مسرحية الآنسة جولي لإسترندبرج/علي خليفة

تعد هذه المسرحية من أشهر مسرحيات إسترندبرج إن لم تكن أشهرها وهي من أكثر مسرحياته عرضا في مسارح العالم وربما تعادل في هذا مسرحية بيت الدمية لإبسن وكذلك تعد هذه المسرحية مغرية للمخرجين والممثلين بتمثيلها لإظهار مواهبهم لما يمكن أني يظهره المخرجون والممثلون من طاقات خلال تمثيلها
وأظن أن هذه المسرحية من أشد مسرحيات إسترندبرج كآبة حتى ليصيب المشاهد لها الشعور بهذه الكآبة وقد انتقل إليه من أحداثها ومن شخوصها
وأرى أن هذه المسرحية لا يجب أن تصنف على أنها تمثل مذهبا فنيا بعينه دون غيره كما راق للبعض أن يصنفها على أنها تنتمي للمذهب الطبيعي فقط ولكنها في ظني يتداخل فيها عدة مذاهب فنية منصهرة فيها
ولا شك أن أول هذه المذاهب هو المذهب الطبيعي الذي يعد إميل زولا الفرنسي من أوائل من دعوا له وطبقه في قصصه وتأثر به إسترندبرج في هذه المسرحية ومسرحية الأب ومسرحية الرباط ومسرحيات أخرى واستفاد زولا وإسترندبرج في تطبيق هذا المذهب من نتائج العلوم الطبيعية في عصرهما فقد اكتشف العلم في ذلك الوقت علوم الوراثة والأمراض والصفات المتوارثة وما إلى ذلك
وفي مسرحية الآنسة جولي يجعل إسترندبرج مأساتها ليست نتيجة لعوامل خارجية عنها بل لعوامل تسكن في داخلها فقد ورثت عن أمها كراهيتها للرجال وورثت عنها أيضا تبذلها وشططها في التحرر الأخلاقي في بعض الأحيان ولهذا فقد كانت تسخر من خطيبها الذي هو من طبقتها الأرستقراطية في حين لم تَر في رقصها مع خادمها جون في احتفال ليلة منتصف الصيف ما يخجل واستمرت في تبذلها معه وانفردت به في مطبخها في تلك الليلة وشربت معه واستغل هو الفرصة فروى لها قصة مكذوبة عن هيامه بها منذ الصغر وتطور الأمر بينهما فسقطت وغوت معه
وحين أفاقت من سكرتها وأدركت ما فعلت صعقت وحاولت أن تنقذ نفسها وعرض عليها الهرب معها ولكنها لم تستطع أن تتخذ قرارا وحين عاد والدها الكونت للبيت أدركت أنها لا بد أن تتخلص من حياتها لكي لا يعرف والدها جنايتها ويتسبب هذا في العار له وانتحرت بالموسى الذي أعطاه لها خادمها جون
ومن الممكن النظر لهذه المسرحية من منظور اجتماعي فنراها تمثل الصراع الطبقي في أوربا في نهاية القرن التاسع عشر بين الطبقة الأرستقراطية والطبقة الدنيا ومن هنا فيكون التركيز في النظر لهذه المسرحية على شخصية جون الخادم الذي حظي ببعض التعليم والثقافة ويتقن بعض اللغات ويرى نفسه يستحق أن يكون في وسط أرقى مما ينتسب إليه وفي نفسه أيضا رغبة في الانتقام من الوسط الأرستقراطي الذي يذل له باعتباره خادما عند الكونت والد جولي ومن هنا فهو يستغل سكر جولي في ليلة الاحتفال بمنتصف الصيف ويكذب عليها بقصة حبه لها منذ صغره فتخضع له وحين ينال منها غرضه يظهر شماتته فيها وفي طبقتها ويتجلى مركب حقده الطبقي لها ومن طبقتها حتى إنه وخطيبته الطباخة كريستين ليريان المرأة في طبقتهما أعف من المرأة في طبقتها وينظران إليها بازدراء بعد الحال الذي صارت إليه بسقوطها في الغواية
وكذلك يمكن النظر لهذه المسرحية من منظور مكتشفات علم النفس في ذلك العصر لا سيما ما توصل إليه فرويد من حديثه عن العقل الباطن والعقد التي قد تحدث للبعض وتؤثر في سلوكهم
وفي هذه المسرحية نرى جولي مريضة بالسادية كأمها فهي تكره الرجال وحين تقترب منهم ترغب في تعذيبهم فأمها تزوجت أباها على غير رغبة منها فخانته وحولت حياته لعذاب وأفلس مرة بسببها وكاد ينتحر ولكنه تجاوز هذه المرحلة وعاد لوضع مستقر لا سيما بعد أن ماتت وجولي أيضا تكره الرجال وكانت تعامل خطيبها بسادية في السخرية منه ولكنه لم يحتمل هذه المعاملة فتركها
وكما كانت أمها مع كرهها للرجال مبتذلة معرضة للسقوط فكذلك هي كانت كالفراشة التي تقترب من نار السقوط لتسقط فيها فغوت مع خادمها وسقطت
أما جون فهو أيضا لديه مركب نقص إنه يشعر بضآلته أمام الكونت والد جولي وحين يسمع صوته يأمره يستخذي ويرتعش ولذلك فهو يتمنى أن ينتقم من هذه الطبقة الراقية ما دام لا يستطيع أن ينتسب إليها مع ثقافته وعلمه ببعض اللغات ووجد ضالته في الانتقام من هذه الطبقة بإغواء جولي وفعل الفاحشة معها لتسقط ويشعر عند ذلك أنه يستعلي عليها وعلى طبقتها

محمد سامي/ مجلة الخشبة

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *