مسرحية (البدلة ) لبيتر بروك .. نصوص على هامش التجربة – بوسلهام الضعيف

المسرح في حياتي
نصوص على هامش التجربة
نص (1).. مسرحية (البدلة ) لبيتر بروك

قصة البدلة :
نص مسرحية (البدلة) عبارة عن قصة قصيرة كتبها المؤلف الجنوب إفريقي (كان تيمبا) الذي عاش مرحلة القمع والاضطهاد لنظام الميز العنصري بكل تمظهراته. توفي سنة 1967 في المنفى موزعا بين الإحباط والإدمان . وقد قام باقتباس قصته إلى المسرح (موتوبي موتلواست) وقام بإخراجها (بيرني سيمون) وحين كانت المسرحية تعرض في لندن سنة 1995 ، كان مخرجها(بيرني) يرقد في المستشفى لإجراء عملية جراحية على قلبه .
في سنة 1999 سيعود المخرج (بيتر بروك ) للاشتغال على هذا النص ، انطلاقا من اقتباس فرنسي (لماري إيلين إيتيان) ، والتي سبق وأن اشتغلت مع بروك في العديد من المشاريع الفنية ، سواء كمساعدة أو متعاونة في الكتابة .
في هذه التجربة( البدلة) عندما يتحدث يتحدث بروك عن المسرح الإفريقي فإنه يعني بالتحديث مسرح (townships) بسويتو. وهو تجربة فنية أفرزها نظام الميز العنصري حين عزل السود في مخيمات، ومن ثم تولدت الحاجة لديهم للتنديد بالعنصرية ، والترويح عن النفس ، فمسرحهم يمكن أن يقدم في أي مكان دونما الحاجة إلى الصالة المسرحية الإيطالية . فهو يعتمد على الحكي ، حكي تفرضه الضرورة –النظام الاجتماعي والسياسي – ويقوم على مبدأ اقتسام التجربة.

الحكاية :
تجري وقائع حكاية (البدلة ) في سوفياتون ، بطلها زوجان : ماتيلدا وفيليمون . وتبدأ عندما يفاجئ هذا الأخير زوجته تخونه مع رجل آخر، يهرب العاشق ويترك بدلته ، الزوج وبكل برودة يطلب من الزوجة أن تعامل البدلة كضيف وجب احترامه وتكريمه ، حيث سيعمل على إرغامه على تقديم الأكل له ، والتعامل معه كما لو أنه شخص حقيقي . وعندما يخرجان إلى الشارع ، يأمرها باصطحابه (حمله ) وجعله يحيي المارة .
في هذه الحكاية ، يمتزج اللعب بالسخرية لتتصاعد إلى نهاية مأساوية ، تموت ماتيلدا كمدا ، كما لو أن الذنب مثل بدلة نلبسها وتلبسنا ، أو عار مادي لايفارقنا.
حكاية بسيطة بمفردات كلاسيكية ( ثلاثي الزوج والزوجة والعاشق ) ولكن حبكتها عميقة أثثها الإخراج بقراءة إنسانية ، وخلق لها أجواءا ومناخات مجتمعية ، عبر إيقاع يتوزع بين السرد والنفس الملحمي والطابع الغنائي ذو الملمح النفسي الاستيهامي ، ليشكل لنا عرضا فنيا رائقا قوامه السحر والبساطة .رغم أنه في سياق النص الأصلي كان يسعى للتنديد بنظام الميز العنصري .

الفضاء – الأداة :
يقدم لنا الفضاء الركحي ، مساحة أولى مركزية ، مؤثثة بسرير ، كراسي ، طاولة ، مشاجب لتعليق الملابس ، أرصيتها مغطاة بسجاد ومساحة ثانية تشكل مجالا هامشيا محيطا ومسيجا للفضاء الأول (يمين ، يسار ، مقدمة الخشبة ، الخلفية )هذا المجال الهامشي وظف في حالات قليلة للإحالة على خارج الغرفة ، وخصوصا في نهاية المسرحية .
لقد كان الاشتغال على الفضاء مقتصدا ، مختزلا للمفردات ، يوحي ويولد لدى المتلقي مساحات فارغة لتشغيل مخيلته ، فمل الأدوات (objets) حاضرة في بساطتها بقوة، تؤدي وظائف متعددة ، كما يتم عبرها ومن خلالها الانتقال إلى فضاءات أخرى خارجية وداخلية (مقهى – شارع – حافلة )
السجاد له وظيفة بصرية ، إنه يشكل في البعد أرضية الغرفة ، كما أنه الخلفية التي تسند العين ، وتشكل مجال التركيز البصري مثل برواز (هذه الوظيفة تتحدد انطلاقا من وضعية ومكان جلوس المشاهد ) .
كما أن السجاد من جهة أخرى يحيل على ما أسماه بيتر بروك (le capet Chow) (18)حيث كان في سنوات السبعينيات خلال رحلاته مع مجموعته إلى إفريقيا ، يقدم تجاربه في الساحات العمومية وكان يضع سجادا على الأرض لتحديد مجال اللعب ، هذه الأداة البسيطة ستتيح ل(بروك )فيما بعد اكتشاف أحد أهم تقنيات صناعة الكتابة عند شكسبير .

واذا كان المسرح الحديث قد اشتغل على مفهوم الأداة (objet) بشكل لافت ، جاعلا منها نسقا مستقلا، ذا حمولات درامية وجمالية مكثفة ، ومفردة إخراجية حاسمة ، بل إنه في بعض الحالات يصل حد اعتماد المخرج – السينوغراف على الأداة فقط لصناعة العرض المسرحي . هذا التوجه يكرسه عرض (البدلة ) حيث يستند على الأدوات (objets) بشكل جذري .

ومن بين هذه الأدوات التي يقوم عليها عرض (البدلة) ويتمحور عليها اللعب ، نجد البدلة كعنصر في حد ذاته ، واختيار العنوان مؤشر لهذا التوجه ، فبدون هذه البدلة كأداة وعنصر مادي لايمكن لهذا العرض أن يقوم ، وهكذا توزع حضورها (الأداة – البدلة ) على الشكل التالي :
– حضور درامي مرتبط ببنية النص ، يتوزع معناها على عدة مستويات :
– إحالة على الذنب بالنسبة لماتيلدا.
– رمز للعار بالنسبة للآخر.
– مجال لماتيلدا لكي تعيش استيهاماتها
– وسيلة للعقاب .
– حضور مادي مرتبط ببنية العرض المسرحي :
– تحتل حيزا مكانيا فوق الخشبة وتتخذ لها هيئة ولونا .
– تصبح شخصية مسرحية حاضرة بقوة ومستقلة بنفسها.
– امتداد لشخصية مسرحية غائبة (العاشق)
– تخلق الشخصيات الأخرى علاقة لعب معها

الممثل (استلهام للراوي الإفريقي (griot)):
لكي يكون أداء الممثل، مقنعا، صادقا ، حيا ، لابد لهذا الأخير أن يكون في حالة من الصفاء ، الاسترخاء الدهني والروحي والجسدي . للوصول إلى حالة انخطاف وجداني . ذلك هو الانطباع الأول الذي تحس به وأنت تشاهد الممثلين في عرض (البدلة ). أداء هادئ ، باقتصاد كبير ، وتحكم دقيق في الحركة وفي التنقل فوق الخشبة . ثم التعامل مع الأدوات (objets) بإحساس فائق ومكثف يبعث فيها الحياة .

أربعة ممثلين يتحركون بتلقائية وأناقة مؤسلبة تبهر العين وتجعلم تحس وكأنهم يحلقون في فراغ الخشبة . هل يمكن للغة أن تصف مثل هذا الأداء ؟
هل يمكن للغة أن تقبض على اللحظات المتلاشية ، الزائلة ، العابرة ، المنفلتة من الزمن ؟ورغم أنه يصعب وصف الأداء ـ إلا أنه يمكن الوقوف على الميكانيزمات التقنية التي يستند عليها. وهكذا يمكن تقسيم طبيعة ونوعية أداء الممثلين في هذا العرض المسرحي على الشكل التالي:
– الممثل السارد : يحكي بنبرة إفريقية ،تصبح فيها اللكنة مثل فواصل في السرد . جسد الممثل من خلال التعبير ، الإيماءة يغني الحكي اللغوي بفواصل (مقاطع تعبيرية) من الشرح . فالجسد هنا يشرح الكلام ، وإن كان يبدو ذلك مثل إطناب ، لأن حركات الجسد تقول ماتقوله اللغة ولكن أهميته تكمن في التلقائية والسذاجة الطفولية الموظف بها. لأن الممثل السارد (الراوي) يستطيع بكل سهولة أن يضع المتلقي في الحالة سواء كان فضاءا ، موقفا أو حالة نفسية .
– الممثل المشخص :الأداء لم يكن سيكولوجيا ، إنه يشتغل على العمق ، فلا يقدم الحالة النفسية بانفعال ، تشخيص يبتعد عن البعد الانفعالي الذي يدغدغ عواطف المتلقي ويستجدي دموعه ، ليقدم بالتالي أسلبة صادقة وحية للحالة الداخلية .
– الممثل اللاعب : في المسرح يحضر مفهوم جد حاسم وهو مفهوم اللعب . والممثل اللاعب ، الذي يحضر فيه الراوي الإفريقي بشكل قوي ،قادر على خلق الفضاءات والأجواء المناخية الدقيقة في التفاصيل ، والمحددة للأمكنة . الممثل اللاعب يخلق من الفراغ الأدوات والاشياء ، وعبر وضعية جسده يخلق الأمكنة المتعددة التي تجعلنا نسافر معه ، دون تكلف وبكل سهولة.
ومن خلال العرض يمكن الوقوف على تمظهرات اللعب من خلال :
– الأفعال : لعب الورق ،الأكل والشرب .
– الأمكنة والأجواء : المقهى ، الشارع ، سقوط المطر.
– الشخصيات : من خلال عكسها (استحضارها جسديا ) أو تغريبها .
ومن هنا توزع الأداء بين ثلاثة أساليب (تقنيات )منسجمة ومتداخلة فيما بينها . لا نحس فيها بالانتقال من تقنية إلى أخرى ، وتبقى السمة الخفية الحاضرة عند الممثلين متجلية في مفهومي ” الحضور ” و” الإصغاء” . فم خلال هذين المفهومين ، تخلق علاقة ثلاثية الأبعاد بين الممثل والجمهور ، علاقة سرية وباطنية ، ذات جاذبية وجدانية وداخلية .
قد استفاد (بروك ) في هذا السياق من الرواة الذين شاهدهم في بلدان إيران ، أفغانستان ، الهند ، وخصوصا الرواة الافارقة ، حيث يحكي الراوي أساطير الزمن الماضي ببهجة طافحة ، غرضه لا أن ينال إعجاب المتلقين ولكن أن يقتسم (يشاركهم) معهم المتعة .
لقد استطاع (بروك) (من خلال استلهامه للتجربة الإفريقية ) وخصوصا من خلال الممثل أن يستخلص (يختزل) طريقة أداء جديدة مستفيدا بذلك من جهود المسرحيين السابقين ثم من الأشكال الإنسانية للتمسرح ، ليصل في النهاية إلى تقديم ممثل طافح بتفاصيل الحياة وفي نفس الوقت له القدرة على التجريد.
ورطة المتلقي :
إن الاشتغال على هذا العرض يدخل في نطاق التجربة الإفرقية لبروك . إنه عرض منفتح على الجمهور ، أشبه بحلقة راوي إفريقي ، يحكي حكايته . ولهذا كان اختيار الإنارة لكي تبقى مضاءة جهة المشاهدين ، على اعتبار أن فضاء اللعب وفضاء التلقي متداخلين . وكل راوي يحكي حكايته لابد له من توقع رد فعل معين . إن تصفيق الجمهور في لحظات الحكي ( أو اللحظات التي يصبح فيها الجمهور شخصية مسرحية ) كان متواطئا عليه من طرف الممثلين ، فيصبح العرض المسرحي ليس نسقا مستقلا ، وإنما حكاية حاضرة نعيشها الآن وهنا . هذا التواطئ ، الضمني ،السري ، يجعل الجمهور يتورط في النهاية من حيث لا يتوقع ، لأن الراوي لن يأتي في النهاية لكي يختم حكايته التي بدأها ، وإنما الحكاية سيعسشها الجمهور فعلا ، حاضرا ، مع ماتيلدا عندما تموت كمدا بطريقة باردة وهادئة ، ولكنها قاسية تذكرنا بقصة ” أنطوان تشيخوف” موت موظف .

بوسلهام الضعيف – المغرب
(1)كتب هذا النص عقب مشاهدتنا لمسرحية (البدلة ) بتاريخ 16 أكتوبر2003 بمسرح المعهد الفرنسي مكناس ، ونشر في الملحق الثقافي لجريدة العلم .

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش