مداخل لدراسة المسرح.. بين الممارسات المحلية والقالب الأوروبي – د. يوسف عيدابي

مداخل لدراسة المسرح بين الممارسات المحلية والقالب الأوروبي

(د. يوسف عايدابي)

  1. هوية المسرح
  2. الممارسات المحلية والقالب الأوروبي
  3. صوت الذات
  4. الطريق إلى المسرح، عدم ترجيح البديل ورفض التبعية للغرب
  5. مشكاة غربية ترى التراث غير ناضج، والمفهوم المغلوط للظاهرة المسرحية
  6. نحو صناعة للمسرح

(1)

هوية المسرح

المسرح ليس خاصية أوروبية، إنه انعكاس لاحتياجات مجتمعية.. وتعبير عنا[1]:

“هذا هو الأمر، أيها الصوت الأبيض، يا صوتاً ذا غرض، يا صوت التزييف.

يا صوت القوي ضد الضعيف،

يا ضمير المستغل القادم من وراء البحار،

إنني لم أكره الآذان المشربة بالحمرة، وإنما رحبنا بأصحابها وكأنهم مبعوثون، آلهة.

بما طاب من الكلام، وبما حلا من الأشربات.

كانوا يريدون سلعاً، فاعطيناهم كل شيء: عاجاً، وعسلاً، وجلود حيوانات ملونة، وتوابل، وذهباً، وأحجاراً كريمة، وببغاوات، وقروداً.

هل أتكلم عن هداياهم الصدئة، وعن خرزاتهم الحائلة؟

نعم، وحينما عرفت بنادقهم فطنت، وصار العذاب شغلي،

عذاب القلب والروح”

(ليوبولد سيدار سنجور)

قد تكون إشكالية المسرح الإفريقي نموذجاً هيكلياً طيباً جداً لإشكالية ما يعرف بـ (مسرح العالم الثالث)[2]، خصوصاً والمسرح حالة – ظاهرة، بالمنظور الأوروبي الأبيض، لم تعرف إلا عبر أوروبا كظاهرة مستوردة – ظاهرة استعمارية، تحولت من مخدر تبشيري إلى وظيفة اجتماعية ثورية بعد استقلال ما عرّفته أوروبا الاستعمارية بالعالم الثالث، ثم حولته إلى البلدان النامية، ثم قسّمته إلى جزر اقليمية وعرقية، واصطلحت كثيراً في تسميته حتى بـ:(العالم الرابع)، (العالم المتخلف).. إلخ، بل واستكثرت على بعض بلدان آسيا وإفريقيا الظاهرة المسرحية، عبر قوانين جد متعسفة، وفرضية أن المسرح هو التجربة الأوروبية، وما دونها باطل، وأن كل ما خرج عن معطف (أرسطو) فقط هو الرصين، وما عداه ثرثرة، وحكي، وخيال ظل، ونو، وكابوكي، ورواة، وسير، وملاحم خرافية، لشعوب همجية. وقد ترسخت هذه النظرة الفوقية، وقبلنا نحن بها عن طواعية، فقد تعلمنا، على أصوات أوروبية، أن نعالج (مسرحنا) من معطيات أوروبية، وبالتالي صنفناه أوروبياً، فعاثت (الدبلوماسية الثقافية)[3] – إن لم نستخدم مصطلحات التغريب، والتجنيس الثقافي، والاستعمار الثقافي – في أوساطنا حتى صرنا إلى بلبلة واضطراب واغتراب وانحطاط. ووسط ذات الخراب الثقافي الذي سببته أوروبا وفترات قهرها الاحتلالي الاستعماري والامبريالي، تشكلت دوائر لغوية ودينية عملت هي الأخرى على عزل تجربة المسرح العربي عن روافد تجربة العالم الثالث الأخرى، فما أفادت ولا استفادت إلا مؤخراً جداً من الثراء العريض للتجربة المسرحية في أكبر مجموعة إنسانية حضارية رفدت التراث الإنساني برموزه وشواهده وجذوره، وصرنا إلى تلاحم مصيري، وترابط لابد منه.

وإذا ما استعدنا التجربة المسرحية العربية، فإننا نؤرخ لها – واقعين في دونية ثقافية لا مناص منها إلى حين تحررنا من الفكر الغربي – منذ أواسط القرن الماضي وبدايات هذا القرن العشرين، بمسرحية (مارون نقاش) “البخيل” المأخوذة عن مسرحية (موليير) الشهيرة، ويعود (تعريب) النقاش إلى عام 1847م؛ بينما نؤرخ للتجربة المعاصرة بـ “مصرع كليوباترة” لـ (أحمد شوقي) في عام 1927م!! يجب ملاحظة أن النقاش عالج مسرحية (موليير) الأوروبية بشكلٍ تراثي محلي فرجوي شعبي، فيه روح مرح وهرج ومزج بالموسيقى، بينما ذهب شوقي إلى التاريخ الذي هو عظة وعبرة وصرامة لا فكاك منها على نحوٍ يحاكي الأوروبي (المسرح الأدبي الكلاسيكي) من مثل مسرح النهضة، حيث عالج كلاهما موضوعة التاريخ بنحوٍ مختلف جاد وصارم وشعري. ونقع بعدئذ في اشكالية المسرح الأوروبي حيال المسرح الشعبي العربي، وهي الاشكالية التي لا تزال تجعل المسرح في بلدان العالم الثالث في مهب الريح، أو في مفترق الطرق: مسرح أثيل أصيل، أم مسرح أوروبي مستورد؟! وصرنا إلى دراسة المسرح في بلداننا منطلقين من الغرب وتاريخ شكله وقالبه المسرحي، مضاهين بالتجربة اليونانية، أو مقارنين لمسرحيينا بالغربيين، مكرسين حقيقة لدونية ثقافية – أو، في أحسن الأحوال، لترفيع قدر كتّابنا الأقزام أمام العمالقة في الفكر الأوربي،متجاهلين أو متناسين لطبيعة وحقيقة المسرح في المجتمع، بمعنى أننا نمضي في طرح أسئلة مضللة من نحو: لماذا تبرز فنون بعينها في مجتمعاتٍ بعينها، ولماذا هو هذا النوع من الفن في مجتمعٍ معيّن دون غيره من الفنون، وما هو دور هذا الفن أو ذاك ومدى تأثيره على مجتمعٍ ما؟

ولا شك أن الإغريق – وهم أوروبيون – قد نجحوا، بفعل عوامل وظروف وأحوال معينة، في تطوير الدراما المسرحية، وتسجيل نماذج منها، وتركها مدونة كاملة للانسانية، ولكن الذي لا شك فيه أيضاً أن الدراما – المسرحية وغير المسرحية – ظاهرة اجتماعية وإنسانية عامة، لا يمكن أن ينفرد بها قوم دون قوم، وحضارة دون حضارة، ولا فرق في ممارسة الظواهر الاجتماعية والإنسانية بين الزنجي والآري، أو بين المصري واليوناني، أو بين الأمريكي والهندي الأحمر، وما الفرق في الممارسة إلا فرق الكم والدرجة[4].

المسألة التي تبقى، فيما يتعلق بالفن والمجتمع، هي: هل الفن المعين هو تعبير عن المجتمع؟ أو، مثلما يقول (علي شلش): “الضروري أن تكون الدراما في أي مكان هي بنت البيئة وبنت المجتمع[5]“. وعليه، وبذات القدر، ألاّ نعوّل كثيراً على التزمت في مسائل فشل نقل الدراما الإغريقية عن الدراما المصرية القديمة، أو تأثيرات (تيرنس) الروماني الإفريقية (فأصله إفريقي)، مثلما لا نعرب عن حقيقة التبادل الحضاري والتأثير والتأثر.. وعليه، فإن مقولة إن المسرح خاصية حضارية أوروبية هي قول فيه التزمت والعنجهية والعنت، وهو قول يختلف عن القول الآخر بأن أوروبا طورت الفن المسرحي.. وإذا ما اتفقنا على أن الديانات هي أصل الفنون، والفن المسرحي بخاصة، فإننا لابد أن نؤمّن على مقولة (مزيسي كونيني) الإفريقية: “لا شك أن الدراما الأوروبية في العصر اليوناني القديم والعصور الوسطى كانت تشترك في كثير من الواحي مع الدراما الإفريقية[6]“. ولابد من ملاحظة أن المقولة تقول (بالاشتراك والمشاركة) لا غيرهما، وهي خاصية حضارية، إذ أن التشابهات والمضاهات بين تراث الحضارات وما أفرزه من حضارة إنسانية خاصية عامة مشتركة، ولعل – أبرز مثال لها التراث الشعبي، والذي يمكن أن تتوافر فيه “موتيفات” مشتركة لدى أكثر الشعوب الحضارية المتقدمة، وأيضاً لدى أكثر الشعوب تخلفاً حضارياً!!

وفي السياق المسرحي، يمكن أن تصبح مقولة النيجيري (جويل أديدجي): “إن الغريزة الإنسانية في التشخيص والتعبير الشعائري.. تؤدي بهما إلى الدراما المتطورة[7]“، وهو قول لا يمكن أن تدحضه النظرية الغربية في الدراما. وإذا ما تابعنا هذه الفكرة الأساسية، فيمكن أن نرجع الدراما، لا في بلدان العالم الثالث، بل في العالم بأسره، إلى الدين، وهو مولدها.. يكتب (جويل أديدجي): “إن الدين هو أساس التطورات الدرامية في لغة اليوروبا، كما هي الحال في معظم ثقافات العالم.. وقد أثرّت عبادة (أوباتالا)، (معبود اليوروبا)، في نمو الدراما الدينية وظهور المسرح[8]“.. لنصل إلى أن المسرح خاصية إنسانية مشتركة، وليس بضاعة أوروبية، إذا ما راعينا ما أسلف ذكره: “أن يكون المسرح (الفن عموماً) ابن بيئته وابن مجتمعه. وإذا ما أخذنا مقولة (الفن والمجتمع) حيال المسرح الإفريقي مثلاً، كتجربة جد مشابهة لتجربة المسرح العربي، فاننا يمكن أن نؤكد “أن المسرح الإفريقي ذو أصول اجتماعية، وأنه انعكاس لاحتياجات اجتماعية في الوقت نفسه[9]“. ولعل في الدراسة الجامعية التي نشرت للسنغالي (بكري تراورية)، في شأن (المسرح الزنجي الإفريقي ووظائفه الاجتماعية)، القدر الوافر من التأكيدات الوثائقية والمرجعية لهذه الأصول والوظيفة الاجتماعية، والتي لخصها (علي شلش) في ثلاث وظائف رئيسة:

  • (المسرح مرآة للحياة، متصل بالطبيعة الكونية).
  • المسرح أداة للمحافظة على تقاليد الجماعة وقيمها.
  • المسرح أداة تعليم وتثقيف)[10].

وذات التأكيد نجده لدى (وولي شوينكا)، إذ يقول: “إن وظيفة الفنان في المجتمع الإفريقي كانت دائماً أن يسجل تطلعات وتجارب مجتمعه، وأن يكون في نفس الوقت صوت الرؤيا في عصره”. وفي ذات السياق، يمكن أن ندرج تأكيد (كونيني) حول الدراما الإفريقية كونها: “دراما فلسفية، بمعنى أنها تُعنى بتعريف علاقات الإنسان بالقوى الكونية[11]“، وهكذا.. ولا أخالنا في حاجة إلى تأكيد أن الفن ابن المجتمع في بلدان العالم الثالث، وأن المسرح أيضاً لا ينفصل عن هذا كثيراً، ولكن وُجد مَنْ فصله قسراً، وطرده إلى حيث يبقى تابعاً.. فمتى ينهض التابع؟

(2)

الممارسات المحلية والقالب الأوروبي

المسرحي الصيني (شين جونج مين) عاين فروق الدراما الغربية عن الأشكال المسرحية الشعبية في بلدان العالم الثالث، وبخاصة تجربة الدراما الصينية، ووصل إلى فروق رئيسة، يمكن ايجازها في[12]:

  • ترتكز الدراما الغربية على المحاكاة (التقليد/النسخ)، بينما الشكل المسرحي القديم في دول العالم الثالث يعتمد على (التشابه) مع الحياة والتعبير عنها.
  • تؤكد الدراما الغربية على (السرد)، وعلى نظرية ابداع (الأنماط)، بينما تؤكد الأخرى على (الغنائية).
  • تعتمد جماليات الدراما الغربية على العقلانية (التصنيف – التبويب)، أما المسرح القديم في دول العالم الثالث فيعتمد على (الصورة المرئية)، والميل إلى استخدام الخبرات العملية والصورة الحية، مما يؤدي إلى اكتشاف القانون الجدلي للفن.
  • الدراما الغربية حادة، سواء في مضامينها أو في تصنيفاتها للأشكال الفنية المختلفة، بينما تتميز الأخرى بالشمولية، فالعقدة في المسرح الصيني لا تُبنى من خلال الأفعال وحدها، بل من عناصر متعددة، كالأغاني الشعبية والرقصات وخدمات الفن التقليدية، مما يجعل المسرح ممتلئاً بالحيوية والبهجة[13]، وهنا بيت القصيد.

لابد من تمييز للذهنية، ولابد من خروج ومروق على الذهنية الغربية.. وما أوضحه (شين جونج مين) صحيح على الدراما العربية الشعبية، وعلى الدراما الهندية أيضاً، بل وعلى الدراما المصرية القديمة، والدراما الإفريقية كذلك، إذا ما تمكنا من النهوض في وجه المعالجة الغربية لفنوننا[14].

ولعل هذا يرجعنا إلى مقولة (بكري تراورية) أيضاً، إذ يقول: “لا يمكن دراسة المسرح الزنجي الإفريقي بمعزل عن الغناء والرقص[15]“، وهي مقولة لا تبعد قيد أنملة عما يمكن أن يؤكده أي مسرحي آخر، آسيوي أو أمريكي لاتيني لا ينفصم عن تراثه ووظيفة فنه الاجتماعية.. وقريب جداً من (شين جونج مين) ما يؤكده (تراوريه): “الإفريقي لا ينطق بشيء جدي أو غير جدي دون أن يدخل الحكم والأمثال – فالوظيفة الاجتماعية للكوميديا الإفريقية الزنجية هي تدعيم تماسك الجماعة[16] “.

ربما يجب هنا أن نميّز المسرح العالمثالثي:ليس هناك من (نظارة) بالمعنى المتعارف، بل يوجد مشاركون متفاعلون، ومعايشة تفاعلية إبان العرض – هذه التظاهرة الجماعية تجعل من العقدة المسرحية حالة من التشارك والتكامل والتداخل والتفاعل في الزمان والمكان، حيث الفعل والأحداث، وعليه فهي كمسرح تغاير وتخالف وتختلف عن البنية الدرامية الغربية (الأرسطية)، هي في حالة الدراماتورجية المتحوّلة في أحوال وأحداث وحالات ومواقف ومتعلقات مسرحية غير مقتصرة على (الفعل) وحده.

وإذا ما عدنا إلى فروقات وفوارق الدراما الشعبية والمسرح الغربي، فيمكن أن نشير إلى ما عبر عنه (ميزيس كونيني) في دراسته: “مدخل إلى الأدب الإفريقي”، قائلاً: “إن التعبير الدرامي الإفريقي يعتمد على الرمزية.. وقد تتخذ الرمزية أشكالاً متباينة، وفقاً للتاريخ الثقافي في كل طائفة اجتماعية بالذات؛ ففي بعض الجماعات تستخدم الأقنعة لتبرز المعنى وتلقي عليه الضوء. وللأقنعة نفسها لغة راسخة القواعد، بحيث يمثل كل نمط من الأقنعة مجموعة من القيم[17]“، وهو تعبير لا يختلف كثيراً عما قصد إليه (يوسف إدريس) في دعوته لايجاد مسرح مصري، عربي، الذهنية فيه مصرية عربية، لا غربية.. ولقد فصّل (إدريس) في دعوته حول البطولي والمأساوي عند العرب وعند الأفارقة والأوروبيين بعامة، ونعتقد أن فهم (اللوغوس)، مثله مثل مفاهيم المأساوي والبطولي متباينٌ ومتغاير ما بين الأوروبي والإفريقي أو العربي والآسيوي، مما يستدعي عدم الركون إلى النظرة الأحادية إلى المسرح وقبول ما لا يقبل التداعيات العالمثالثية.

ويمكن أن نخلص إلى أن المسرح – الدراما خاصية إنسانية، تفرزها المجتمعات، وتوظفها لاحتياجاتها، وأن ما تعارفنا عليه كنظرية للمسرح هو تطوير غربي، استنبته تاريخ ثقافي معين، رفد به الإنسانية، وأن التقوقع فيه يعني الاغتراب عن الواقع، بينما الافادة منه تعني استكناه روح العصر، والوقوف بندية أمام ثقافة الغرب. ولعل هذا ما أشار إليه (ليوبولد سيدار سنجور)، عندما أكد على لسان (شاكا) في قصيدته الدرامية المرفوعة إلى شهداء (البانتو)، قائلاً:

“جاءني الرسل بما يأتي:

إنهم ينزلون الأرض بقوانين ومثلثات، بفرجار ومساطر حاسبة باهاب أبيض، وعيون بارقة، بشفاه رهيفة، وحديث جاف وبرعد من سفائنهم.

فاستحلت إلى ذهن وقّاد، وذراع تهتز.

ولم أصر محارباً أو جزاراً.

وإنما أصبحت، مثلما قلت أنت، سياسياً شاعر[18]“.

وهذا ما يقودنا إلى رفض الآخر – الاستعماري الأوروبي، مما عنته حركة “الزنوجة”، والتي قادها (ليوبولد سيدار سنجور) و(ايمية سيزار)، والأخير هو مبتدع المصطلح.. وقد عنت “الزنوجة” لدى (سيزار) مفهوماً ثورياً، بينما كانت لدى (سنجور) منطلقة من مفهوم حضاري كاثوليكي، وصارت فيما بعد إلى مفهوم وطني تحرري لدى شعراء جيل الحاضر، وعلى رأسهم الرافض الأول (ديفيد ديوب). الذي يهم في حركة الزنوجة، أنها جاءت مناهضة للاستعمار الأوربي، ودعوة إلى رد الاعتبار للإفريقي، والاعتراف بإنسانيته.. وكانت أدب رفض، ودعوة لاكتشاف إفريقيا بحثاً عن أصالتها وجذورها، باعتبارهما منبع الالهام الذي لا ينضب، يقول (سنجور):

“الزنوجة والاستقلال شيء واحد، فهذه الحركة كانت بادئ ذي بدء، كما قلت، (حركة رفض) أو بتعبير أكثر دقة (تأكيداً للرفض) – وهي مرحلة لابد منها في حركة تاريخية تمثل الرفض للآخر، رفض (الانصهار) في الآخر، و(الذوبان) فيه. وبما أن هذه الحركة تاريخية، فهي أيضاً بالضرورة ديالكتيكية، فرفض الغير ما هو إلا تأكيد للذات[19]“.

وبهذا النحو يبدأ التابع نهوضه.

(3)

صوت الذات

نقرأ (ليوبولد سيدار سنجور):

“ليس من الحقد في شيء أن يحب أحدهم قومه، أقول ألّا سلام والسلاح، لا سلام والطغيان، لا أخوة بلا مساواة. لقد أردت أن يكون الجميع أخوة”.

هذا التقرير الطموح من لدن (سنجور) لا يبتعد، وإن اختلفت تفصيلات النزوع الإفريقي بصوت الذاتية الإفريقية، عن النهوض العربي، وبخاصة بعد نجاح ثورة 23 يوليو، وشموليتها العربية التحررية، ووقوفها في خندق الطليعة المواجهة للاستعمار والامبريالية، ومن أجل الهوية الثقافية والذات العربية – ولا شك أن دراسة رصينة لحركات التحرر الأفرو – آسيوي، أو لكتلة العالم الثالث، جدير بكشف رصانة أدب التحرر الذي أفرزته الخمسينيات والستينيات من هذا القرن العشرين، منذ مؤشره التنظري السياسي الأول: “مؤتمر باندونج”، وما تلاه: ويمكن نظر أصوات (فرانز فانون)، (مالك حداد)، (باتريس لوممبا)، (كوامي نكروما)، (جوليوس نايريري)، (محمود أمين العالم)، (محمد الفيتوري).. إلخ، في شأن الأدب الجديد، ناهيك عن الدعوات البارزة للإفريقية والقومية، وما لحق بها من أدبيات نتاج ابداعي، مما لا يحسن أن نطرحه في عجالة، فالوقوف عنده ضرورة لتحديد حدود الفكر الإفريقي، العربي – الآسيوي، الذي طرح في مطاليع حركة التحرر الوطني في بلدان العالم الثالث – وهذه أطروحة جديرة بالبحث المتأني[20] المهم ها هنا التأكيد على أن هذا الابداع الجديد استهدف بانقلاب ثوري صياغة الوجود المغاير والحياة الثقافية الجديرة بإنسان العالم الثالث.. كما يمكن من ذات المنظور العربي، لتبين نقاط التلاقي الكثيرة وتلاقح التجربة كضرورة، وأهمية أن نهتف: يا كتاب العالم الثالث اتحدوا في مواجهة مزالق الثقافة الغربية الامبريالية: إنها الدعوة المشتهاة التحقيق، وليست بصرخة في وادي التيه.

(4)

الطريق إلى المسرح، عدم ترجيح “البديل”، ورفض التبعية إلى الغرب

“علمنا الغرب، وللأسف، احتقار المصادر الشفهية للتاريخ، واعتبار كل ما هو غير مكتوب بلا أساس؛ ولهذا نجد بعض المثقفين الأفارقة ضيّقي الأفق، ينظرون بازدراء واحتقار للرواة وهم وثائقنا الناطقة، ويعتقدون أننا نجهل كل شيء تقريباً عن تاريخنا لانعدام الوثائق المكتوبة.. وهؤلاء ببساطة يعرفون بلادهم عن طريق الرجل الأبيض”

(جبريل تمسيرنيان، غينيا)

“هل عرف الأفارقة فن المسرح؟؟”

لشد ما أخشى أن يعتقد البعض أنني أحاول صيغة هاملتية للسؤال، أو أنني – مع سبق الاصرار والترصد – أريد أن ألج دائرة الجدل البيزنطي، ذلك أن السؤال بصيغته العربية قد طُرح وأفضى إلى أوخم العواقب – ألم يجزم نفر غير قليل بأن العرب لم يعرفوا الفن المسرحي إلا مستورداً من أوروبا؟ إن المسطرة الأرسطوطاليسية قد أقصت الفن المسرحي عن الأفارقة والعرب وما يعرف بالعالم الثالث، وأدرجت كل ما توفر تحت عنوان “الدراما التقليدية الشعبية”، ورفضته كفن (رفيع)، فهو (الما قبل المسرحي، الفولكلوري). وبالتالي يتبع المسرح للغرب، ولا ينظر فيه إلا الدراما الحديثة، عربياً وإفريقياً وفي كل بلدان العالم النامي (و”العالم النامي” مصطلح غربي أيضاً)[21].

على أنني أطرح السؤال مجدداً: “هل عرف الأفارقة المسرح؟!”.

وحتى لا يجيب الصوت العربي، أترك الاجابة لصوت إفريقي، يقول (يونس توري، من مالي):

“للتعريف بالمسرح، لابد من التعرض إلى المفهوم، ويتمثل عندنا في أنه نشاط فني نعبر به عن ثقافتنا، وهو نشاط تعليمي، نطال به غايتنا الثقافية والاجتماعية، التي تهدف إلى الاحتفاظ بهويتنا وشخصيتنا الوطنية، والارتقاء بها إلى المستوى المتقدم الذي نريد. ومن هنا يكون المسرح “فناً له هدف، والهدف هو الوصول إلى غاية، وهو وسيلة إذن للتعبير، نتحاور بها مع تاريخنا وثقافتنا، فنستقرئ بها مستقبلنا، كما نتجاور بها مع الآخرين في عمل مخاطبة الحضارات العالمية[22]“.

بهذا الفهم لابد أن يطرح السؤال: أي مسرح؟ أي شكل؟ ودون خشية التوصل إلى الاجابة العربية التي تردنا إلى الغرب، نتابع ما يقوله (توري):

“لم يكن عندنا مسرح خاص، أو خصوصي: متميز”. وإلى غاية السنوات القليلة الماضية تعاطينا مع أشكال عديدة، مدارس عدة، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، كنا نقدم مسرحاً باللغة الفرنسية، لكتاب من مالي ومن البلدان الإفريقية الفرانكفونية، ومن ذلك قدمنا مسرحية “الأخوة جيرو” للكاتب النيجيري (وولي شوينكا)، كما قدمنا “موت تشاكا” للمالي (سيدو بابا)، ثم مسرحية الكاتب التوغولي (رانسو): “هيا نلعب الكوميديا”.. ورغم النجاح الفني والأدبي الذي حققناه، وجدنا أن هذه الأعمال لا تستجيب للأهداف المعلنة: “مسرح يطال الهوية، ويحتفظ بالشخصية الوطنية”، خاصة وأن أغلب الماليين لا يتكلمون الفرنسية.. ولهذا أردنا أن نؤسس مسرحاً يتكلم بلغة البلد (البمبارا). أفرز الأمر السؤال: لماذا لا نبحث عن “ذات” الآن؟ عن شكل تعبير فرجوي غير منبت؟ لماذا لا نقيم مسرحاً (مالياً) بشكل نابع من تراثنا، خاصة وأن جيلنا قد اكتشف أو بدأ يكتشف أن (الوصاية)، المفروضة علينا من الغرب، ليست في صالحنا، وأن الوهم الذي زرعه الاستعمار فينا، والمتمثل في أنه ليس في بلداننا من أشكال للتعبير والفرجة غير تلك المستهلكة فولكوريا؟! وانطلقت خلية بحث مكونة من مثقفين وطنيين، توصلت إلى اكتشاف (شكل تعبير متجذر في تراثنا)، وهو (الكوتيبا). بهذا النحو تنطرح عدة أمور:

أولها: إن المسرح انعكاس لاحتياجات اجتماعية ووظيفية ودور اجتماعي، بمعنى أنه ليس خاصية أوروبية.

ثانيهما: إن الفصل الغربي بين التيار الشعبي والتيار الأدبي في الدراما والمسرح، عربياً وإفريقياً، لا يخدم الوظيفة الاجتماعية للمسرح، بقدر ما يتبع خطى الغرب، والنظرية الغربية للمسرح، وبنحو خاص لأننا صرنا في الوطن العربي وفي آسيا وإفريقيا وبلدان العالم الثالث نقبل بالمؤسسة المسرحية الغربية، (أو تلك التي نشأت على النمط والنظرة والمعالجة الغربية)، بينما نرفض أو نتشكك كثيراً في الدراما الشعبية وتقاليد الفرجة والتعبير الدرامي الشعبي، مما قطع الصلة بين الموروث – الذاكرة – الذهنية والمسرح كوظيفة اجتماعية.. وهذا ما خلق الدونية الثقافية، وجعل المسرح، كظاهرة جديدة، ليست من صلب المجتمع واحتياجاته، بل هي لنخبة وفئة جد محدودة. وجعلنا ننظر إلى المسرح كفن مستورد، غربي الأصل نقدمه للخاصة إذ هو لا يخدم العموم، بينما أُهمل التراث الحقيقي، ولعل هذا ما جعل المسرح، (على نهج أرسطو والخشبة الايطالية)، بعيداً عن الغالبية العظمى من الناس، وصار المسرح فن فئة أو طبقة اجتماعية دون غيرها، بينما تقاليد التعبير الشعبي والفرجة الشعبية أثيلة وأصيلة ومتجددة في كل مظاهر الحياة اليومية العربية والإفريقية.. إن الفصل الحاد الذي أوجدته المعالجة الغربية للمسرح العربي، وللمسرح الإفريقي، جعلت من المسرح طريداً من حياة العامة، وترفاً مسموحاً به للخاصة.. ولكن ما جدوى المسرح بلا جمهور؟ ما أهمية المسرح وما نفعه بدون جمهور؟[23]

عربياً، وقعنا في ذات الاشكال: مسرح شعبي أم مسرح (أدبي) غربي؟!

وفي إفريقيا نواجه ذات الاشكالات. مسرح تقليدي أم مسرح على نمط غربي؟

ولكن في إفريقيا الاشكالات أكبر وأكثر: منها قضية اللغة، (ولحظنا الطيب، فإن المشكلة عربياً لم توجد في غالبية البلدان العربية، إلا على مستوى الفصحى والدارجة).

وذلك أن شعوب إفريقيا تتحدث بمئات بل آلاف اللهجات المحلية، ولا تظهر اللغات الأوروبية إلا في أوساط برجوازية المدن، أو تلك الفئة التي تعلمت في الغرب، أو خضعت للتجنيس الثقافي الكولونيالي.. وما تزال مشكلة إفريقيا تشتمل على خراب ثقافي هائل بسبب اللغات الأوروبية في مواجهة اللغات الوطنية – وهذا أمرٌ تعاني منه حتى الجامعات الوطنية في العالمين العربي والإفريقي.

وسط هذا التشويه والخراب تنطرح اشكالية مسرح التراث (بمجددات يرد ذكرها لاحقاً)، والمسرح الأرسطي:

المسرح الشعبي جماهيري، ويستخدم لغة الجماهير – وهي لغة لا تطالها المؤسسة الغربية، بينما المسرح الآخر يستخدم لغة أوروبية، تتيح له النشر والانتشار في الغرب.

يقول (على شلش): “من الطبيعي والحال هذه، أن نجد التيار الشعبي بعيداً عن متناول القارئ، على حين نجد أن التيار الأدبي في متناول اليد تقريباً”، ولكن، هذا بالضبط مكمن الاشكالية الوظيفية: المسرح الشعبي قريب من الجمهور، الذي من أجله يقوم المسرح ويتوظف.. بينما المسرح (الأدبي) لا يستجيب، فيما يقول (توري)، للأهداف التي من أجلها تؤسس الظاهرة المسرحية، ذلك أنه لا يصل إلى الجماهير – فهو ليس بلسانها ولغتها الحميمة – هذا هو العائق الأول الذي يواجه المسرح الرسمي(!) في المجتمعات الإفريقية (وبعض المجتمعات العربية أيضاً).

ولعل العائق العربي هو في استخدام شكل غربي (العلبة الإيطالية) بعيد عن تقاليد التعبير والفرجة العربيين، وبالتالي ينأى عن الجمهور العريض (لا توجد قاعات مسرحية إلا في البعض القليل من كبرى المدن)، ويتقابل والذهنية العربية (إذ أننا في الحالة العربية لا يمكن أن نتحدث عن عائق لغوي بالمعنى العميق) – يقول (موريس سونار سنجور، السنغال): “لا وجود لمسرح بدون جمهور وبدون هدف واضح.. إن المسرح لابد أن يكون في خدمة الجماهير[24]“. ولأجل هذا، فقد أحيا المسرح الوطني السنغالي قضية التقاليد الشفاهية الشعبية، وقضية التعبير، وطرائق الفرجة الشعبية، وكوّن ورش عمل مسرحية لاستنباط شكل لصيق بالبيئة والناس.. وهو ذات الهم العربي، الذي بدأ منذ أوائل الستينيات – في اطار المسرح العربي المعاصر – بدعوة (نحو مسرح عربي)، يستلهم أشكال التعبير والفرجة العربيين، وهي دعوة لا تزال في مهب رياح التبعية الثقافية، لا تجد متنفسها إلا في القليل النادر، وتظل محجوبة عن نطاقها الواسع.

لعل المؤسسة العربية الرسمية لا تُفضل المسرح إلا نخبوياً، لفئة ضامرة قليلة متعلّمة غربية التفكير، غير عضويّةٍ (بالمعنى الغرامشي)، ولهذا السبب فهي أميل إلى مسرح العلبة الإيطالية الذي لا يتوفّر إلا قليلاً مما يمنع الإنتشار الواسع للظاهرة المسرحية الشعبية المتفاعلة مع الناس والخادمة لقضاياهم.

تظل الاشكالية المسرحية: المسرح التابع تبعية غربية شئنا أم أبينا – والبحث (عن شكل تعبير فرجوي غير منبت عن ذهنيتنا)، هو الذي يتسق مع أهداف المسرح ووظائف مجتمعاتنا.. هل بالإمكان حسم هذه الصراعية لغير “المسرح خاصية أوروبية”؟ يجيب (يونس توري) أيضاً: “المسرح من البيئة (الكوتيبا)”، ويشرح:

“إن الذي يريد التوغل في التراث الإفريقي، سيجد أشكال الفرجة والتعبير هي غير المعروفة عالمياً، ومنها “الكوتيبا”، وهو شكل يعتمده الشباب عندنا في القرى في مواسم الراحة بعد موسم الزرع والحصاد[25]. وأنت تعرف أن للشباب قدرات جديدة، لا يمكنها الركون إلى الراحة في غير أوقات العمل، وللتفريغ يتقدم الشبان بعمل (كوتيبا)، وتتمثل في: الإعلان عن طريق (الطبل)، الذي يسمعه الناس، فيهبون إلى ساحة القرية، حيث يجدون فرجة للمشاهدة: يقوم فريق الشبان بالتمثيل، الذي يعتمد على تمثيل لشخصيات من القرية، تشخيصها وتقديمها بشكل كاريكاتوري: المخدوع، المزارع السيء الحظ، الفلاح الماجن، المرأة المخلصة.. إلخ. “كوتيبا” هي مجموعة اسكتشات ومشاهد مُرتجلة تفتح باب المسرح أمام الجمهور الحاضر، لاقامة حفل كوميدي كبير، تمتزج فيه الموسيقى بالغناء، بالايقاع، بالكلمة الناقدة.. هذا هو “الكوتيبا”، الذي نريد أن نقدم انطلاقاً منه مسرحاً يقول للغربيين: أنتم تقولون لنا إنه ليس لدينا عرض فرجوي خاص بنا.. هذا “الكوتيبا” مثال على تجاهلكم. نحاول اقناعهم بالحجة المادية، وأن إفريقيا لديها ما تقدم لهذا العالم، تعتمد في ذلك على المطالبة بارساء نظام ثقافي عالمي جديد”.

لقد لخّصت كلمات (يونس توري) من (مالي) كل ما يمكن قوله إفريقياً وعربياً: “إن الاستعمار لا يزال جاثماً على رقابنا، وإن التبعية لا تزال تعشعش في طرائق معالجتنا لأمورنا الثقافية، ولعل هذا هو سبب الاشكالية الاجتماعية للمسرح في إفريقيا والوطن العربي”.

ومن هنا تبدو دعوة المطالبة بنظام ثقافي عالمي جديد دعوة علينا أن نحتفي بها، نحتضنها، ونعمل لأجلها بكل الطاقات. وعلينا في هذا الخصوص قطع شوطٍ لا بأس به على صعيد المسرح، وإن بدأ فردياً في اطار عدة مسرحيين (من المخرجين والمؤلفين من أصقاع مختلفة من الماء إلى الماء: دعوة (يوسف ادريس) “نحو مسرح مصري”، “مسرح عربي”، “مسرحية الفرافير”، دعوة المسرح الشعبي من (قاسم محمد)، إلى (سعد الله ونوس)، إلى (فواز الساجر)، إلى (عزالدين المدني) و(سمير العيادي)، إلى (سمير العصفوري)، إلى (يسري الجندي)، (ومحفوظ عبدالرحمن)، إلى (صقر الرشود)، إلى (فؤاد الشطي)، إلى (المنصف السويسي)، إلى (يوسف العاني)، إلى (أسعد فضة)، إلى (جلال خوري)، إلى (يعقوب الشدراوي)، إلى (عبدالكريم برشيد)، و(أحمد الطيب العلج)، إلى (الطيب الصديقي)، إلى (روجيه عساف) و(كرم مطاوع).. إلخ بصيغ متعددة مختلفة ولكنها مثل قوس قزح.

وإن وقعنا، ونحن ندلف إلى عالم الإستهلاك ومطالع العولمة وثورة المعلوماتية، أيضاً في اشكالية من نوع عربي في شأن (دراما شعبية) و(دراما أدبية)، وفي شأن فرجة فولكلورية أم معالجة عربية عصرية للتراث.. فلقد طُرح عربياً التعبير المسرحي الشعبي كإمكانية خلاصية ندية: هاكم تعابير تتجدد في:

السامر، البساط، الحلقة، المقهى، والسوق العربية، السرادق.. إلخ.

وصرنا إلى تنظيرات، أنضجها ما طرحه بعضنا العربي، مثل (عبدالكريم برشيد) و(روجيه عساف) و(قاسم محمد) وقبلهم (توفيق الحكيم).. إلخ. ولكن التجربة العملية ظلت محدودة، وتحت وطأة المنظور الغربي للمعمار المسرحي: جملة التجارب، فيما عدا القليل، تمت في مسارح على النمط الأوربي – ظل المسرح الرسمي على طراز العمارة الغربية، مما لا يسمح بتجذير الأشكال الشعبية – وحتى البنايات أو الأماكن التي تم فيها ادخال أشكال التعبير المسرحي التراثية بدت في حينها كتجربة نشاز: إما باحثه عن جمالية أو مبهرة سياحياً، أو ابتعدت عن الجمهور الذي بقيت دائماً بعيدة عنه!!

إذا عدنا إلى تجربة “الكوتيبا” الإفريقية – وهي شكل يوجد رديفه عربياً، مما ذكرنا من أنماط شعبية للفرجة المسرحية، فإننا لابد ان نستعيد ما قاله (بكري تراوريه): “لا يمكن دراسة المسرح الزنجي الإفريقي بمعزل عن الرقص والغناء، بمعنى أن الظاهرة المسرحية جزء من طقس احتفالي عام، وجماعي، ومرتجل، ومتجدد العطاء، لا يوجد ذلك النص المحدد الواضح، بل يوجد العمل المرتجل، يوجد القص، الرقص، الغناء، الانشاد، والرغبة الدائمة في اشراك الجمهور (الجماعة) في التلقي والعطاء”.

فماذا رأى جمهور مهرجان قرطاج الأول للفنون المسرحية في نوفمبر 1983م عبر تجربة “الكوتيبا”؟

لقد رأوا عرضاً غاصاً بالحياة اليومية الإفريقية، بطبولها وإيقاعاتها، بأقنعتها وأغانيها ورقصاتها، بناسها: الأنماط التي توجد في أية قرية في إفريقيا، بل وفي العالم العربي بأسره: رأوا حياة إفريقية، على خشبة مسرح، لا بل بينهم، في حيز المكان الذي يمكن أن يجتمع فيه الناس، في باح الدار، في ساحة القرية، في ميدان عام، في سرادق، في مقهى، في الشارع، في السوق.. لا يهم إلا التجمع الإنساني ليتشكل العرض.. ومن هنا فلا ضرورة لبناء مسرحي بالمعنى الأوربي، لا ضرورة لأجهزة إضاءة معقدة، أو هندسة ديكور، أو ملابس خاصة، أو.. إنه مسرح جماعي، يعتمد على سيناريو عام، ينشأ، ويتفق عليه من قبل الفريق المسرحي جماعياً، وينفذ جماعياً، ويشارك فيه الجميع من المؤدين إلى جانب إضافات المشاركة الجماعية من قبل الذين يأتون إلى مكان العرض: مكان تجمع الناس وارتجالاتهم وتدخلاتهم وتداخلهم.. إنه مسرح يذهب إلى الناس، ويأخذهم معه في تلافيق السياق المسرحي – حتى الأداء التمثيلي يتحول إلى شيء مختلف ومغاير لما نشاهده في شكل وبناء المسرح الإيطالي، الذي يعم أرجاء الوطن العربي وإفريقيا على السواء – إنه شكل يشبه لعبة الكوميديا “ديللارتي” والسيرك والابتهاج العام بأعياد الحصاد، إنه حياة لسريان الدم إلى القلب ومن القلب وإلى الجسم.

استطراداً، لابد أن نؤكد أن هذه التجربة الإفريقية لم تنشأ في فراغ ثقافي فني، بل جاءت كموقف، “رؤية”، ونهج يؤكد على وظيفة المسرح في البناء الاجتماعي والثقافي، وفي مواجهة (الوهم الذي زرعه الاستعمار فينا)، وتحدياً (للتبعية الثقافية)، التي أوقعت عالم بعد الاستعمار والفنان الإفريقي – والعربي – في حبائلها، فبات أسيرها.. التحرر من هذه التبعية واكتشاف شكل تعبيري متجذر في تراثنا، ولكنه يكون فاعلاً في الحاضر، هو السبيل لنهضة مسرحية حقيقية، لا في إفريقيا فقط، بل وفي الوطن العربي، وبلدان ما يعرف بالعالم النامي.

“الدراما الشعبية في مواجهة الدراما الأدبية وأسر قوالب التقاليد المسرحية الغربية” هو أول إشكال للمسرح الإفريقي – كما في المسرح العربي: ولكن لابد من إضاءة للتجربة، حتى نتمكن من الامساك بالخيوط، ذلك أن التجربة الأدبية للدراما الإفريقية أفرزت هي الأخرى إجابات طيبة، يمكن أن تقارن بالتجربة العربية، بل ويمكن أن ترفد بها، أو أن ترفدها بما يساعد الاثنتين على تخطي واقع الاضطراب والتشتت – فزمنياً وفكرياً يمكن نظر التجربتين، والتوصل إلى نتائج لم يهتم بها أهل المسرح العربي كثيراً، بينما جهلها المسرحيون الأفارقة: المسرح يكون في كل مكان وأي مكان.

(5)

مشكاة غربية ترى التراث “غير ناضج”، والمفهوم المغلوط للظاهرة المسرحية!

“رقاي السحرية، الآن، رميتها، وما بي من قوة سوى قوتي أنا، وما أوهنها.

لا تدعوني أقيم في هذه الجزيرة الجدباء، بل أعتقوني من قيودي.

الآن تعوزني الأرواح للتنفيذ والفن، للسحر.

إلا إذا أنقذتني صلاتكم، وهي شديدة النفاذ، حتى لتدرك الرحمة نفسها، وتصفح عن السيئات كلها.

فكما تودون غفراناً لذنوبكم، بسماحكم حرروني.

(شكسبير) / “العاصفة” / ترجمة: (جبرا ابراهيم جبرا)

خيار: (المسرح من التراث) أو (الصيغة الأوروبية للمسرح) وضعت المسرح في إفريقيا والعالم العربي في تيار الهيمنة الثقافية جبراً: معاينة التراث/الفولكلور من منطقة عليا، مما خلق دونية ثقافية متخلفة، بينما تكريس الصيغة الأوروبية هو قيد سهّل الانخراط في مسرح نخبوي صفوي، بعيد عن الجماهير، وبعيد عن تقاليد الفرجة الشعبية، وبعيد عن الذهنية الصانعة للتغيير وللمستقبل، بعيد عن تنمية الغد، ووضع المسرح في مكانة غير مكانه، في منأى عن العموم، وهذا عنى أن المسرح ظل – وربما يظل – هامشياً، غير مؤثر في حركة التغيير، كما ينبغي له، بل ولا يصل إلى المفاعلة الاجتماعية السوية، لكونه لا يزال بعيداً عن الناس – إذ لا مسرح بلا جمهوره، بمعنى التفاعل والتداخل والاندماج الحيوي.

هذه (الهيمنة الغربية) ينبغي التحرر منها لأجل انعتاق مسرحي حقيقي، يكتب (روجيه عساف): “إن التوهم الأول الذي أدخله وغذّاه الفكر الغربي الحديث، هو أن المسرح الغربي يستمد تكوينه من تطور طبيعي وحتمي للحياة الاجتماعية، من الأشكال الشعائرية البدائية إلى الأشكال الحضارية المعقلنة، عبر مسيرة تدفع المجتمع من “التخلف” إلى “التقدم”؛ فعندما يدعى الغربيون أن تاريخ المسرح يتواصل في الحضارة العالمية من انبثاق المسرح اليوناني إلى انبعاث النهضة الأوروبية، فإنهم يدعون حق تقويم الحضارات، وينصبون مسرحهم نموذجاً أصلياً محتذى في مجال وسائل التعبير الجمعي[26]“..

وهذا بالضط ما اعتنقه غالبية أهل المسرح في العالمين الإفريقي والعربي، إذ صرنا إلى معالجة (الظواهر المسرحية) و(التظاهرات قبل المسرحية)، من منطلقات النظرية الغربية.. لقد سلمنا بالفعل للمقولة الأوروبية: “إن فكرة سلالة الأشكال المسرحية تفترض أن تطور الأشكال التعبيرية يخضع لمنطق داخلي يقود طبيعياً الطقوس والشعائر القديمة إلى المسرح اليوناني، وهذا إلى الأوربي الكلاسيكي، ثم إلى مسرح الوعي الاجتماعي الحديث”. وفي اطار هذه الرؤية الوهمية، في العالم الثالث نجد أشكالاً مسرحية أولية، قد تكون مقدمات لمسرح “بلدي” جيد، إذا تم نموها التقدمي، فمن هذا المنظار، يحق لهذه الأشكال التمثيلية الشعبية (كالحكواتي مثلاً، أو صندوق الفرجة، أو المقامات، أو مجالس التعزية) الانتساب إلى عالم المسرح، بما فيها من احتمالات التطور؛ أي إن الشعوب التي ابتكرت هذه الأشكال، لم تتمكن من انماء طاقاتها الكامنة قبل بلوغها دائرة الثقافة “العالمية”[27].. هذه هي الهيمنة تماماً: “مبدأ عرقي يتيح للمصير “الإنسانوي” الأوربي حيازة المعيار لتقييم الصور الفنية المعبرة عن الوضع البشري[28]. هذه الفوقية والمعيارية – الهيمنة هي التي حدّت بمؤتمر مسرحي بريطاني في عام 1932م للتأكيد بأن “إفريقيا ليست لديها دراما محلية أصلية”!! بينما شهد في مقابل هذا عام 1980م صدور المسرحية الرابعة والثمانين – بالإنجليزية – من سلسلة المسرح الإفريقي.

وعرفت الحياة المسرحية للدول الناطقة بالإنجليزية أكثر من ستة وخمسين كاتباً مسرحياً إفريقياً، احتفلت بهم المسارح والجامعات[29]. لقد بات من المعترف به إفريقياً وعربياً أن النظرة إلى المسرح نظرة أوروبية تماماً، بل أن قضية كقضية اللغة في المسرح الإفريقي لا تزال قضية مصير، إذا نُظر إلى اللغات الإفريقية باعتبارها (وسائل تعبير لا تصلح إلا للمجتمعات الغارقة في التأخر والبدائية[30]، بينما الحقيقة هي “أن “التخلف”، الذي يلحظه المرء وهو ينظر إلى اللغات الإفريقية، لا مصدر له غير الاستعمار، إذ أن هذا النظام القائم أساساً على الحط من قدر الإنسان، لا يمكن أن يساعد أو يسمح بتطور التراث الإفريقي القومي للشعوب المستعمرة[31]“. واستكمالاً لهذا النزوع، غيّبت الدراما الشعبية الإفريقية غير المكتوبة بلغات المستعمر، (بلغات أوروبية)، رغماً عن كونها كتبت بلغات واسعة الانتشار – يقول اللغوي السنغالي (باتي داجان): “إن مسألة تعدد اللغات في إفريقيا ما هي إلا ذريعة واهية يستند وراءها البعض، فإفريقيا قارة بأكملها، ومن غير المعقول إلا يكون لها مثل أوربا لغاتها ولهجاتها، فالوحدة اللغوية في أوربا ليست أفضل منها في إفريقيا، وعدد الذين يتحدثون لغة “البانتو” يفوقون عدد الناطقين بالفرنسية، ولغات “السواحيلي واللنقالا والزولو” تشمل لهجات يمكن أن يتحدثها أكثر من مائة مليون نسمة، أي ما يعادل مرة ونصف عدد الذين يتحدثون الإيطالية أو الألمانية في العالم. وهناك أكثر من أربعين مليون شخص، أي ما يعادل تقريباً مجموعة سكان فرنسا، يتحدثون لغة الهوسا.

والحق أن عدداً لا يستهان به من سكان إفريقيا يتحدثون اثنتي عشرة لغة، يعرفها كل شخص بجانب لهجته الأم. وهذه اللغات، يمكن أن تكون لغات اتحاد في المجالات التعليمية والسياسية والإدارية، وتحل تدريجياً محل اللغات الأوروبية على الصعيد الداخلي[32]“، ولهذه اللغات بالضبط أهميتها في المسرح الشعبي الاحتفالي الشامل في إفريقيا.. وإذا ما كان المسرح العربي قد نجا من شراك المحنة اللسانية (على الرغم من أن البعض قد إعتبر استخدام العاميات فخاً إستعمارياً لتقويض اللغة الأم)، فلم يتم تجنيسه، أو يلجأ إلى (لغة ثالثة)، فيما وصف (سارتر) استخدام تيار الزنوجة للغة المستعمر، فإن المحنة عربياً تكمن في كيفية استقبالنا للمسرح الغربي؛ في فهمنا للمسرح ومكانته في حياتنا الاجتماعية، كتب (رئيف كرم): “فالمسرح اسم مشتق من “سرح”، وهو فعل ماضي، يدل على حركة المؤدين من ممثلين وراقصين ومغنيين وغيرهم، والاسم أرضية الحركة. الاسم في هذا المدلول متعارف عليه من الخاصة، وتقابله في اللغات الأوروبية مشتقات كلمة “الاسكينا” الإغريقية “Skene”.. وتدل الكلمة الإغريقية على “الإفريز”، الذي صعده الممثل الأول، ثم الممثل الثاني، فالثالث، بعد انفصالهم التدريجي عن الجوقة، مع ولادة المسرح الإغريقي في القرن الخامس قبل الميلاد.

أن يتسع مدلول كلمة “مسرح” في الثقافة العربية، ويشمل جميع الخبرات والنشاطات والتقنيات والأمكنة، التي تؤلف كلاً، يمكن أن نطلق عليه تسمية “مؤسسة” – (الكاتب، المخرج، الادارة، الممثلون، البناء.. إلخ)، فذلك يعني أن تسمية (الجزء) طغت على (الكل)، والجزء هنا أرضية تحرك المؤدين، وهي تسمى أيضاً بالخشبة (الترجمة العربية لكلمة “Palco” الإيطالية). فطغيان الجزء الخاص بالمؤدين على الكل، تركيز في موضعه، فهو يكشف دلالة هامة: المسرح كشكل تعبير غرس انطلاقاً من الخشبة (…) وهذا يعني بالضبط أن الحضور لم يكن أمامه إلا دور القبول بهذا الشكل التعبيري، ودور الجلوس في المقاعد، والاندهاش أمام فتحة الستار(…).

المسألة في العلاقة التي يقيمها الشكل التعبيري مع الحضور على مستوى أدوات العرض، والمكان، وتفاصيل سياق العرض، وغيرها من الأمور، التي تطرأ في المكان والزمان؛ وفي هذه العلاقة، يحتل الحضور مركز الثقل، ويلعب الدور الأساسي في تشكيل بنية العرض الشاملة[33].

هذه هي الاشكالية الخطيرة الأولى: إطلاق الخاص على الكل الشامل، بما عنى الغاء الجمهور.. يقول (رئيف كرم): “كس ذلك تماماً، فكلمة “Theatron” الإغريقية، التي تدل على المكان المعد للحضور، والذي اتسع لعدة آلاف منهم داخل المدرج الإغريقي، طغت على تسمية الكل، ومنها اشتقت تسمية أداة التعبير والمؤسسة في اللغات الأوروبية “Theatre, Teatro”، وهذا يعني أن الحضور احتل دوراً مركزياً في ولادة وتحولات أشكال المسرح[34]“. وهكذا يخلص (رئيف كرم) إلى “أن إشكالية ولادة مسرح عربي، تكمن في إيلائه دور الصدارة لشكل التعبير الجاهز، وأن الحضور جاهز، ليضاف إلى هذا الشكل قسراً، وتشهد على ذلك البنية المسرحية التي شيدت وفقاً للمعطيات الأوروبية، ثم جاءت الممارسة الطويلة لتكشف عن تحولاتها المحلية، مع احتلال فئات الحضور الشعبي لهذه الأماكن[35]“.

ومن جهة أخرى، لم تأخذ جهود التأصيل المسرحية قنواتها المثلى إلا في حيز ضيق للنظرية: “المضاهاة الجيدة عند (يوسف ادريس) للبطولي في مقابل التراجيدي عبر (عنترة) و(أوديب)، في شكل السامر الشعبي، في الحاكي / المقلد / المادح – في قالبنا المسرحي عند (توفيق الحكيم).. ولكن لا (الحكيم)، ولا (إدريس) توصلا إلى قالب مسرحي (وربما في هذا محمدة)، فـ (الحكيم) لم يكتب وصفته “وان آمنا بسلامتها” و(إدريس) لم يطور تجربة السامر في “الفرافير” في أعمال لاحقة.. بل جاء الجهد الأثقل والأكثر رصانة دائماً في شقين: النص الدرامي من جهة، والعرض المسرحي الشامل من جهة، بمعنى أنه كانت التجربة التأصيلية بعامة قد سارت في خطين: الخط الأول مثله تيار النص الدرامي (الأدبي)، المعوّل على صيغ تراثية، والخط الثاني تيار العرض الشعبي الشامل، المعول على الأشكال التراثية التقليدية للفرجة وأشكال الاحتفال الشعبي..

وهذان الخطان ظلا لفترة (وفقاً للمعطيات الأوروبية، ثم جاءت الممارسة الطويلة لتكشف عن تحولاتها المحلية)، ولكن ظلت أغلب الجهود “ترويضية”[36]، ثم استقامت مؤخراً معطيات المسرح من التراث: “المسرح من التراث هو” – يكتب الباحث التونسي (بلقاسم النصيري) – “تصور تكاملي لجميع العناصر المكونة للعرض، لاستيفاء مادة مسرحية منسجمة، تنطلق من: العرض الفني والاجتماعي للعرض المسرحي، مروراً بطرق تكوين الممثل، وطرق أدائه، وعلاقاته بشخصياته وجمهوره، إلى كيفية بناء المسرح في هندسته، وموقعه، وتقسماته الداخلية، وعلاقة الجمهور بهذا المسرح، باعتباره مكان تجمع تواجد وممارسة اجتماعية وفنية.

إن دراسة الفرجة والفنون السمعية والبصرية التقليدية، التي ما زلنا نباشرها إلى اليوم، تجعلنا نتساءل: كيف يكون المكان المسرحي التقليدي؟ ما هو هذا البناء الضخم الذي نجده في قلب المدن العصرية العربية والإفريقية؟ من هو الممثل[37]“، بمعنى آخر: ما هو المسرح والتمسرح ومكان التمسرح، ومن هم المتمسرحون؟

وتوجه (بلقاسم النصيري) ليس قادماً من فراغ، بل هو بلورة لتيار كامل في المغرب العربي، اعتمد على حد كبير على صيغ وأشكال الفرجة التقليدية، وفنون التعبير الشعبي المتوارثة، حتى صار إلى احتفالية وجمالية مسرحية ميزت (التجربة المغاربية) للمسرح العربي..

خطوط الالتقاء والتقارب تتنامى: شعبية / جماهيرية المسرح / تأصيله في الحياة الاجتماعية.. وهذا ليتم بشكل علمي – من وجهة نظر (رئيف كرم) – فلا بد أن يتقاطع مستويان كفيلان بدفع المسرح إلى احتلال موقعه في قلب الحياة الاجتماعية:

المستوى الأول: ضرورة غوص العاملين فيه في المحلية، وهذا يعني ضرورة استنباط عناصره من خلال قراءة مسرحية للخارج، وعلى جميع الأصعدة: اللغة، الحركات، المواضيع..إلخ.

والمستوى الثاني: ضرورة فرز أشكال تعبير موروثة، ما زالت فاعلة في هذا الخارج، مقدمة لإعادة بلورتها والتعامل معها كركيزة تنقل الحوار، في اللقاء المسرحي، إلى مستوى تتعادل فيه إمكانية المؤدين والحضور على التعامل مع دلالات هذا الشكل أو ذاك، وتتقلص فيه المسافة التي تباعد بين مشاكلة هؤلاء وأولئك[38].

بهذا النحو، نصير إلى معيارين أساسيين لصيغة المسرح من التراث / المسرح الشعبي:

المعيار الأول: استلهام الموروث الشعبي، ووضعه في سياقه الثقافي، الممتد منذ تخلقه، والمنتهي في الزمن الحاضر،

والمعيار الثاني: القيام بصياغة هذا الموروث الشعبي صياغة فنية، لا تطمس معالمه، ولا تفرغه من محتواه الرئيسي، في نفس الوقت الذي لا تقف به في لحظات زمنية لم يقف بها هو أصلاً من قبل[39].

وذات التجربة التأصيلية تشق طريقها في إفريقيا، وتكتشف لا (الطبل)، بل (روحه) الأثيل، الذي تقدم انطلاقاً منه (مسرحاً إفريقياً) يقول للغربيين: “أنتم تقولون لنا إنه ليس لدينا شكل فرجوي خاص.. نريد اقناعكم بالحجة المادية بأن إفريقيا لها ما تقدم لهذا العالم..”، وبهذه القناعة – الندية – التحدي، يواجه المسرح الإفريقي، والمسرح العربي، ويطالب بنظام ثقافي عالمي جديد، (المعيارية) فيه ليست للأوربي إطلاقاً.

وإذا ما عدنا مجدداً إلى نموذج “الكوتيبا”، والتي يعرفها القرويون و(الماليون) عموماً، وهي شكل فرجة ثري، متنوع، فإننا لابد أن نواجهه بما أسلفنا، كضرورة، بغية أن نتوصل، عبر التحليل، إلى ما يمكن بموجبه أن نرصد التجربة عموماً في إفريقيا، وأن نسترشد بها سبيلنا إلى تلافيف التجربة العربية، في مواجهة “المعاصرة”، وهي الاشكالية التي أدت إلى كثير من التخبط والتشدد والتعسف فيما يعني “التراث” فـ “الأصالة والمعاصرة إشكالية ثقافية عربية إفريقية ماثلة وإن كانت غير حقيقية، إذ لا تعارض بين الأصيل والمعاصر، إلا إذا فهمنا – للأسف – الأصيل بمعنى القديم!”. هل نخرج من جلودنا، أم نجدد ما هو فينا؟

(6)

نحو صناعة للمسرح

بعد عشرين سنة من العزلة، هل تتحقق للمسرح البديل / المغامرة الجماعية؟!

الذين شاهدوا عرض فرقة (المسرح الوطني المالي) بتونس، ضمن تظاهرة أيام قرطاج المسرحية (1983م)، كانوا قدموا لفرجة على عرض مسرحي بعامية إفريقية غير معروفة، بل وقدموا لمشاهدة فرقة غير معروفة، اسمها غريب وعجيب، هو “كوتيبا”، أي الحلزون الكبير.. ولكنه اسم علم دال وكبير المعنى من منظور الفرجة والفكر في المسرح. الكلمة تعني في لغة مالي (البومبارية): الاحتفال الراقص الدائري، الذي يبدأ بحركة بطيئة ملتفة كحلزون، سرعان ما يتنامى ايقاعها ويتصاعد إلى ذروة، ينتهي بعدها الحدث – الاحتفال – الفكر والتوصيل الدرامي.

قدمت الكوتيبا الإفريقية عملاً مسرحياً عنوانه “حيرة ريفية”، وهو عرض احتفالي شعبي لدراما كل يوم في إفريقيا، التي نكتشفها من جديد كل يوم. نص المسرحية – العرض تجمّع من ملاحظات معايشة الممثلين في الفرقة الوطنية المالية، وتشكّل جماعياً على يد (موسى مايغا)، والذي يلخص المسرحية قائلاً:

“”حيرة ريفية” هي حيرة الفلاحين من الإدارة. هي حكاية خبر بثه التلفزيون، وبثته الإذاعة، فالتقطه أهل القرية، يقول الخبر إنه تم إرسال موظف حكومي إلى القرية: بدأ اللغط وتفتقت شرائح على الأسئلة.. وطبيعي أن تأتي الأسئلة الحائرة من مشاغل الفلاحين: هل سيجيء بفرض التعليم على الأولاد – الفلاحون في (مالي) لا يريدون ذهاب أبنائهم إلى المدرسة، فالذهاب معناه ترك الأرض والقرية إلى المدينة، إلى المجهول، إلى قطع صلة بالانتاج الزراعي..

السؤال المحير الآخر يقول: هل القدوم لشراء المحصلة – محصلة الحصاد، والمعروف أن الدولة تريدة بأسعار متدنية؟ أم أن الموظف سيأتي لاستثمار الطاقة، والمتمثلة في العناية بالمحاصيل العمومية؟

هذه هي حيرة أهل القرية، التي نتطرق إليها، أولاً لتعرية هؤلاء الموظفين الذين يذهبون إلى الريف في بعض الأحيان للنزهة واستهلاك وتأزيم الأمور هناك، عوض القيام بدورهم في الاصلاح والبناء.

وبالمقابل، تقول المسرحية للقرويين إنه لا خوف ولا حيرة من موظف، ونفسر لهم المعنى من شراء الدولة محصول مزروعاتهم بسعر متدن، فنقول لهم إنها توزعها على مواطنيهم في مناطق أخرى، والبلاد لا تنتج مثلهم، بأسعار مناسبة في إطار عملها على توزيع الثروة الوطنية…إلخ”.

من واقع المسرحية الإفريقية في قرطاج، تنطرح الحيرة الإفريقية حيال الحيرة العربية. النص المسرحي مرتجل، تم جمعه من نقاشات لأعضاء الفريق المسرحي، ولكنه تكامل كنص سيناريو للعرض المسرحي، وهو لا يعول فقط على الكلمة كمسرح، بل يقف بجانب الكلمة على مقومات أخرى للعرض المسرحي، هي أساس الشكل الشعبي للكوتيبا. إنه نص لا يحتفظ بالتراث ولا يحنط التراث، إنه وليد الآن – الحاضر ومشكلاته – أقدامه في الجذور وفي الحاضر للتغيير والتنوير والتثوير. “حيّرة إفريقية” حيّرت الملتقى العربي بطرحها الأصيل المباشر، أي: التراث ليس قداسة بقدر ما هو دينامية متجددة، والحاضر هو حراك ديناميكي لأجل التغيير – بل جدته في قضية استلهام الأشكال الموروثة والطقوس.

عرض فرقة مالي كنص جد قريب، بالمضاهاة، إلى عالم (تشيخوف)، كما إنه يستعيد إلى الأذهان مسرحية “المفتش العام” لـ (جوجول). والعرض المسرحي فيه من (بريخت) الكثير، بل لنجزم أن عرض الكوتيبا هو “كوميديا ديلارتي” إفريقية تماماً، لحماً ودماً، عصباً ومعنى وعبارة[40]. ولكنها بذات الوقت إنسانية وعالمية التعاطف حيثما وجدت. حيرة ريفية غير منفصمة عن التراث الإفريقي، ولكنها حاضرة في الحاضر، وآتية في طرحها على مشكلات الريف الإفريقي وما يزخر به من مشاكل الإدارة وتحولات فترة الاستقلال. صورة الموظف الإداري التي ما تزال كريهة غير مرغوبة في الريف. وهي بطرحها لمجتمع بكامله في مواجهة للعرض المسرحي في نماذجه الحية. مسرح حلقة أدائي، وإيقاعات وطبول ورقص وهرج ومرح، وقضية تتشكل..

المهم في العرض المسرحي هو ذلك التناغم بين الطبل والرقص والقناع، والكلمة المرتجلة المباشرة الفورية الحية والحركة والاشارة: فرجة متكاملة مكتملة ومسرح يعج بالحركة والامتلاء والعبارة: لقد نجح (موسى مايغا) في المحافظة على أصول الذهنية الإفريقية – تقاليد الفرجة الإفريقية ومظاهر التجمع الريفي الإفريقي، وما يتم فيها، ناسجاً في عصبه ولحمته موضوعه المعاصر، دون قسر أو اقحام. وبذات الوقت، لم يغفل المسرحي الإفريقي عن كون التظاهرة والاحتفال تعني عرضاً مسرحياً فنياً، يحيا فيه ويشارك الناس الذين يتحلقون حول المؤدين ساعة يدق الطبل وتبدأ حياة أخرى بين الناس، هي من التمثيل والارتجال والتفنن.

أسلوب أداء متميز – من تخطر بباله الشخصية التراثية وشخوص الكوميديا المرتجلة العربية، بل والأوروبية – الإنسانية بعامة: إن إغراق العرض في محليته وفي معمعان ما يثقل جسده ويعكر باله، حقق له جانب المعادلة الآخر: العالمية.

في “حيّرة ريفية” تطل علينا قضية الأصالة والهوية والخصوصية، فكل مقومات العرض الإفريقي ليست مستوردة من تقاليد غريبة – وبذات الوقت فهي نظرياً – لا ترفض الانتساب إليها، تقنية وتجويداً وأسلوباً وأدوات تعبير: بعض المسرحيين العرب ناقشوا – في محاذاة العرض الإفريقي – الفرجة المسرحية العربية: مسرح الحكواتي، مسرح السامر، مسرح الحلقة، اللغة في المسرح، الفولكلور كمظهر درامي لا كمظهر سياحي ترفيهي – الجمالية المسرحية والدراما.. ذلك أن (موسى مايغا) وجماعته عرفوا كيف يتلاقح تراث الأسلاف بتراث الإنسان، وكيف يتوجب على القناع الإفريقي الشعائري أن يندمج في طقس الحياة المعاصرة، بتعبير على نحو مغاير، يجعل للآن تجدد الماضي، وتفجر المتغير: الآتي، هذا الروح المجنح، وهذه الحياة المسرحية الثرية، هي التي جعلت (الفرجة) تنداح عن دهشة وسؤال وحيرة: يبدأ عمل المسرح، ومع اكتمال القول تبدأ عملية الكشف، فالوعي، فالتغيير المقبل – عظة وعبرة – (وفي أنفسكم أفلا تبصرون)؟

الكوتيبا الإفريقية شكل بين عدة أشكال للتظاهرة المسرحية الاحتفال، استنبت بها فريق مسرحي عرضاً مسرحياً أصيلاً، تحققت به معادلة المسرح في التراث والتراث في الحاضر – معادلة التراث والمعاصرة، ودون أن تقع تحت طائلة المسرح الغربي كنموذج (وإن علق نظرياً في الذهن)، لقد وفقت في معادلة مقومات العرض المسرحي / الذهنية الإفريقية وتقاليد الفرجة، وفي معادلة النص / الحاضر / فلم نحس بأنها مادة حُشرت في قالب قسراً، ولم نحس بأن الأشكال التراثية قد أُفرغت من جماليتها ووظيفتها ورمزيتها ودلالاتها الاجتماعية، بل على النقيض، رأينا كيف ينهض التراث في المعاصرة، وينظر إلى المسرح في العالم، ككل بتسامح.

ولكن الكوتيبا لا تخرج – عربياً عن كونها حلقة سامر شعبي، ولقد وعى (مسرح الفلاحين) هذا.. بل فإن ما جمع في هذا الخصوص في أوائل الستينيات ليقف مُدللاً على مصداقية التوجه الذي صار إليه مسرح (نجيب سرور) و(شوقي عبدالحكيم) و(محمود دياب) و(بمستويات مختلفة)، وما صار من أطروحات (دياب / إدريس / الحكيم / حسن الجريتلي) حول الصيغة الشعبية.. ولكن العطب ظل – فيما نعتقده – في مسألة فهم وشكل العرض المسرحي ككل، ونظرية ما طرحه (إدريس) وطبّقة في “الفرافير”، وما تبعه، لم يتكامل أو لم يتم له ذلك التفاعل والتكامل، بينما بقيت جهود (محمود دياب) (بخاصة مسرحية “ليالي الحصاد”) بعيدة عن التنظير والتطبيق الجادين للصيغة العربية للمسرح.. “ليالي الحصاد” – بتطبيق التعبير الإفريقي – كوتيبا عربية، وكمثلها “الزوبعة”.

مسرحية “الفرافير” لـ (يوسف إدريس) وما صاحبها من انفلات نحو المسرح العربي، تظل كمسرحية يتيمة، فلا محاولات لاحقة لها من قبل (يوسف إدريس). وكذلك جهد (الحكيم) في عدة أعمال مسرحية حتى مؤلفه (قالبنا المسرحي)[41]، وما دعا إليه (الحكيم)، لم يعمل على تطبيقه إلا متأخراً في (عبثياته المسرحية): “يا طالع الشجرة”، “الطعام لكل فم”، “مصير صرصار”.. إلخ – فالدعوة إلى الحكواتي، المقلد، المادح، لم يستثمرها بما يعوّل عليه.. تبقى الدعوة وفضل الستينيات والسبعينيات في المضي بها إلى غاياتها قدر المستطاع خلال تجارب وتجاريب مسرحية، منبتة في جملة الأقطار العربية، على حدة في مصر، في سوريا، في لبنان، في المغرب، في تونس، في الجزائر، في العراق، في السودان، في الكويت أو في مسارح وتجارب. مسرح الشوك، مسرح الناس، مسرح الشارع، مسرح الحكواتي، المسرح التجريبي، مسرح الطليعة، مسرح الحلقة ومسرح السامر. ولحق بهذا كل جهد (علي الراعي) الطيب بالدعوة إلى المسرح الشعبي العربي.

هذه التجارب التي لمعت خلالها أسماء مخرجين ومؤلفين من أمثال (سمير العصفوري، كرم مطاوع، سعد أردش، منصف السويسي، الطيب الصديقي، قاسم محمد، إبراهيم جلال، سعد الله ونوس، محمود دياب، روجيه عساف، عزالدين المدني، صقر الرشود، عبدالكريم برشيد، ألفريد فرج، محفوظ عبدالرحمن، عبدالفتاح قلعجي، أحمد الطيب العلج، يعقوب شدراوي، جلال خوري، عبدالرحمن المناعي).. إلخ، لم تتفاعل مع بعضها البعض إلا في حدود ضيقة جداً، فهي قد أعطت إقتراحات إقليمية – مغربية، مصرية، سورية، عراقية.. ولكنها بالمقابل لم يعمل نقادها على إيجاد أرضية مشتركة للحوار من أجل قوس قزح تفاعلي عربي، وذلك على المستوى القومي حتى يذوب السامر والحكواتي والمداح وسلطان الطلبة والحلقة، “وهي أشكال تراثية للمسرح”، في بوتقة واحدة هي التي تزيح البديل الأوروبي، ففيها الأدبي والشعبي معاً.

الشيء الثاني هو الاهتمام الزائد بشكلانية المسرح، أي بما هو فرجة واحتفال، وذلك في غياب استكمال رؤية فكرية تجعل (الشكل في ذاته) تعبيراً عن روح الإنسان العربي وقضاياه.

ما العمل إذن؟

“يركز (عزالدين المدني) على المعالجة المسرحية، وكونها حتى الآن غير عربية، وخاضعة للأسر الأوربي، ويعني بالمعالجة الأدوات الفكرية التي بفضلها يتركب التأليف المسرحي تركيباً درامياً”. يتساءل: “هل كان للعرب باع في هذا الموضوع؟!” ويجيب بالإيجاب، بل ويدعو إلى المزيد من البحث والتقصي، ذلك أن التراث العربي الإسلامي لا يزال (كالأدغال الملتفة) مجهولاً.. ومن هذا الروح يدعو المدني، عبر المركز الثقافي الدولي بالحمامات في تونس، إلى ورشة عمل في الفنون الإسلامية والعربية والفنون المسرحية، لأجل “استخراج معنى الفضاء التشكيلي العربي، وبمعنى الفضاء المسرحي العربي.. إلخ”. هنا بيت القصيد. هنا مربط الفرس. هنا (بسطام) التي نبحث فيها عما نريد.

إن الجهود بصوب أرضية مشتركة للبحث، هي الشغل الشاغل في الثمانينيات:

  • يدعو (قاسم محمد) في العراق إلى مختبر مسرحي “يكشف عن الذات الفنية المبدعة الخاصة للتراث من جهة، وللمسرح والمسرحية العربية من جهة أخرى”، وبما “يجدد فهم الظاهرة المسرحية فيما وقوانين وممارسة أصيلة لا دخيلة”
  • وذات الدعوة متوفرة بحماسة عربية في أنحاء المغرب العربي، عبر (الصديقي)، (عبدالكريم برشيد) و(الطيب العلج)
  • والاحتفالية المسرحية الشاملة، عبر (عزالدين المدني) و(المنصف السويسي)..
  • تجارب عديدة متعددة متنوعة مختلفة في مصر في الماضي القريب، تُطرح حالياً، عبر “المسرح الجوال” و”المسرح الشعبي” المعروف، دعوات (د. علي الراعي) و(يوسف إدريس) و(توفيق الحكيم) و(شوقي عبدالحكيم) و(يسري الجندي) و(محفوظ عبدالرحمن)، الاهتمام بمسرح السرادق والممثل الشعبي – والدعوة مطروحة على صعيد الفكرة والرؤية / المبنى والعمارة المسرحية، التقنية الفنية للعرض والنص الأدبي الدرامي.

تراكم هذه الدعوات المسرحية، وهي كثيرة كثيرة، ومعزولة بعضها عن البعض، أفضى إلى بعض اهتمام قوم بها، أثمر في لقاءات أخيرة، أهمها لقاء قرطاج في نوفمبر 1983م، ولقاء الكويت في فبراير 1984م – ولعل لقاء الكويت الذي نظمه المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في شكل ندوة بعنوان “التراث العربي والمسرح” يعتبر من أكثر اللقاءات جدية حول القضية المطروحة، فقد شارك في الندوة نفر غير قليل من المهتمين بمسرح التراث وصيغة المسرح العربي كبديل للصيغة الأوروبية، وقدمت عدة أبحاث غاية في الأهمية حول الصيغ العديدة المطروحة على الساحة العربية:

  • التاريخ العربي والمسرح.
  • شكل المسرح العربي؛ محاولات البحث عن هوية متميزة لشكل المسرح العربي.
  • التراث الشعبي في المسرح العربي.
  • جذور درامية ومسرحية في التراث العربي.
  • اللغة العربية الفصحى والعروض المسرحية.

وقد انتهت الندوة إلى أهمية التراث العربي واستلهامه، وإلى: “أن قضية التراث في المسرح قد قامت بالفعل، وستظل قائمة تتحدى الفنانين، لإيجاد حلول لها، ولم يعد الأمر قضية “تراث”، بل أصبح كيفية الاستفادة من التراث بشكل يخدم تطور المسرح، ويساعد على التعبير الصحيح عن الشخصية العربية”.

وقد أبرزت الحوارات والمناقشات: “أن هناك محاولات ناجحة قد تمت حتى الآن، على امتداد الوطن العربي، في طريق ايجاد صيغة مسرحية تكون أقرب إلى الوجدان العربي من الأشكال المسرحية التقليدية الغربية”.

وأوصت “ندوة التراث العربي والمسرح”، ضمن ما أوصت، بالآتي:

  • العمل على تشجيع التواصل بين الحركات المسرحية العربية، بتبادل الزيارات للفرق المسرحية والفنانين والنصوص، والعودة إلى اقامة مهرجان عربي دائم للمسرح.
  • العمل على تجميع الدراسات والأبحاث التي تتصل بالمسرح العربي، المتناثرة في الجامعات العربية والأجنبية وأكاديميات الفنون، وإتاحتها للدارسين والمهتمين بالفنون المسرحية.
  • جمع ودراسة وتوثيق التراث الشعبي، وتوفيره أمام الباحثين والمبدعين.
  • انشاء سلسلة لنشر النصوص المسرحية العربية، وتقديمها قديمها وحديثها مع دراستها على أيدي المتخصصين.
  • دعوة المؤسسات المسرحية إلى تبني وتشجيع فكرة المختبرات المسرحية التي تبحث في حقل التجارب التراثية بهدف تطويرها وتسهيل مهماتها.
  • العمل على اقامة ندوات مسرحية متوالية، تصحبها بعض العروض المسرحية المختارة في العواصم العربية، لمتابعة قضايا المسرح، والنظر فيما يطرأ على الحركة المسرحية من مشاكل وتغييرات ومنجزات لمعالجة ما قد يظهر معوقات وصعوبات.
  • تشجيع استمرار مجلات المسرح.

الصيغة أو الخصيصة العربية للمسرح الآن تذهب إلى الترسيخ النظري للظاهرة، والافادة من التجارب التي انعزلت لأكثر من عقدين من الزمان. صحيح أن اللقاء بين المسرح والتراث (ليس عملاً سهلاً كما يتصوره البعض، “وقد تاجر البعض بالفعل في هذا المجال، وتم انتاج الكثير من الأعمال التجارية الهابطة”، بل يتطلب انصهاراً كاملاً للعناصر التراثية في القالب الدرامي، وأن تطويع تقنيات المسرح الحديث لاستيعاب المعطيات التراثية، بحيث يحدث التوازن المطلوب بين عناصر الفرجة والدراما، والفكر، هو ما يحتاج لجهد ومقدرة عظيمين”.

إن القضية لم تحسم بعد، وإن طرحت أسباب حسمها هنا وهناك.. المطلوب ليس التجذير فقط، وليس التنظير فقط، ولكن المزيد من تلك التجارب المسرحية الحية التي تصل الناس، وتقدم تلك المعادلة الصعبة: التراث / الحاضر، عبر فرجة معاصرة تشرك الجمهور في التظاهرة المسرحية استمتاعاً ووعياً وتفاعلاً.

هل ترانا نعيد اكتشاف تياراتنا الباطنة، ونجدد حيوية المسرح الشعبي العربي، في اطار الدراما والمسرح المعاصرين؟!

هل ترانا نحقق تلك الإضافة العربية للمسرح؟!

أهل المسرح أولى بالاجابة على السؤال، حتى لا يتحول إلى معضلة هاملتية.

هوامش : 

[1] نشرت هذه الدراسة في فصلية “الرولة”، مجلة فصلية تعنى بشؤون المسرح، الشارقة، الإمارات العربية المتحدة، السنة الثانية، العدد الأول، ربيع 1985م، في صيغتها البكر، وفي عجالة، لتوضيح وتبيين سعينا إلى مشروع مسرح “سوداني” لعموم أهل السودان، في تعددهم وتلوّنهم وأعراقهم وقبائلهم ولغاتهم ومشاربهم وأنهارهم وغاباتهم وصحاريهم، في هجيرهم وفي أسمارهم وفي إيقاعاتهم وأقنعتهم ومدائحهم وأسبارهم وطقوسهم، في طنابيرهم وكمبلاتهم، ضمن المدى العريض “للغابة والصحراء”. وها أنا، بعد ثلاثين سنة ونيف، أنظرها، فأضيف عليها المزيد من الشروحات والتعليقات والتساؤلات ليضمئن قلبي إلى مقاصدها وأهدافها والغاية من إعادة نشرها لمزيد من التحاور والتجديد والتجدد.

[2] عقدت اليونيسكو في بلغراد عام 1979م ملتقى تدارس ممارسات المسرح في العالمين العربي والآسيوي، وخرجت بمسمى “المسرح الثالث”.

[3] الدبلوماسية الثقافية مصطلح غربي يليّن من قسوة الاستعمار الثقافي، ويعمي العيون على حقيقة ما يمارسه الغرب، عبر مراكزه ومجالسه الثقافية في بلدان العالم الثالث، وتحضرني في خصوصه إذاعة الـ B.B.C.، والتي استعرضت مؤخراً مرور نصف قرن على المجالس الثقافية البريطانية في دول العالم الثالث على وجه الخصوص، واشارت إلى أنه، بعد استقلال هذه البلدان، صارت المجالس البريطانية (الثقافية) تقوم بترسيخ التقاليد البريطانية واللغة الإنجليزية.. ولا يخفى ما يستتر عبر المصطلح من أغراض سياسية.

[4] انظر: (علي شلش)، “الدراما الإفريقية”، دار المعارف (سلسلة كتابك 100)، القاهرة، 1979م، ص4 – والكتاب يعتبر المجهود العربي الأول (ولعله الأوحد) في شأن الدراما الإفريقية، ولقد عولّنا عليه كثيراً.

[5] نفسه، ص5.

[6] نفسه، ص7.

[7] نفسه، ص14.

[8] نفسه، ص14.

[9] نفسه، ص17.

[10] نفسه، ص23.

[11] انظر: (د. محمد عبدالحي)، “اقنعة القبيلة”، إدارة النشر الثقافي مصلحة الثقافة، الخرطوم، 1976م، ص115.

[12] علي شلش، المصدر نفسه، ص25.

[13] انظر: (شوقي خميس)، “مسرح دول العالم الثالث بين التراث والحداثة”، في مجلة المسرح، وزارة الثقافة، القاهرة، العدد 24، السنة الثانية، يوليو 1984م، ص3.

[14] يقول (سبودة باتنك): “بعد أن درست لست سنوات المسرح في جامعتنا المحلية، اكتشفت أن ما درسناه مما كتبه الغربيون وُجد معنا في قرانا الهندية قبل يولد آباء هؤلاء المنظرين. لقد وجدت (بهارات موني ناتيا) (500 سنة قبل الميلاد) وهي مسرح كامل، دليل مرجعي غير معروف للعالم، بينما غدا (استانسلافسكي بريخت) ألفبائية المسرح التي نبدأ من عندها تعلم الدراما”. انظر: “من كرسي عاشق للمسرح”، مجموعة مقالات عن المسرح، (د. أسيش غوسوامي)، بليغوريا أناندا سابها، الهند، د.ت.

[15] (علي شلش)، المصدر نفسه، ص7.

[16] نفسه، ص22.

[17] نفسه، ص23.

[18] (ليو بولد سيدار سنجو): “شاكا”: قصيدة درامية في عدة أصوات، إلى شهداء البانتو في جنوب إفريقيا – انظر (محمد عبدالحي)، المصدر نفسه، ص53 وما بعدها – وكل ترجمات (سنجور) الواردة هنا منها.

[19] انظر: (د. يوسف الياس)، “مقدمة لدراسة الأدب الإفريقي المعاصر”، إدارة النشر الثقافي مصلحة الثقافة، الخرطوم، 1978م.

[20] منذ “اجتماع باندونج” في عام 1956م، وثقافات ما يعرف بمجتمعات الدول النامية (العالم الثالث) تعيش حالات من الانبعاث، تمرق من الملمات القديمة، ومن التبعية، إلى صناعة التاريخ واللغات الذاتية المميزة، بحثاً عن الجذور والأصول.. هذا الانبعاث هو في صيرورته الحدث التاريخي المتكامل، لا الموقف الأيديولوجي المجرد.. وإن كان هذا الانبعاث يختلف عما شهدته أوروبا من بعث للقوميات، إلا انه يقف لدى حدود الثقافة القومية – يسميه المفكر العربي (أنور عبدالملك) (Nationalitarisme) – فهو يأتي بالتراث في المعاصرة، ويقوم إلى الثقافات الوطنية صياغة، وينهض ضد الثقافة الغربية كفاعل، ولا يقبل لثقافاته أن تكون منفعلة كسوق للمنتج الرأسمالي، ويبرز عبرها القيم المحلية.

عربياً، وبخاصة بعد الحرب العالمية الثانية، تبرز الثقافة العربية الجديدة مجاهدة، على إثر فترة التجديد، للمواجهة الشرسة مع الاستعمار.. وبفلاح ثورة يوليو العربية في مصر، وما تبعها من رياح الاستقلال والعروبة، تبرز الآفاق الرحبة للمد القومي والوطني التقدمي.. وتتسارع عملية تشكيل تيارات الثقافات الوطنية التقدمية هنا وهناك في انحاء الوطن العربي، بصوب ثقافة وطنية وعربية متجددة تقدمية.. ولكن الواقع يقل عن الطموح ويفتر ازاء معوقات، بعضها من تركة الاستعمار وثقافته التي غرست التنابذ والشتات، وبعضها مرده إلى الذهنية الضبابية التي لم تتضح بعد ولم تتلخلص من المؤثرات الغربية – ظل قطاع كبير من المثقفين والمفكرين حبيس الذهنية الأوربية، وما تتضمنه من دونية للثقافة القومية/الوطنية.. وظلت الثقافات المحلية تحت مظلة الاقليمية والتنابذ، والذي رسخته الذهنية الحاكمة، حيث لا تزال السياسة تابعة في كثير البلدان النامية (وضمنها العربية) – ورغماً عن طموحات باندونج، والمد القومي العروبي، ومحاولات الوحدة العربية، ظلت الثقافة مستغلة موبوءة بالتبعية، مما يؤكد على عدم الاستقلال، وعدم التخلص من تبعات الاستعمار ومخلفاته، إذ ظل الاستقلال السياسي فاقداً لكبير قيمته، لما ترزح فيه المجتمعات من واقع تابع اقتصادياً وتعليمياً وثقافياً – بدايات التجديد العربية منذ اوائل هذا القرن ظلت تابعة/هجينة، ولم تفلح في التكون الندي للثقافات الأُخر، ولا يزال المثقف والمؤسسة الثقافية الرسمية تابعين متعتمدين على الآخر، والاتكاء على الآخر يسلب الحرية والاستقلالية، ولا يفسح المجال لمفاعلة سوية نظيرية. ولكن السؤال هو: ماذا عن ذلك الذي تحت الرماد؟ ذلك التراث الذي شقّ طريقاً مغايراً للنهج الأوروبي، وذهب إلى مشابهة الواقع والتعبير عنه؟ ذلك الذي هو الأصل لا الفرع؟ الجلذر لا المأخوذ من الآخر أو ذلك الذي أتى به الآخرون عنوة وعن قصدٍ. يجب أن نفهم أننا في عالم الجنوب والشرق يجب على تمثيلنا وأدائنا أن يشابها مع غنائنا وحلقات ذكرنا الصوفية ورقصاتنا ومجالس أسمارنا وأفراحنا وأتراحنا، وأن نلتقي بها في منطقةٍ منتقاةٍ متخيرةٍ وسطى متجددة تفاعلية دائماً.

[21] انظر (علي شلش)، “الدراما الإفريقية”، دار المعارف، القاهرة، 1979م.

[22] (محمد الحبيب مصدق)، حوار مع رئيس دائرة المسرح بمالي – في نشرة المسرح الوطني التونسي لمهرجان قرطاج المسرحي الأول، تونس، العدد 8، الاثنين 14 نوفمبر 1983، ص3.

[23] إن العلبة الإيطالية – شكل المسرح الأوروبي، لا يوجد في المعمار العربي الآسيوي، وبالتالي ينعدم وجود المكان حيث اللعبة المسرحية ما يعني موت المسرح الأوروبي في العالم الثالث، في معنى من المعاني لعدم وجود المكان الأوروبي.

[24] (موريس سونار سنجور)، ندوة الانتاج المسرحي، الجلسة الثالثة، الخميس 10 نوفمبر 1983م. وانظر نشرة قرطاج العدد 6، السبت 12 نوفمبر 1983م.

[25] انظر يوسف إلياس، مقدمة لدراسة الأدب الإفريقي المعاصر، إدارة النشر، جامعة الخرطوم، الخرطوم، 1978م.

[26] (روجيه عساف)، “مسألة فن التمثيل في المجتمع الإسلامي” في: مواقف 46 / ربيع 1983م، ص64 وما بعدها، وهي دراسة جديرة بالقراءة والمراجعة لأهميتها القصوى، إذ تكتمل بها حلقة نظرية جيدة بطروحات (عبدالكريم برشيد)، (المغرب) حول الاحتفالية المسرحية بصوب تصور مستقبلي للمسرح العربي.

[27] نفسه، وفي هذا التيار انخرط، نفر غير قليل من نقدة المسرح.

[28] نفسه.

[29] انظر: “موسوعة ماكجروهيل للدراما العالمية” (بالإنجليزية) المجلد الأول، “الدراما الإفريقية” حول: المرح الإفريقي، ص22 وما بعدها. هي كتابة لا تنقصها الرصانة، بل ولا ينقصها العمق.. وانظر أيضاً: (يوسف إلياس)، “مقدمة لدراسة الأدب الإفريقي المعاصر”: نفسه، ص53، وما بعدها.

[30] (يوسف إلياس): نفسه، ص43.

[31] نفسه، ص43.

[32] نفسه، ص44-45.

[33] (رئيف كرم): “في المسرح ومكانته في حياتنا الاجتماعية” – في الفكر العربي / 14، السنة الثانية، مارس / إبريل 1980م، ص28 وما بعدها. والدراسة تستحق التأمل رغم تحفظاتي عليها.

[34] مرجع 12 نفسه، ص34.

[35] انظر: (رئيف كرم)، نفسه. وانظر أيضاً: “ملف المسرح والتراث”، في مجلة المسرح، (القاهرة)، عدد 24 نوفمبر 1983م، ص5.

[36] (بلقاسم النصيري)، “المسرح والتراث”، في (نشرة) أيام قرطاج المسرحية، عدد28، الاثنين 14 نوفمبر 1983م، ص5، ويمكن هنا القراءة تجربة (بلبل) و(قلعجي) في سوريا أيضاً.

[37] (رئيف كرم)، نفسه، ص40.

[38] (حسن عطية)، “المسرح الشعبي: المفهوم المطلوب والموروث”، في: مجلة المسرح: المصدر نفسه: ص64.

[39] (يونس توري)، في “نشرة”، قرطاج: المصدر نفسه، ص2.

[40] لاحظوا كيف تسمي أوروبا الأشياء بغير أسمائها فنتبعها ونحن لها قابلون.

[41] يجب ملاحظة أن (الحكيم) قد ذهب إلى (قالب) / شكل / خصوصية. مما يعني أنه – رغم أدبية مسرحياته – قد قصد إلى ميزة / خصوصية / بصمة / صيغة، غير القالب الأوروبي الأوسطي، فلقد أشار إلى النبع دون أن يسترسل في صياغات المصب.

د.يوسف عيدابي

خاص بموقع الهيئة العربية للمسرح

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش