاكرة البلد في وقتها، رسم العرض خريطة للذاكرة الجمعية لمغرب قبل وبعد الاستقلال، ونحن وإن كنا نحتفي بـ (محمد تيمد) فلابد من الإشارة والإشادة بالجهد المبدول في العمل احتفاءا ببلد وشعب وتاريخ غير بعيد علينا، أعاد العمل الاعتبار لكل ما سبقت الإشارة إليه من خلال احتفائه بـ:

  • ذاكرة المكان:  اتخذ المخرج كما تيمد قيد حياته من فاس مسرحا كبيرا احتوى سنين عمره، ومنه وفيه تدرّج في أمكنة شكّلت وعيه، وشكّلت فضاءات بصرية تتبّعناها في المسرحية بسلاسة. المنزا: وفيه البهو، والمرحاض، مكان الأكل والنوم، أمكنهة الأحلام. الشارع: وفيه الكُتاب، والخمارة، والأزقة، المقبرة، ودار الشباب، تنضاف إلى هذه الأماكن، أماكن أخرى متخيّلة، فضاءات غرائبية نجح العرض في جعلنا نتقل عبرها بكل هدوء.
    ذاكرة الأشخاص: عاش (محمد تيمد) يراهنعلى الأشخاص، وعلى عمق العلاقات الإنسانية، والمخرج وعبر آلاياته، وخاصة الممثل جسدا، وروحا رسم خريطة واضحة لأهم الأشخاص المارين من حياة بطلنا: الأب الغاضب، والأم المتأففة دوما، والعم السند والعون، والفقيه مصدر المعرفة الأولى، أصدقاء الحانة المترنحون، والزوجة الجاحدة، شخصيات حضرت في العرض، مرتدية ملابس قد تتشابه في التصميم واللون الرمادي الفاتح والغامق، والذي يحيل إلى ماض غابر، لكنها تكتسي حللا أخرى بحسب المشاهد والوضعيات.
  • ذاكرة الأشياء: نُصر بشكل كبير في قراءتنا المتواضعة هذه على عمق الاشتغال المشهدي في هذا العمل، فبينما يبدأ العرض بفضاء فارغ إلا من بقعة ضوء، وتابوت يتحرك، وينتهي وقد أصبح ضاجا بالأشياء، وهي ليست بالأشياء المُجسّمة، بل هي قليلة راهن المخرج على غِنى دلالتها وكثافتها رغم قلتها نجحت في دلاليا وبصريا، وهي في مجملها أربعة: تابوت – بيضة – ليمونة – آلة موسيقية.
    إذا درجنا على اعتبار التابوت مقرونا بالنهاية، فالمخرج ابتدأ به، بل اختاره عن سبق اصرار، وجعله في البداية، ربما ليتعاقد معنا مبدئيا أننا بصدد أحداث وقعت في الماضي، وربما لنعتبره صندوق أسرار يُخفي أكثر ما يُبدي، خاصة أن اختياره جماليا راهن على مركزيته، الشيء الذي يظهر من عنوان العرض نفسه. يبدا التابوت قبرا تنبعث منه الحياة لينتقل للتأشير على موجودات أخرى، والانتقال من الوجود إلى العدم، من الشيء الواحد إلى المتعدد، من المألوف إلى غير المألوف والخارق، هو ما شكّل عُمق تجربة الراحل المسرحية، وهو ما براع المخرج (عبد الجبار خمران) في التكهن به، والعمل على تقبّله بكثير من الانسيابية، ما جعل من التابوت (صندوق لعجب) الحامل لحياة ليست كغيرها، حياة ستحضر فيها أشياء أخرى بذات الرمزية والعمق، كالبيضة والليمونة والآلة الوترية. ترتبط البيضة بالحياة، بالخصب،والميلاد، وبطقس من طقوس المجتمع التي تستكين لغيبيات بعيدة عن العلم وصرامة المعارف، وكذا الليمونة، وهي في رمزيتها مرتبطة بالمتعة واللذة، والانتعاش المطلوب بعد الحمام، هي مظهر آخر لعبودية المحكوم، وتسلط الحاكم، كان العرض دقيقا في توظيف أيقوناته البصرية بكثير من البراعة، فبينما تحضر آلة (لوتار) في الخمارة، تظهر القيتارة في المسرح.
  • ذاكرة الأجساد: كما أن لكل شخصية لغتها فإن لها جسدها أيضا، ونعني بذلك تمثلها الخاص لهذا الجسد وفقا لمجموعة من الرموز والقواعد والتفاعلات التي رسمها النص والعرض معا. يصبح الجسد في المسرحية في ضوء ما سبق تشخيصا لمجموعة من الرموز الاجتماعية. قارب العرض من خلال أيقوناته حياة حافلة لرجل مسرح، رجل أدب وعلم، رجل سياسة، رجل خبر الحياة وأحبّها، ومارس فنونها كاملة، وكما سبقت الإشارة لتناوب السرد في سير الأحداث، فقد تناوب على إداء شخصية الرجل أربعة أجساد هي:
  • الجسد الراقص: للفنان (توفيق ازيديو) الذي برع بلوحات راقصة في جعلنا نرحل إلى عوالم اختار المخرج أي نرحل إليها عبر جسد يؤدي، ينزلق، يدور، يرتفع، وفي لحظة منفلتة نشعر به جسدا طائرا، فنحس بروح تيمد في القاعة تطوف حولنا.
  • الجسد الأنثوي: للفنانة (رجاء خرماز) الممثلة الأنثى أعطت الشخصية طابعا إنسانيا آخر، طابعا يُخرجه من البعد الجندري الخاص، لتمنحهكونية عميقة، وعذوبة واضحة.
  • الجسد الموسيقي: للفنان الشامل (زكرياء الحدوشي) الذي برع في نقل المتلقي إلى أجواء العرض بتنويعات موسيقية لمقاطع مختلفة منها المعروف الخاص بالحقبة الزمنية، ومنها الإيقاعي المساعد على الحركة والرقص، والتشكيل بالجسد، وأيضا منها التركيب الموسيقي الخاص.
  • الجسد الصديق: أُعاود التأكيد على عمق الاختيار الإخراجي، وقدرته على تشكيل دلالة العرض، وأخص اختيار الممثلcasting. اختيار الفنان (عبد الفتاح الديوري) صديق الراحل لا أظنه محض صدفة، فهو عاش وعايش الراحل، وإن كان الأكبر سنا على الخشبة، بجسد كهل واهن ربما، لكن لوهنه ذاك حضور قوي، خاصة وهو يؤدي لحظة انهيار (محمد تيمد)،وقد أصبح وحيدا مُجبرا على تربية فتاتين.

تتنوع الأجساد في العرض المسرحي اذن، وفي تنوعها سمفونية أدائية جميلة، تتنوع الأمكنة، والأحداث، واللحظات، وقد اعتمد المخرج إعدادا يُراهن على قوة الشخصية أكثر من قوة النص ذاته، وساعده في بعض اللحظات التي يصل فيها الانفعال ذروته، وتحتدم آلام الشخصيات بموسيقى مصاحبة لخلق نوع من الانفراج، زيادة على بعض الأغاني التراثية لكسر جو الحكي. تختزل الموسيقى في لحظات معينة من العرض معاني النص، وتكثفها لتقدم معاني ودلالات أخرى ربما لم يصرح بها النص في إعداده الدراماتورجي. يقيم العرض علاقات حسية وروحية مع المتلقي عبر وسائط مادية، وعبر حركة واقعة فوق الركح، هذه الحركة التي تمارس فعل الإقناع عبر مجموعة رموز ودلالات سبق ورأيناها، وهي تُحيل على ما تعيشه عبر الحك، صعوبة التلقي هنا تكمن في نقل هذه السيرة الذاتية للمتلقين، وجعلها فرجة تحمل جماليات مُعينة، تبتعد عن نقل واقع سابق، لكنها تصوره وتحمل هاجس توثيقه، وحفظه للتاريخ.

إلى جانب لغة العرض، وفضائه السينوغرافي، ساعد الحوار الممثل على التحرك بكثير من الحرية على الخشبة، وهو قصير وبسيط، يزاوج بين فصحى واضحة وعامية لا تحيل إلى جهة من حهات المغرب بدل غيرها، والممثل لا يضطر إلى النظر إلى زميله، كما لا يدخل وإياه في علاقة جسدية تحتاج إلى أن يحد من حركته، لذلك كانت التحركات سلسة تغطي الفضاء، وتخلق توازنا بصريا، وتساهم في سير الحكي وتناميه، ربما عكس طبيعة النص والشخصيات التي كانت فاعلة في حياة (محمد تيمد)، وهي كما رأينا شخصيات هشة، ومأزومة، تعيش وحدة وتشظيا، لكن ذلك لم يُوقِع العرض في الرتابة لأن المخرج اعتمدت حركات خفيفة، يتقبّلها المُتلقي دونما نفور، لذلك فالتعبير الجسدي للممثل “الحاكي” لا بد وأن ينسجم مع معطيات الركح الأخرى لتشكيل شعرية من نوع آخر.

ائتلفت عناصر العرض مجتمعة لتكوين صورة متناغمة رغم استقلالية العناصر، ونفورها الظاهر أحيانا، لكنها وعبر التداعي الحر للشخصيات استطاعت أن تؤلِّف في مجموعها صورة قابلة للقراءة، والتفكيك وِفق معطيات درامية، لأنها بالضرورة أسّست شعريتها الخاصة من ائتلاف عناصر متنافرة أو على الأقل أشياء ما كان لتلقّينا البسيط أن يتصوّر اجتماعها. تتحقّق جمالية النص بالتشكيل السينوغرافي لـ(يوسف العرقوبي)، الذي ساهم إلى جانب المخرج في كتابة النص بصريا.

دة.نزهة حيكون – المغرب

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش