مسافر ليل في رحلة لكسر الإيهام / ضحي الورداني

 

 

المصدر / محمد سامي موقع الخشبة

تقديم نصوص مسرح اللامعقول علي خشبات المسارح يعد مخاطرة حقيقية علي خشبة المسارح المصرية لما يحتويه النص من دلالات ومعاني لا تنفصل عن الواقع يكون تقديمها عبارة عن سلسلة متصلة من العلامات السميلوجية ، بداية من وضعية جسد الممثل ولغته المنطوقة وصولا إلي المتلقي الذي يشاهد العمل المسرحي الذي يدفع به إلي حالة من الإستفزاز العقلي وتخبط المعني ؛ كان الشاعر “صلاح عبد الصبور” واعيا بأهمية اللجوء إلي دراما اللامعقول داخل مسرحه وهو ما نجده في نصه ” مسافر ليل ” الذي اعيد أحياؤه من جديد علي يد كلا من المخرج ” محمود فؤاد صدقي ” والممثلون ” علاء قوقة ، صفوت الغندور ، مصطفي حمزة ” ليقدم داخل عربة قطار مصممة خصيصا للعرض أمام مسرح الهناجر .

تم التمهيد للمتفرج بإنه في حالة مسرحية مغايرة عما سبق مشاهدته سابقا بداية من الفضاء المسرحي الذي اشترك فيه مع أبطال رحلة العرض المسرحي ،فكانوا داخل عربة قطار مصصمة خصيصا للعرض المسرحي مما جعل المتفرج يقبع في مساحة فضاء جديدة ،وعليه تم توظيف كلا من الجزئين الأمامي والخلفي لعربة القطار حتي تكون موضع جلوس المتفرج ،اما منتصف العربة فكان مساحة العرض التي تم إستغلالها لتقام أحداث العرض المسرحي بها ؛ ومن عادة كتاب مسرح اللامعقول بدأ الدراما بحدث غير واقعي ويكاد يكون مستحيلا ثم يتم تطوير هذا الحدث طوال فترة العرض الأمر الذي يجعل منه بنية المسرحية بشكل يكاد يكون واقعي مثله مثل الأحداث التقليدية.

بدأت الأحدث براوي يصف لنا ملامح وجه الراكب وتحركاته بل وصل الأمر إلي وصف أفكار الراكب الداخلية وقد أذ الراكب في قراءة بعض الأسامي التاريخية وصولا إلي أسم الإسكندر الأكبر وهنا بدأ الموقف غير الواقعي بصرخة أحدهم قائلا إنه الإسكندر وحينما ظن الراكب إن هذا الرجل قد أكثر من الشرب ، بدأ الرجل يخرج له أكثر من وسيلة قتل وتعذيب حتي أصاب الراكب الدهشة وتبدلت العلاقة من سيد إلي تابع ومع توالي الأحداث يتضح إنه عامل التذاكر ولكنه سيتسبب في قتل الراكب في النهاية بإشراك الراوي الذي أصبح جزء هام من شخصيات العمل المسرحي.

الراوي بطلا من أبطال العرض المسرحي  -وهو ما قام بدوره “صفوت الغندور”- بداية من تسببه في لفت إنتباه المتفرج للحالة المسرحية امامه وإقامه جدلا بين العرض وبيننا فمع توالي احداث المسرحية أصبح الجميع مشارك في قتل الراكب رغما عنه فنحن نجلس معهم في القطار دون اي فعل إجابي سوي إعمال العقل بشكل يجعل هدفه هو إثارة حماس المتلقي وإيقاظه مما هو فيه ، ايضا كان هو بديل لمنولوج شخصية الراكب فقد أخذ يكشف لنا دواخل الراكب وأفكاره التي يريد القيام بها حتي يحصل علي رحلة دون مخاطر في القطار ؛ وانهي دوره في العرض المقدم بصمته عن حادثة قتل عامل التذاكر للراكب ليصل إلينا مشاعر الدمامة والهول في مثل تلك المواقف صاحبة الوضع الإنساني المضطرب .

يعتمد العرض المسرحي علي زمان غير معلوم فنحن لا ندرك الزمن الذي تدور فيه الأحداث وهو ما تم تعمد حدوثه لتكون هناك إمكانية وجود لهذه الشخصيات في ازمنة وامكنة متعددة ، ورغم عدم تحديد الزمن إلا ان كثرة الأحداث في هذا الوقت الضيق قد أعطي إحساسا بطول الزمن ،ولعل فكرة وجود عربة قطار في حد ذاتها قد تسببت في إثارة الفكرة الخاصة بسرعة الإيقاع الزمني حيث الإيحاء بحركة القطار المصحوب بالأحداث المتتابعة فالراكب يواجه الإسكندر وعليه محاولة الخضوع له حتي لا يتسبب بقتله ثم فجأة يتحول الإسكندر إلي عامل التذاكر وبعده إلي مفتش مباحث ثم يكتشف الراكب إنه هو من تسبب بجريمة سرقة بطاقة الله إلي أن يتم قتله ،وبذلك يكون المتلقي امام حالة شديدة التكثيف والسرعة في الإيقاع الزمني الخاص بالعرض المسرحي.

تقديم عرض بمثل هذه العبثية لم يكن سيحقق نجاحه الكافي إلا في حالة اللجوء إلي ” كوميديا الفارس ” التي تتناول موقفا بالسخرية تصل إلي حد الإبتذال وهو ما تم تقديمه في شخصية كلا من “الراكب وعامل التذاكر ” الذي  قام بدورهما “علاء قوقة و مصطفي حمزة” وإن تم إضافة كوميديا خاصة لشخصية عامل التذاكر حيث الأداء الجسدي الكوميدي الذي يقترب من أداء الكوميديا ديلارتي وهو ما تسبب في إثارة ذهن المتلقي من الا ينساق وراه الأحداث ولكن عليه أن يدرك عبث الأحداث؛ كان الضحك الكاشف الأمثل لتلك الحالة المتنافرة فلم يسر الخوف في الراكب وحسب بل قد وصل إلي المتفرج بدوره الأمر الذي جعل الضحكات القادمة من المتلقي تأتي متفرقة وليست جماعية كما هو معتاد بل أصبح لكل متفرج ضحكته الخاصة التي تأتي منفردة عن غيرها وهو ما يكشف حالة الضغط والتوتر التي وصلت إلي المتلقي فتسببت في إخراج تلك الضحكة لتعد بمثابة محاولة منه لتخفيف الضغط عن نفسه.

وإستكمالا للآداء الجسدي للشخصيات فلم يكن الآداء كوميدي فحسب بل تسبب في إحداث تخبط مع وظيفة البونية وهي ما تعتمد علي مسافات الإتصال الجسدي بين الشخصيات وجعل الفضاء شكلا من أشكال التواصل، وما حدث في دراما العرض لم يختلف عن دراما النص ولكنه كان أكثر وضوحا علي خشبة المسرح وأعني بذلك فعل تصنع عامل التذاكر القرب من الراكب أثناء إبتلاع تذكرته الأمر الذي جعل مساحة القرب الحميمية والتي تكون بين الأصدقاء والمقربين قد أصيبت بخلل في العلاقة لإنها قائمة علي زيف ومنه يتبدل الحال من كونه فضاء جاذب مقرب محبب للشخصيات إلي فضاء طارد منفر للشخصيات ،فتحولت تلك المساحة الحميمة إلي وسيلة لإستعباد الراكب بل وقتله في نهاية المسرحية.

وترتبط دائما حركة الممثل بما حوله من إغراض فلا يستطيع الإستغناء عن الإكسسوارات المسرحية ،وهنا لن اتحدث عن الورقة والقلم اللذان استخدما لكتابة التحقيق ولا عن الدرج اسفل المقعد الذي أخرج منه تلك الأشياء المكتبية ، بل سوف أتحدث عن الديكور المعدني الذي أصبح مستوي آخر في حد ذاته حيث لجأ عامل التذاكر إليه بالصعود إلي مستوي معدني مثبت في اعلي الهيكل المعدني وجلس عليه في صورة تحمل العديد من الدلالات المفرطة ككشف العلاقة في السلطة بين من يمتلكها وبين من يتبعها وايضا صورة محاكاة لمقعد العرش الإلهي الذي كان فارغا بعدما تم سرقة بطاقة الله وبمثله فقد ظل فارغا طوال احداث المسرحية حتي جلس عليه عامل التذاكر اثناء كشفه حقيقة الأمر في إنه هو من سرق بطاقة الله.

إستكمالا لحالة اللامعقول وذكاء فريق عمل العرض ومخرجه “محمود صدقي ” فقد تم تسليم بطاقة فريق العمل إلي الحضور علي هيئة تذكرة قطار خضراء اللون ،لنصبح جميعا مشاركون في حادثة التستر عن قتل الراكب فنحن ركاب معه في تلك الرحلة وايضا نحمل البطاقة الخضراء التي تحمل دلالات إمكانية أن يكون احدا منا هو الراكب القادم !

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *