مسرحية (أورلاندو) لفرجينيا وولف: على مسرح الادويون في باريس #فرنسا

محمد سيف/باريس

تعيد المخرجة البريطانية (كاتي ميتشل) في هذا العرض، التفكير في المغامرات غير العادية لشخصية (أورلاندو)، التي تمثل إشكالية، في الأدب الروائي. إن الشخصية، مثلما تطالعنا الرواية، من بنات أفكار الكاتبة فرجينيا وولف. ولدت رجلا، وتحولت إلى امرأة، على متن رحلة الى تركيا، ذات صباح جميل من شهر مايو، فصارت مثل (كاتي ميتشل) التي تتأرجح بين المسرح والسينما. إن العرض بمثابة أرضية جميلة لهذه الرواية المحيرة، والتي تعلن من خلاله مخرجته، عن التزامها النسائي اكثر من محاولتها لإثباته. وهذا بحد ذاته ما يدعونا للتساؤل: هل ان هذه المخرجة البريطانية التي برزت في السنوات الأخيرة كشخصية مسرحية رئيسية على الساحة الأوروبية، لديها نمط أو نوع مسرحي خاص بها؟ لا سيما أنها تتساءل في أعمالها باستمرار عن وضع المرأة وتدين من خلالها العنف الذي تتعرض له. سواء كان الأمر يتعلق بعرضها (مرض وموت مارجريت دوراس) الذي قدمته على مسرح البوف دي نورد، أو عرض أسطورة (أورفيوس)، الذي يذهب إلى عالم الأرواح والجحيم ليحضر محبوبته (يوريديس)، على مسرح الكولين، وذلك باعتمادها على النسخة التي أعادة كتابتها المؤلفة النمساوية الفريد جيلينيك. فالمرأة في أعمال كاتي ميتشل، غالبا ما تكون في قلب اهتماماتها وقلقها المسرحي والإنساني. وشخصية أورلاندو، بالطبع، ليست استثناء.

    يتم تحول شخصية أورلاندو من رجل إلى امرأة من دون ألم، ويكاد أن يكون هذا التحول مكتملا، وناجحا لدرجة أن الشخصية نفسها لا تشعر بالمفاجئة. وبطبيعة الحال، عندما يتغير جنسها، يتغير مستقبلها من دون شك، ولكن ليس شخصيتها. وبهذه الطريقة، يُستبدل اتفاقيا، الضمير (هو) على الفور، بالضمير (هي)، مما يُمكن الشخصية من العودة إلى ماضي حياتها دون عوائق، من خلال تسلسل شريط ذكرياتها. إن شخصية (أورلاندو)، عابرة للقرون، عاشت في عصر الملكة إليزابيت الأولى في بداية القرن التاسع، دون أن تتقدم في السن؛ إنها شخصية، لطيفة ولكنها في نفس الوقت معقدة، كانت رجلا ثم أصبحت امرأة؛ تعرف الأسرار، وتتقاسم نقاط الضعف في كلا الجنسين، تتغذى من ثنائية جنسها، ومن الماضي والحاضر، ومن توقها للحياة، ورغبتها في الوحدة والسعي وراء المجد من خلال الكتابة، وهي بالتالي، لديها أوجه عده.

    تعتبر شخصية (أورلاندو) واحدة من أكثر الشخصيات غموضًا وإثارة للدهشة، والأكثر إغراءً جدًا، في الأدب الروائي. إنها نتاج خيال حر، تلعب مع وعلى جميع الحدود، تمارس الغواية، ليس لديها عمر محدد، تجذب النساء والرجال على حد سواء. ويمكن ان نقول عنها، عابرة للعصور. وتكاد ان تهرب أو بالأحرى تفلت كشخصية من جميع التصنيفات الاجتماعية، وقوانين الموت العادي، والقيود الجنسانية. استوحت الروائية فرجينيا وولف، قصتها من التاريخ المضطرب للشاعرة والروائية الأرستقراطية (فيتا ساكفيل ويست)، التي تنتمي عائلتها إلى اعلى الطبقات اللندنية النبيلة. تصور فرجينيا وولف في هذه الرواية، الأدب الإنكليزي الكلاسيكي، بشكل ساخر، من خلال استمتاعها بقص حياة شخصية (أورلاندو) المستحيلة، التي ولدت في عهد إليزابيت الأولى، في لندن الرطبة في القرن التاسع عشر، ليمتد وجودها إلى الوقت الذي يتم فيه نشر الرواية، في 11 أكتوبر 1928. وقد اعتمدت المخرجة (كاتي ميتشل) على فرقة (Schaubühne) المرموقة في مرافقة شخصية (أورلاندو) في رحلتها الطويلة، وشبابها الذي لا ينضب، الذي يمتد في هذا العرض، من عام 1928 إلى يومنا هذا. لقد أرادت هذه المخرجة في رؤيتها الإخراجية إعطاء هذا المتن الروائي، جسد مضحكا، وحساسا وقويا جدا، تعالج من خلاله القضايا الملحة للغاية المتعلقة بحقوق المرأة والعبور أو تحول الهوية وتغيرها. أليس هذا ما فعلته فرجينيا وولف، على وجه التحديد مع أورلاندو، عندما رسمت شخصية متعددة وتحت شكل حكاية خرافية؟؛ ثم أليس أن المذكر والمؤنث، مثلما تقول (ماري كلير باسكييه)، في المجلد الجماعي، الصادر عام 2014، عن دار نشر غاليمار الفرنسي: مقالات وروايات فرجينيا وولف، مجرد قطبين، وإن كل فنان عظيم هو ثنائي الجنس؛ وبالتالي، اليس هذا ما كانت تؤمن به وبقوة، فرجينيا وولف نفسها، ليس فقط من خلال حبها وعشقها، وإنما من خلال عملها ككاتبة أيضا؟

     قامت المخرجة كاتي ميتشل بتكيف هذه الرواية الغريبة للغاية لجيل جديد من ممثلي فرقة Schaubühne البرلينية، وقد مزجت في عرضها الذي قدمته مؤخرا على مسرح الأوديون الباريسي، التمثيل الحي بالاصطناعي الفوري، بالسيرة المتخيلة لشخصية أورلاندو التي خلقتها فرجينيا وولف باعتبارها تحديا أدبيا. إن شخصية أورلاندو، في هذا العرض لا تموت، ونشاهدها وهي تقود سيارة بعد بضعة قرون في شوارع لندن، مثلما نراها وهي على متن طائرة، تغير جنسها بشكل غامض في الثلاثين من عمرها، بعد نوم طويل استمر سبعة أيام … نشاهد السيارة، والطائرة على شاشة خلفية معلقة في عمق أعلى خشبة المسرح، تم تصويرهما من قبل المخرجة، بالإضافة إلى العيديد من المشاهد الأخرى، كما هو الحال في مشهد شجر البلوط الذي يلهم الشاعر الذي هو أورلاندو. لم تكتف المخرجة هنا، كما هو الحال في كثير من الأحيان، بتصوير العرض الذي يتم عرضه على الهواء مباشرة، وإنما قامت بالتركيز على الكثير من التفاصيل من خلال اللقطات المقربة (الزوم)، والكشف عما يحدث في أروقة الكواليس، قدمت من خلاله تشريح رائع للأداء المسرحي والسينمائي معا. لا سيما ان هناك صور والأفلام قد تم تصويرها مسبقا، مما اعطى عمقا روائيا للتكيف المسرحي الذي اعتمدته المخرجة، وقد نشطتها أو بالأحرى أحيتها بلحظات محورية من الرواية، اشتبكت وتقاطعت، وتناسبت، في آن واحد بشكل جذاب ولطيف، مع لغة العرض البصرية، وخاصة في المشهد الذي تقرأ فيه الراوية أمام الميكرفون، وهي تطفو في الفضاء اللعبي، مقاطع طويلة من هذه القصة الغريبة التي تتحدث عن المتحولين جنسيا، عبر الفضاء والزمن.

    إن خشبة المسرح، مثلما يطالعنا العرض، مجزأة بأماكن وأحداث مختلفة، شغلها باستمرار عشرات المصورين والتقنين، في وئام تام، خال من أي اضطراب: غرفة نوم، صالون طعام، مدفأة، وفضاء للمكياج والأزياء. وعلى أنغام خلفية موسيقية خافتة عميقة، يتتابع الممثلون من خلال أشرطة سينمائية تظهر بعضهم البعض في لقطات مقربة. بحيث كان الفيديو والمسرح في حركة ذهاب وإياب أضاءا العرض وأضافا، في أحيان كثيرة، حداثة إلى الخيال والكوميديا اللذين لجأت إليهما كاتي ميتشل في رؤيتها لمناخات الرواية. مستمدة ذلك من دون شك، من عوالم فرجينيا وولف، وتعلقها بالمسرح. وقد استولت هذه المخرجة، مثلما يبدو، هذا الشغف على أكمل وجه، وتجرأت على استحضار رواية تمتد أحداثها عبر الزمن، والفضاء، وقامت بتحديثها بشكل جيد عن طريق جعل بطلها (أورلاندو) يصبح بطلة سابقة دائما لوقتها؛ كائن عالمي، محايد، وشامل، يتحدث بدهاء، وفي ظروف غامضة، في آذان الجميع.

    الدراماتورجيا والسينوغرافيا التي اعتمدتهما كاتي ميتشل تكادان ان كونا راديكاليين. لا سيما أن خشبة المسرح لم تعد مكانا للعب يتطور فيها وعليها الممثل وهو يتحدث بشكل مباشر وفوري ومجابه مع المتفرج. كان الممثلون يتوجهون بكلامهم إلى الكاميرات التي كانت تقوم بتصويرهم أثناء عملية منتجة الصور بشكل حي. مثلما كانت القصة المصورة صارمة ودقيقة للغاية ونابعة من قلب الحدث الذي يجري على المسرح بشكل مباشر. وهذا ما أتاح للممثلين ومساعدي الصوت، والمصورين، والمسؤولين عن الاكسسوارات، على بث ما يمثل من أحداث على الشاشة بشكل حي تقريبا. بحيث خلق تسلسل المشاهد المسرحية واللقطات وامتزاجها ببعضها البعض وهما بأن الفيلم الذي يعرض أمامنا قد تم تصويره من قبل، في الوقت الذي كان يمثل ويمتنج وينتج أثناء عملية التنفيذ، ببراعة تقنية مذهلة. خاصة وأن الجمال كان أنيقا والكوادر السيمائية دقيقة.

    كان الممثلون، على خشبة المسرح يركضون وراء السيناريو، وإن (القص) في عملية المونتاج أصبح هو سيد اللعب، ولم تعد خشبة المسرح سوى وسيلة لدعم هذا التحدي التقني، الذي كان يمنعنا أو بالأحرى يحرمنا من مشاهدة ما يجري فوقها من أحداث بشكل كلي، إلا من خلال الشاشة. إن مشاركة ممثلين فرقة la Schauühne يمكن تصنيفه، إلى حد كبير، ككومبارس في مسرح مصور، -على طريقة كاتي ميتشل- الذي نادرا ما يعطى لهم فرصة الكلام بشكل مباشر إلى الجمهور. وعلى الرغم من التمكن والإتقان السينوغرافي والأدائي للممثلة (جيني كوينغ) والممثل الألماني (كونراد سينجر) وإدارتهما لشخصياتهما، اقتصر عمل مجموعة الممثلين بكليتهم تقريبا، على التوضيح الرئيسي لرواية فرجينيا وولف. وبين الصور المسجلة والمُصوَّرة على الهواء مباشرة، والمرتبطة مع بعضها البعض من خلال المونتاج الخام أحيانا، فإن الكل كان متعالقا مع الجمالية السينمائية الجديرة بمسلسل بريطاني في سنوات الثمانينات، ويكاد ان يكون بعيدا كل البعد عن طريقة عمل المخرجة (كاتي ميتشل) في مسرحية Schatten (Eurydike sagt)، التي قدمتها على مسرح الكولين الوطني، في عام 2018، الذي صورة فيه شخصية (يوريديس)، الأسطورية، كامرأة معاصرة تعيش في عصرنا الحالي، تحت نير وعبودية محبوبها (أرفيوس)، لأجل رسم صورة كاريكاتورية للرجل الذكوري المعروف باستيعابه الذاتي ورغبته في التملك؛ لقد صورة المخرجة رحلة (يوريديس) إلى عالم الموتى كهروب من الإهانة التي تعرضت لها على الأرض، وكوسيلة لاكتساب حريتها وتكريس نفسها للكتابة، بعيدا عن العالم. على عكس ما فعلت في عرض، Schatten (Eurydike sagt)، التي حولت فيه خشبة المسرح إلى استديو للتصوير، تتابع الكاميرات فريق عملها من الممثلين والمخرجين ومنشئي الصوت، في كل ركن من أركان المساحة التي صممتها. في تركيبة ابتكاري، كان بث الفيلم فيها مباشرا وتفاعلي مع اللعب الممزوج بما هو بصري، حلق عاليا، ومعرفيا، إلى حد كبير، بالكلمة، والكلام الخام الذي كان ملفتا للنظر. في حين أن شخصية (أورلاندو)، تصبح، في هذا العرض الذي نحن بصدد الحديث عنه، ومنذ الوهلة الأولى، بمثابة قفاز واقي لكاتي ميتشل.

    أثبتت المخرجة البريطانية في الماضي، مرارًا وتكرارًا ذوقها للقضايا الجنسانية والأنواع التي غالباً ما تحب أن تطرق أبوابها. ففي أعقاب الفريد جيلينيك، وعملها على إعادة كتابة قصة (أورفيوس)، وعلاقته بمحبوبته (يورديس)، عرفت كاتي ميتشل، كيف تعوم بعكس التيار الأسطوري للأحداث، مثلما قامت تماما، بتحويل شخصية (السيدة)، في عمل (الخادمات) لجان جينيه، إلى رجل متخنث. فهي معتادة في اغلب أعمالها على التحيز الراديكالي، لكن يبدو أن هذه المرة شعرت بنوع من بالترهيب الغريب، فتركت نفسها عرضت للالتهام من قبل رواية فرجينيا ولف، دون القيام بأي مشاكسة مسرحية، إن صح التعبير.

    كانت الرسومات الجدارية الحميمة والتاريخية التي رسمتها الروائية البريطانية فرجينيا وولف، من خلال السيرة الذاتية المحورة للشاعرة والروائية (فيتا ساكفيل ويست)، كافية لإعطاء المخرجة (كاتي ميتشل)، مقدار كبيرا من الحبوب القابلة للمضغ والعض، التي تجعلها على اتصال دائم مع القضايا الأكثر احتراقا. فهي تحكي على مدار أربعة قرون تقريبا، من أواخر القرن السادس عشر إلى بداية القرن العشرين، قصة شباب (أورلاندو)، الثنائي الجنس والحالم، الذي لم ينجح في العثور على مكانه في هذا المجتمع البطريركي، مما جعله يبحث فيه عن نفسه من خلال اللقاءات التي تبدو وكأنها هروب إلى الأمام. ومن رحلة إلى أخرى، ينام لعدة أيام، ويستيقظ ذات صباح قي جسد امرأة. لم يطرأ عليه أي تغير، ومع ذلك فإن مجتمع الذكوري يرسل له صور مختلفة ويمنحه مكانا مختلفا. وبين المرونة الرائعة والمحتوى الواقعي المفرط، نلاحظ ان فإن فرجينيا وولف، لم تعن كثيرا بشخصيتها، وإنما انصب جل اهتمامها على الشخصية التي خلقتها، ومغامرتها، وكيانها أكثر من سيكولوجيتها. في هذه الرواية الكبريتية التي تحاكي هذا الوقت، يحتل عنصر الروي دورا رئيسيا. بعيدا عن كونه حكواتيا بسيطا، فهو أيضا كان ممثلا، يضع نفسه على الخشبة ويقوم بتعليقات ساخرة بشكل منتظم إلى حد ما، على ما يجري حوله من أحداث.

    لقد اختارت كاتي ميتشل هذه القواعد الأدبية الخاصة لتتولى أمرها بنفسها. ولكنها حبست الراوية كما في عملها (مرض وموت مارجريت دوراس) في شكل يشبه إلى حد كبير، جرت الراديو، وحملتها مسؤولية الكشف عن خيط القصة، كما لو لم يكن هناك ضرورة حقيقية للتكييف. إلا أن العملية في المسرح، تدار، دائما بشكل أصعب بكثير من الأدب. لا سيما ان كل شيء في هذا العرض، قد وضع، للأسف، من البداية على مسافة بعيدة من الجمهور، ولهذا جاء محفوفا بالمخاطر، وخاليا من القراءة الخاصة تقريبا، وليس فيه تحيزا واضحا، سواء للمسرح أو فن المسرحة.

——————————————————————————-

محمد سيف/باريس

المصدر : موقع مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي والمعاصر – مجلة الفنون المسرحية

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني